قضايا

حد وحقيقة الفيلسوف

ميثم الجنابيلقد دفع الدكتور فوزي الهيتي قضية للنقاش تتناول كلمة ووصف "الفيلسوف" في الثقافة العربية الحالية تحت عنوان (قضية للحوار: هل نحن فلاسفة!). وهي قضية فكرية ثقافة وعلمية اكثر مما هي قضية فلسفية كبرى. لكنها فلسفية ايضا. وسوف اكتفي ببعض الملاحظات دول الدخول في تفاصيل تتناول هذه الاشكالية على امتداد تاريخ الفلسفة وتنوع الثقافات. فكلمة الفيلسوف هي ملازمة للابداع والروماني والمسيحية القروسطية والثقافة العربية الاسلامية. بينما لا تشكل معضلة سواء بالاسم واللقب والمعنى بالنسبة للثقافة الصينية والهندية وغيرها.

• ان القضية المطروحة للحوار ليست "هل نحن فلاسفة!" (ولماذا علامة تعجب وليس استفهام؟) بل المقصود كما افهم منها هو ماهية الفيلسوف أو حده وحقيقته في الثقافة العربية الحديثة. وعلى من يمكن ان تطلق كلمة "فيلسوف" بمعناها الفعلي الدقيق.

• إشكالية الأسماء والصفات. ان انعدام الدقة في التعبير والأوصاف والأسماء في الثقافة العربية الحديثة يعكس أولا وقبل كل شيء انعدام أو ضعف الرؤية العميقة والدقيقة. وبالتالي ضعف أو تحلل التفكير المنطقي في الكلمة والعبارة، مع ما يترتب عليه أحيانا من سخف في التقييم والتعميم والتدقيق والتحقيق تجاه إطلاق الأوصاف والأسماء. أما ما يتعلق منه بالعبارة والمعنى والمنطق فهي أمور مثيرة أحيانا للاشمئزاز والتقزز. ويكفي المرء بالنظر إلى إطلاق كلمة "مفكر" على كل من هب ودب. واغلب هؤلاء "المفكرون" جهلة وأميون بالمعنى المعرفي والعلمي أو في أفضل الأحوال أنصاف مثقفين. وهذا أتعس مما قبله. ولكنها حالة مقبولة بمعايير الثقافة السائدة. وهي ثقافة عوام من حيث الجوهر، اي ثقافة صحافة مبتذلة ومأجورة أو متحزبة.

• ان الفكر العربي الحديث والذهنية الثقافية العربية المعاصرة يتسمان بقدر كبير من الجهل والتخلف والتطفل. والسبب الجوهري وراء ذلك يكمن في غياب أو ضعف المناهج العلمية (المدرسية والجامعية). إضافة إلى حالة الانكسار التاريخي للعالم العربي وانقطاع تقاليده الثقافية العريقة بأثر انمحاق مراكزه الثقافية السياسية بأثر الغزو المغولي التتري والهيمنة التركية العثمانية لاحقا. بحيث أدى إلى جمود وموت العالم العربي وروحه الثقافي على امتداد أكثر من سبعة قرون (منذ سقوط بغداد في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وحتى حصول العالم العربي على دوله الهشة والرثة والمجزأة بعد سقوط العثمانية واستبدالها بالهيمنة الأوربية الكولونيالية ومركزيتها الثقافية بأثر الحرب "العالمية" الأولى). بمعنى ان الفكر والتفكير العربي الحديث والمعاصر كان محاصرا بين انقطاع تاريخي ثقافي ذاتي وتصحر ثقافي مريع من جهة، وهيمنة سياسية ثقافية جديدة من جهة أخرى. الأمر الذي كان يصعب معه صعود فكر فلسفي علمي ومنطقي ذاتي. من هنا سيادة التقليد للفكر الأوربي ومدارسه الفلسفية من جهة، والاهتمام المفرط بالصيغ السياسية للفكر الفلسفي. الأمر الذي أدى إلى خواء الاثنين معا وغلبة التقليد عليهما. وهو أمر جلي في انتشار الفلسفات العقائدية الثورية من جهة، وانتشار التقليد الفج لمختلف المدارس الفلسفية. والأولى كانت مميزة للمشرق العربي، والثانية لمصر والمغرب العربي. وترتب على ذلك من حيث الجوهر انعدام إمكانية ظهور فلسفة أو فلسفات عربية مستقلة وتلقائية في تناول إشكاليات الوجود العربي التاريخي ووضع الحلول النظرية لها.

• ان اغلب الإشكاليات المتعلقة بقضية الأسماء والصفات المتعلقة بالفلسفة وحملتها في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة ينحدر من تراكم المواقف السلبية والسيئة من الفلسفة والفلاسفة. بحيث وصل الأمر بالنسبة للوعي العادي (العوام، والخواص أحيانا) إلى ان الفلسفة لا تشبع من جوع ولا توفر الخبز! وليست هذه الحصيلة أو "الخاتمة" الغبية للموقف من الفلسفة والفلاسفة سوى النتيجة المترتبة على الحالة الذهنية للعوام والخواص في العالم العربي الحديث، وانحدارها صوب مستنقع "التنظير" البليد للثقافة نفسها.

• ان لهذه المواقف السيئة من الفلسفة تقاليدها القديمة في الثقافة العربية الإسلامية. وهي ظاهرة ثقافية ومعرفية ودينية وسياسية خاصة لا مجال لتناولها بإسهاب. واكتفي بما له علاقة بالاسم والوصف. فقد عرفت الثقافة الإسلامية النظرية أربعة فنون أو اختصاصات كبرى هي الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف. وبالتالي، فان إبراز وإفراز "الفلسفة" بهذه الصيغة كانت تتمثل ظاهرة معقدة ومتناقضة، لكنها كانت تتسم بخصوصية التطور الثقافي العربي الاسلامي. وقد عانى الفلاسفة المسلمون من هذا الفصم والانفصام المعرفي الثقافي وليس المعرفي النظري. من هنا يمكن فهم الاتهام النقدي تجاههم حتى من قبل مفكري (فلاسفة) الثقافة الإسلامية التي ظهرت وتطورت ضمن مسار المعارك السياسية والفكرية الهائلة للقرنين الأولين من تاريخ الثقافة والخلافة. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقف الشهرستاني وابن خلدون وغيرهم. (وقد تناولت هذه القضية بإسهاب وتحليل معمق ومتعدد الجوانب في كتابي "علم الملل والنحل – تقاليد الأحكام والتقييم"، وفي كتابي "الحضارة الإسلامية- روح الاعتدال واليقين"). لقد كان هذا نقدا وتقيما ثقافيا وليس علميا. لكن الأمر يختلف بالنسبة للفرق الإسلامية (علم الكلام) والفقه. فقد كان الصراع بين فلسفة الفلاسفة وكلام المتكلمين هو صراع فكري بين نوعين من التفلسف النظري والعملي. ففي علم الكلام وفرقه هناك كثرة هائلة من الفلاسفة بالمعنى وليس بالاسم. وحقيقة الفلسفة معنى ومنظومة ومنهج. فالجاحظ والقاضي عبد الجبار بين المعتزلة، والباقلاني والجويني والغزالي هم "فلاسفة" من حيث الشكل والمضمون والتأسيس والغاية. لكنهم فلاسفة من نمط آخر، جرى الإبقاء عليهم ضمن تحديد علم الكلام وليس ضمن "الفلسفة" بالمعنى الإغريقي. والفرق بينهما ان الفلسفة الإغريقية منطقية ودنيوية ولا علاقة لها بالنصوص "المقدسة" و"الوحي الإلهي"، ولا تعاني من إشكاليات المعقول والمنقول، والدين والدنيا، والرواية والدراية، واللاهوت والفلسفة، والعقل والإيمان وما شابه ذلك من قضايا فكرية ثقافية وليست منطقية بحد ذاتها. وبالتالي، فان الخلل في تحديد الاسم والوصف هنا هو قضية ثقافية بحت. وليس إلا التنافس بينهما بمعايير الفكرة(الدينية) والأسلوب هو الذي أجج الخلاف التاريخي بينهما. كما انه تأجيج لابد منه في ظل هيمنة الفكرة الدينية وتقاليد العقائد الكبرى وقواعد الإيمان والعقائد. ومع ذلك كانت الثقافة الإسلامية أوسع من ان يجري الحديث فيها عن هذا التناقض والتضاد والتعارض. فقد كان الخلاف الجوهري بين الفلسفة و"التفكير الاسلامي" صفة مميزة وملازمة للتيارات السنية بشكل عام والحنبلية بشكل خاص. اذ لا نعثر على فقيه أو أصولي أو متكلم من بين التيارات السنية إلا وتشدد أكثر من أسلافه في ذم الفلسفة والفلاسفة. وحتى الإمام الغزالي الذي تميز بذهنية فلسفية نقدية قبل انتقاله إلى التصوف قد "حارب" الفلسفة بشدة وعنف لا مثيل له (وقد حللت كل هذه الإشكاليات العميقة والدفينة لهذه الحالة في المجلدين الأول والثالث من كتابي "التآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي عند الغزالي"). غير ان هذه المحاربة لم تكن في الواقع سوى الصيغة النقدية الفلسفية تجاه الفلسفة الإسلامية بشكل عام والسينوية بشكل خاص. وقد لقفت الثقافة الإسلامية اللاحقة هذه الحالة وجرى وضعها في عبارة مفارقة وظريفة تقول "ان الغزالي أمرضه الشفاء". والمقصود هنا كتاب ابن سينا "الشفاء". واستمرت هذه الحالة السيئة حتى الآن. فالفلسفة بالنسبة للتيار السني هي زندقة وهرطقة وكفر والحاد وعشرات من الأوصاف القبيحة. بينما اختلف التشيع في موقفه من الفلسفة. فالتشيع هو فلسفة أو فلسفات متنوعة وخاصة سواء بالنسبة لغنوص الإمامية وعقلانياتها أيضا كما نراه عند صدر الدين الشيرازي (احد أعظم بقايا الفلسفة الإسلامية المتأخرة) وفلسفة الإسماعيلية المتنوعة ومثالها في مؤلفات القاضي النعمان، والزيدية في مختلف شخصياتها الكبرى. من هنا اثر هذه التقاليد في "التخوف" من الفلسفة والفلاسفة والنظر إليهم باعتبارهم مصدر الشقاق والخلاف والدمار والإلحاد وما شابه ذلك من أوصاف قبيحة وغبية. كما أنها مؤشر على تلاشي الفكرة العقلانية، وهيمنة النظم السياسية الاستبدادية، وبقايا الدين الخرفة، وهيمنة فكرة الأصول الميتة في الوعي والتقاليد النظرية والعملية على السواء.

• وفي هذا يكمن احد الأسباب الجوهرية في كون الثقافة العربية المعاصرة ليست علمية وليست فلسفية. اذ لا يمكن للعقلانية والنزعة العلمية ان تسيطر أو بصورة أدق ان تحيى وتنعش الذهنية العقلية والعقلانية والنزعة الإنسانية دون الفلسفة والتفلسف النظري والعملي على السواء. وليس مصادفة ان ينحدر اغلب "الفلاسفة" العرب في أواخر حياتهم إلى شخصيات مثيرة للاستغراب والتعجب والاستهجان والتأسي! كما نراه على سبيل المثال في شخصية محمد عابد الجابري وكتاباته الأخيرة في المجلات والصحف السعودية التي نشمّ منها رائحة الإطراء المتملق للفكر الحنبلي وبالاخص ابن تيمية. (وقد كتبت أكثر من مقال نقدي عنه بهذا الصدد، وخصوصا فيما يتعلق بإشكالية الفكرة الفلسفية وعي الذات التاريخي، وفكرة الزمن والتاريخ الثقافي. رغم إنني اعتبره الفيلسوف شبه الوحيد في الفكر العربي الحديث والمعاصر. وسوف أفسر هذا الموقف لاحقا في هذا المقال). كما يمكن رؤيته على مثال الطيب تيزيني وانضمامه المبطن وغير المباشر إلى جانب السلفيات والقوى التكفيرية في الصراع ضد "نظام الأسد"، أو على مثال غليون صاحب كتاب "اغتيال العقل"، الذي تلذذ "بزعامة" "الثورة" وتحوله إلى العوبة بيد فرنسا والسعودية وقطر، ووقوفه إلى جانب قوى الإرهاب والسلفيات المتحجرة والإرهابية إلى ان جرى لفظه ورميه في مزبلة الثقافة. ولعله جسّد في شخصه ومثاله نموذجا "حيا" لاغتيال العقل. (مع ان الكتاب لا علاقة له بالعقل باستثناء طنطنة العبارة. وهو مجرد تلفيق وتلزيق لاختلاس "معرفي" مترجم ومنمق لبعض المقالات والأبحاث والكتب الفرنسية. وهو أمر جلي في اختلاف أسلوب العبارة والتحليل. بينما الفكر الأصيل، والفلسفي بشكل خاص له أسلوبه، هو عين شخصيته وتجاربه الفكرية واجتهاده النظري).

• فيما يتعلق بتحديد ماهية الفيلسوف، فهناك مواقف ومعايير مختلفة. فالموقف القائل بان الفيلسوف هو كل من يهتم بالفلسفة وقضياها وتاريخها أو ممن أنهى دراسته في مجال العلم الفلسفي واختصاصاته، لا يفي بالغرض. كما انه ليس دقيقا. فالفلسفة علم خاص ومتميز. ومن الناحية التاريخية كانت الفلسفة حبا للحكمة وأمّا للعلوم. وهو تحديد له قيمته التاريخية والعلمية. وما زالت الفلسفة تحتوي على قدر معين من صدى هذه الوحدة الجوهرية في مصدرية الفكرة الفلسفية والفلسفة وعلومها. وشأن كل علم تاريخي ثقافي فانه يحتوي على فنون ذاتية وتقييم يتعلق بحملتها والمدافعين عنها والمؤيدين لها والمبدعين فيها. وبالتالي يمكننا القول عن مؤيد للفلسفة بشخصية الأتباع والمقلدين، بما في ذلك الشخصيات المرموقة منها، وهناك محترفون في تدريسها ونشرها. وهناك من يبحث في تاريخها وفنونها، اي أولئك المتخصصين في ميدان العلوم الفلسفية. وهناك من يتطفل عليها. وهؤلاء جميعا ينتمون إلى عالم الفلسفة ولكننا لا يمكن إطلاق كلمة الفيلسوف عليهم جميعا. وإذا جرى إطلاق هذه الكلمة أو الاسم عليهم فهو من باب المجاز أو التقريب أو الاعتقاد الشخصي. أما حقيقة الفيلسوف الأصيل فهي اكبر وأوسع من كل هذه الأوصاف. وعموما يمكننا القول، بان هناك فيلسوف أصيل وآخر يلبس لبوسهم ويسعى لما تسعى إليه الفلسفة، كما ان هناك فيلسوف مزيف وثالث متطفل، كما هو الحال بالنسبة لكافة الاختصاصات العلمية (الاجتماعية أو الإنسانية). فهناك فيلسوف في علم الاجتماع وعالم اجتماعي وباحث اجتماعي ومتطفل وما إلى ذلك. وفي الشعر نقول هناك شاعر (فحل) وآخر شويعر وثالث شعرور(على وزن بعرور).

• ان الفيلسوف الأصيل من وجهة نظري هو ذاك الذي يتميز بمنهجه الخاص وأسلوبه المتميز في تحقيقه بمنظومة فكرية. وما عدا ذلك فهو متبع أو مؤيد أو مقلد. وهذا لا ينفي ان يكون بين المتبع والمؤيد شخصيات فكرية كبيرة، ولكنهم ليسوا فلاسفة بالمعنى الدقيق. انه يمكن ان يكون باحثا علميا كبيرا، ودارسا متعمقا، وأيديولوجي عملي وما إلى ذلك. من هنا لا ينبغي إطلاق كلمة الفيلسوف على شخصيات مثل حسين مروة والطيب تيزيني وعبد الله العروي وياسين خليل وحسام الالوسي ومدني صالح وأمثالهم. وينطبق هذا على عشرات بل مئات الشخصيات الفكرية العربية التي هي اكبر وأعمق وأوسع في إبداعهم الفكري ممن جرت الإشارة إليهم في المقال. وقد تناولت في كتابي الذي سيصدر قريبا بأربعة أجزاء تحت عنوان (تحليل ونقد الفكر العربي الحديث والمعاصر) شخصيات وتيارات الفكر العربي بمختلف مدارسه وحصيلته النهائية. وهو كتاب فلسفي صرف يتناول إشكاليات وعي الذات العربي القومي والثقافي والسياسي والفني وما إلى ذلك من جوانب أخرى. انه ليس تاريخا للفكر.

• ان عبارة "الفكر العربي المعاصر" أو القديم وما شابه ذلك لا خلل فيها. فالفلسفة جزء من الإبداع الفكري. غير ان الإشارة الخاصة بها ضرورية. أما صعوبة التطبع عليها بما في ذلك الحديث عن الفلسفة العربية الحديثة والمعاصرة مقارنة بقولنا "الفلسفة الإسلامية" فهو ناتج من بقايا التخوف التهيب والازدراء تجاه الفلسفة بحد ذاتها بوصفه بقايا التخلف الفكري والثقافي والعلمي. ولهذا عادة ما تنزوي هذه الكلمة والاسم والوصف في خبايا الروح الشخصي على أمل ان ينمو الوعي الفلسفي مع مرور الزمن ومن يدرك قيمة الفلسفة التي لا يمكن بدونها تحقيق التقدم الاجتماعي والثقافي والعلمي. لهذا لا يتجرأ الوعي التحليلي والنقدي ومناهج التقييم في إطلاق كلمة "الفيلسوف" على من يستحقها بالفعل. فمن وجهة نظري، ان الفلاسفة العرب في العصر الحديث يتركزون في تيارين الأول وهو تيار الفكرة القومية، والثاني هو التيار الاسلامي. أما التيارات الدنيوية (باستثناء الجابري) فهي تقليدية سواء كانت ماركسية أو وضعية أو بنيوية أو شخصانية أو تفكيكية وكثير غيرها. أنها مجرد ألعاب أطفال لا علاقة لها بحقيقة الفلسفة بوصفها بحثا عن الحلول النظرية لإشكاليات الواقع التاريخية ورؤية آفاقها، أي ضرورة طابعها التلقائي والثقافي الذاتي. ويمكني هنا التدليل على ذلك بمثال شخصي يتعلق بإنتاجي الفكري والفلسفي وتقييمه. ففي روسيا وجامعاتها ومحافلها العلمية عادة ما يطلقون علي ألقاب وأوصاف متنوعة مثل "العقل المستنير" و"الفيلسوف الكبير" وأحد أعظم فلاسفة العصر الحديث"وغيرها من الأوصاف. بل ان رئيس معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الروسية عادة ما يفتتح جلسات المؤتمرات التي اشترك فيها (على قلتها، لأنني لا أجد فيها ما ينفع، على الأقل بالنسبة لي) "إذا أردتم مشاهدة فيلسوف كلاسيكي بحجم عظماء الفلاسفة في التاريخ فيمكنكم النظر إلى ميثم الجنابي". بينما يتجرأ في العالم العربي الكثير من أتباع "العلمانية" و"اليسار" من إطلاق أوصاف اقل ما يقال فيها قبيحة وغبية. ويصف البعض مما اكتبه "بالهذيان" وآخر يتهمني بأوصاف لا تليق بقولها عن الجهلة والأميين. وبالمقابل يجري تعظيم الجهلة و"قادة الأحزاب" الغبية والفاسدة، والرؤساء الخونة. ان ما يؤلمني في هذه الحالة ليست الأوصاف والتقييم وما شابه ذلك، بل حالة الوعي المهينة لأمة أبدعت في مجرى صعودها الدولتي والفكري ثقافة كونية ظلت رائدة على الصعيد "العالمي" حوالي ألف عام. والحصيلة التي يمكن التوصل إليها هنا تقوم في انه لا يقوّم هذه الحالة وينتشلها من مستنقع التخلف والأوهام والانحطاط المادي والمعنوي سوى أنماط التفكير العقلانية، والمناهج العلمية والنزعة إنسانية. ولا يؤسس لهذا المثلث الذي يمكن ان ترتكز إليها الثقافة الحية بالنسبة للعالم العربي سوى الفلسفة العقلانية ورؤيتها لفكرة الاحتمال المستقبلي.

• أما ما يخص إفرازي لمحمد عابد الجابري بكلمة الفيلسوف (ومن الممكن إطلاقها على حسن حنفي مع التحفظ النسبي) فهو بسبب كون الجابري الأول والوحيد لحد الآن بين أتباع الفكرة الدنيوية والقومية العربية الثقافية، الذي استطاع ان يؤسس لفلسفة نقدية لها منهجها الخاص وتحقيقها في منظومة متميزة، رغم ضعفها في الكثير من جوانب التدليل والتأسيس. فعندما انتقد جورج طرابيشي مفهوم العقل عند الجابري، فانه يبدو، وهو بالفعل، أوسع دراية وأعمق وأكثر دقة وتأسيسا لفكرة العقل مقارنة بما عند الجابري. إلا ان هذا النقد يبقى جزئيا وعابرا. انه يهذب ويشذب الرؤية النقدية فيما يتعلق بمفهوم العقل، لكنه لا يصنع منظومة. ان النقدي الفعلي والضروري هنا يقوم في نفي المنظومة الفلسفية بأخرى. وهو طريق الإبداع الفلسفي والفلاسفة. وإلا فان كل ما يجري تأليفه يبقى جزء من تقاليد الدراسة والأبحاث الفلسفية العلمية. وهذا ضروري أيضا بالنسبة لتربية عقول قابلة مع مرور المزمن على توسيع مدى الرؤية الفلسفية وتأسيسها للعقل الثقافي للأمة. وبالتالي، فان الإبداع التلقائي، الذي يتناول إشكاليات الواقع والمستقبل، هو الوحيد القادر على إنتاج فلاسفة عرب بالمعنى الدقيق للكلمة. وهي المهمة التي اسعي أنا شخصيا لتأسيسها ووضع دعائمها المنهجية في كتابي الذي سيصدر قريبا تحت عنوان (فلسفة البدائل الثقافية) وملاحقه في أربعة أجزاء تتناول تحليل ونقد الفكر العربي على مدار القرون الثلاثة الأخيرة. وهذا الكتاب بدوره هو مقدمة لكتابي التأسيسي الفلسفي (فلسفة المستقبل). وهو من الكتب الكبيرة جدا. وأملي في ان أنجزه في مجرى هذه السنة أو التي تليها كحد أقصى. وهو كتاب يتقاطع مع تقاليد الفكر الفلسفي العربي. وذلك لأنه ذو مرجعيات خاصة به لا علاقة له بثقافة التقليد والتلقين والتحزب والأهواء، أي كل ما هو مميز ومتغلغل في كل مسام "العقل العربي" السقيم.

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

.................

للاطلاع

قضية للحوار: هل نحن فلاسفة! / د. فوزي حامد الهيتي

 

 

في المثقف اليوم