قضايا

في سبيل التوحيد

مجدي ابراهيمتعلِّمنا الفلسفة أن نعتقد الفكرة، وأن ندافع عنها، وأن نتبتَّل لأجلها وأن نضعها في كفة، وأن نضعَ أرواحنا في كفة مقابلة؛ فإذا ما واجهتنا المشكلات وداهمتنا الخطوب، قائلة لنا: تخلو عن أفكاركم لتعيشوا في ظلام الجهل، وعتامة الخرافة، وَعَسَف السلوك، وطاغوت البلادة، وطغيان المتَّجرين بالدين، واستبداد المستبدين بآرائهم وأفكارهم ومشاريعهم النهضويّة الكاذبة المضللة؛ قلنا : فلتزهق الأرواح في سبيل حرية الفكرة، وحرية الاعتقاد، ونبذ الطاغوت. وانطلاقاً من تلك العقيدة الفلسفيّة؛ ولأن الفلسفة قناعة لا يمنع النقد من التسليم بها، يجيءُ اعتقادنا في الوعي الديني ليكون لدينا من الأهمية بمكان؛ فالعقل والقلب هاهنا يشتركان تجمعهما رابطة الهدف الواحد المشترك والمصير الإنساني الواحد .

للدكتورة سيجرند هونكه : كتاب في العقيدة والمعرفة, منشور في دار ابن قتيبة، من طبعته الأولى؛ بيروت سنة 1407 هـ - 1987م؛ ص 188) جاء فيه : لقد كان التوحيد بالنسبة للمسلمين - عامّة وعلماء - هو الأصل الأصيل خلف كل الأشياء والكائنات. ولقد بيَّن الرياضي الخوارزمي الحصيف بصفته عالماً فيما وراء الطبيعة فقال :" وُجدت الوحدة في كل عدد؛ لأن الوحدة هى الجذر لكل عدد وخارج العدد. وهكذا الله ! موجود في كل شيء. فأنىَّ وليَّ المسلم وجهه فَثَمَّ وجه الله".

وعندي أن طريقٌ التوحيد طريق مفتوح ليس هو بالمُغلق المسدود، هو الذي لا يقبل النقيض ولا يرضى بالأضداد، ولا يعرف إلا واحداً، ولا يلج إليه داخلاً إلا واحداً بعد واحد؛ لأن "الوحدة" طريقه وغايته في البدء والمنتهى، والتوحيد هو السياج العاصم له من الفرقة والتشتت والتمزق والانقسام. ولو أشتبه على سالكه فيما هو بسبيله أمر، لا يأخذ بالأقرب ولا بالأدنى ولا بالسهل الميسور، بل يأخذ بالأبعد والأصعب والأشق العسير.

هذا طريق الأقوياء غير مُنَازَع، لا يعرف للضعف مكاناً ولا للسلبية موضعاً كما يتوهم ناقدوه من ذوي العوج والانحراف والضلالة والسطحية والبلادة والخنوع والكسل الروحي والعبث بالأوهام، وأتركُ لك أنت أن تضيف ما شاء لك خيالك أن تضيفه هنا من صفات النقص التي تلمُّ بطبائع الأفراد فضلاً عن الجماعات.

هذا طريق أولي العزم الذين صبروا وتعودوا مرارة الصبر على الدوام بغير انقطاع. إنّ هذا الطريق المفتوح لا يضع حدوداً تنتهي عندها حدود التعبير والتفكير أو حدود الطلاقة الروحية، ولا يصطنع لنفسه حَوَاجزَ وقيوداً فيما هو بسبيله إزاء ما يفعله قاصده أو ينتوي فعله، والذي يمضي فيه على الصدق والمعرفة وشمول الإحاطة، وعلى الأخلاق، قبل ذلك كله، لا يخرج منه أبداً، ولا يُوَدُّ الخروج منه إنْ على صعيد الوجود أو على مستوى المعرفة؛ لأنه الطريق الذي لا ينتهي عند نقطة محددة، ولا عند هدف بعينه، بل جميع الأهداف تتساقط فيه، وجميع النقط المحددة تتركز في نقطته هو ويبقى فقط في غير انحصار هو الطريق المفتوح، وجودياً ومعرفيّاً، لا ينحصر صاحبه في دائرة الوجود، أعني دائرة الروح، الجسد، النفس، ولن يكون انحصاره في دائرة المعرفة، أعني دائرة العقل، القلب، الحس، الخيال. وإذا انحصر في هذه الدائرة الأخيرة، فلن ينحصر في المطلق في الدائرة الأولى، يلزمه التحرُّر في النهاية من الدائرتين على السواء؛ ليَتَوَحَّد بمثل هذا التحرر عرفانه الروحي وحقيقته الوجودية الأصليّة : يَتَوَحَّدُ فلا ينقسم على ذاته ولا ينشطر كيانه بالمرة.

التوحيد ضد الانحصار والانشطار والتجزؤ والانقسام على الصعيدين : الوجودي والمعرفي؛ لأنه تكامل بينهما في مستوى العرفان ومستوى الوجود. من أجل ذلك فهو طريق يبحث في الإنسان عن الإنسان، يبحث عن الجانب الإلهي في الإنسان. والجانب الإلهي في الإنسان روح وشهود ووجود وعرفان : روح تدرك من الغيب المحجوب حقائقه.

وشهود يُذَاق في عالم الذوق ما ليس يحصره بصر محسوس. ووجود يعلو بالروح على كل وجود سواه حتى ليشهد عوالم ليست تتبدى للظاهر المكشوف. وعرفان يرقى من كل هذا، ويعرج بكل هذا، ويصدر عن مصدره القلبي الذي تطمئن به الضمائر والسرائر والبصائر.

إنما الجانب الإلهي في الإنسان هو النفخة الإلهيّة المنفوخة في طينة آدم؛ السرُّ الإلهي فيه. لا ريب كان هذا الجانب نفسه هو التوحيد عينه، وهو الذي يشمل على أقل تقدير الحقيقة الإلهية في الجوهر الإنساني بلا قيود ولا حدود، ويتضمن مطلق الحقيقة الإلهية في الإنسان، هذه الحقيقة هى التي لا تقبل الانحصار ولا الانقسام، هى الطريق الذي تتساقط فيه جميع الأهداف؛ لتتجمع في نفسها عند النقطة المركزية العليا : التوحيد العاصم من فرقة الذات وتمزقها وتشرذمها، وهو هو العاصم من فُرقة المجموع وتشتته وتفرقه وانقسامه إلى طوائف وفئات تتصارع وتتطاحن كما تتصارع داخل الذات الواحدة رغائب وتتطاحن قوى !

أعجب العجب لدينا إنك لترى الأمة التي تدين بالتوحيد منقسمة متشرذمة ممزقة متشظية لكأنها ما دانت ولا اعتقدت؛ الأمر الذي يوحي من فوره بخلخلة العقيدة فيها عن السلوك، والنظر عن التطبيق، والخطاب الأيديولوجي عن الممارسة العمليّة. القمة في الإسلام وذروة سنامه هى التوحيد؛ والتوحيد يخاطب الإنسان في كل زمان ومكان؛ الإنسان بإطلاق بغض النظر عن انتماءاته العرقية والطائفية والشعوبية .. ولسنا بحاجة إلى تكرار ما ذكرناه في السابق بأنه لا معنى على الإطلاق أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافياً ومعنوياً وروحيّاً ليكون هو عينه مجرى التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي. وأن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد، لم يعد ممكناً في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العملية والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعملي السلوكي في كفة أخرى، فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها. لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم : ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟ لكأنه لم يستطع بعدُ ـ لأجل تدينه الساذج البسيط ـ أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما هى جارية على مستوى الاعتقاد والإيمان.

من أقوال الإمام علي :" ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإنْ خُذِلْتُم فيها كُنتم على غيرها أعجز, فجربوا معها الكفاح أولاً ".

هذا المعنى يفسّر لك العجز العربي والإسلامي اليوم : انسياق دائم كما تُساق السوائم وراء الأهواء، وتلبس غير معهود ولا معقول بمطالب المادة، وقلة حيلة في التعامل مع الآخرين شعوباً وأنظمة لا لشيء إلا لأن الواقع العربي اليوم مخذولٌ في نفسه, وخذلان النفس هوان ما بعده هوان.

طريق التوحيد هو عينه طريق الأقوياء الأصحَّاء غير مُنَازَع، هو الطريق المفتوح الذي ليس هو بالمغلق ولا بالمسدود. وهو هو في البداية والنهاية طريق العرفان تتحقق فيه ذات العارف كما تحقق صفته. وما سمى العارف عارفاً إلا لأنه يتوحد عرفانه مع التوحيد حتى ليفنى فيه فتوهب له - من طريقه - المعرفة بالله.

قد تَنْصَرفْ إلى غيره، وتنقطع عنه إلى سواه, فانصرافك وانقطاعك في هذه الحالة ليس سوى عوداً على بدء، في رحاب الطريق، وعند حلّه لأول مرة، رغم ترحالك في الكثير المثير من الأحيان بعيداً عنه؛ مما راقك وشاقك، وألزم نفسك الإتباع بعيداً عن صفائه وقصده وخلوصه؛ فما أن ترتحل إلا لتحل، وما إنْ تحل حتى ترتحل، فأنت في هذا الرحاب "الحَالُّ المرتحل!"، على الحقيقة، أنت لا تنقطع إلا لتعود، ولا تعود إلا لشعورك بالانقطاع. بيد أنك تعود وفي قلبك غُصَّة الانقطاع : تتوتر الروح لديك, وَتُعَانق المطلق فيك مع مطلق الوجود.

إذا حدث لديك مثل هذا "التوتر الباطني" بجَذْب الطريق إليك، وكنت من المخصوصين بتلك الجذبة فأنت أهل لهذا الطريق، أهل لطريق العرفان. أنت أهل للمضاء فيه على غير انقطاع، حتى ولو أنك انقطعت؛ لأن الطريق في الغالب كله تجريب، اختبار تلوي فيه مختاراً في المبتدأ عنق النفس ليَّاً تحت ضغط العقيدة الكلية الشاملة الكاملة التامة، ثم يجيء الطريق بعد اختيار الاختبار؛ طريقاً كله ذوق شعوري باطني وجداني، وشوق يلتاع فيه المرء بما يشعر وبما يجرب، وبما يهتم به ويهيم فيه، فهو مع ذلك كله؛ صعوبة، وغرابة، وهجرة، وعودة، وأوْبَة : عودة ثم أوْبَة, وهكذا؛ وهكذا ممّا يألفه المرء، أو يخرج فيه عن المألوف.

هَبْ أنك مثلا كُنتَ من أهله، وانصرفت عنه كليةً إلى سواه، ربما جَرَفَكَ الحنين جرفاً إلى طريق آخر سواه، ربما أخَذَتْكَ الدنيا شوقاً إلى غيره ممّا لا يتفق معه في شيء، لكنك في المجمل لا تستطيع أن تبقى في مثل هذا السِّوى أو في مثل هذا الغير لحظة، لماذا؟ لأنك في البداية والنهاية أنت لست بصادق، لم تكن من الصادقين حين ذهبت فيه أو إليه، (تحسبه هيناً وهو عند الله عظيم) هو ليس لُعْبَة، ولكنه عناء يستمد من معاناة التجربة. والتجربة تبدأ باكتشاف اللحظة، لحظة التجلي الكشفي الشهودي بعد التجلي الوجودي بالآن.

الآن، واللحظة؛ هما مُفْرَدُ التجربة الطويلة التي لا تنتهي عند صاحبها، هى تشبه الدائرة، متى دخلت فيها لا تخرج منها، وكيف تخرج وأنت تدور حول نفسك دوران اتصال وانفصال في آن واحد. ودرء الدوران حول النفس وجودٌ لا يَتَحَصَّل بمُجّرَّد معرفة الوجود معرفة سطحية من خارج، ولكنه يَتَحَصَّل بالعرفان الذي تنخلع فيه النفس عن وجودها حتى لتكاد تموت لترتحل إلى مطلقها.

التناقض ديدنك وعاداتك، وطريقك في هذه الصورة التي تراها من نفسك، ولا يراها أحد منك، فضلاً عن الصورة التي تكوِّنها عن نفسك، ولا يكونها أحد غيرك عنك، صورتك أنت أمام نفسك، كيف تخرج عن نفسك، ولا يخرجك أحد عنها سواك! إذا استطعت أن تخرج عن نفسك استطعت في الوقت نفسه أن تكتشف "اللحظة"، بمقدار ما تكشف عن تجربتك في التعبير والتفكير في صحيح الأحوال، وفي كل الأحوال. بيد أن ضريبة التحقُّق ذاتها تعني : سحب النفس بالجملة عن مجراها الطبيعي وخروجها عن التمحور حول ذاتها أو حول الواقع الذي تعيشه بكل ما فيه ومن فيه؛ والإلقاء بها في مراجل التأمل التي تغلي وتفور لتفعل فيك تجربة الروح والفكر والتأمل فعلها الذي ينتظرك على موعد منه وعلى لقاء !

التجربة في هذه الحالة هى التي تقودك، ولست أنت القائد ولن تكون. التجربة هى التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون، هنا يكون التخلي عجباً من أعاجيب القدرة: أعني التخلي عن وهم تمثل في الوعي المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسيّة بدايةً حين تتحلى بمجموعة "قيم علوية" تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلي طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلي عنه بحال. بقاءك مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وَتَقَدُّمُكَ مَوْقُوفٌ على الولاء كل الولاء لما تدين ممَّا عَسَاَكَ تحلَّيت به في السابق وتزكيت.

حقاً .. ما أكثر الذين يتكلمون، يفصحون عما هم فيه من البداهة لكن ينقصهم صوابها من أول وهلة، وما أقل وأندر الذين يعملون ولا يقولون! ولئن قالوا قالوا عن حق، ونطقوا عن حق، تأمل قوله تعالى:" وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهُمْ بَرَكَات منَ السَّمَاء وَالأَرْض"؛ ففتح البركة من السماء والأرض مَرَدَّهُ إلى التقوى، مشروط بها عمل العامل على شرطها. إنّما العمل ضد الكلام، والذين يكون عملهم هو الكلام، هم في الغالب أقل الناس حظوة يوم الدنيوية إلا أن تتحوّل الكلمات لديهم إلى أفعال.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم