قضايا

فنُ القراءة

مجدي ابراهيمفي خاطرة عابرة بَدَتْ لي إن الصياغة والأسلوب في الكتابة هما فن وذوق وإحساس، يدلان على حياة حَيّة فعليّة مُعَاشة في الواقع العملي، وليستا بالكلمات الفارغة من كل معنى؛ لأنهما يُعبّران عن معاناة شديدة وباطن نظيف، سواء كانت الصياغة في الفكرة أو كان أسلوب الكتابة في التعبير عن الأفكار.

ومن أسف قد تكون النوايا طيّبة، والمعلومة حاضرة، ولكن استخدامنا للكلمات مع حسن النيّة بطريقة خاطئة يُفسد المعلومة، ويجعل من حسن النوايا أسوأ ساحة للعراك المتبادل وقلب الحقائق واندثار المفاهيم المشتركة، ويأتي آخر الأمر التعبير المعتاد أسفاً مباشراً على سوء الاستخدام : لست أقصد !

أنا شخصياً من الذين تقوم فيهم علاقة وطيدة تنشأ من ممارسة فعل الكتابة، فإذا العلاقة ظاهرة عندي بين "الأداة" و"الفكرة"، ربما لستُ أشعر بها على الإطلاق، علاقة ناشئة بين النظر والتدوين، لكنها تحصل تباعاً مع التمرين والتدريب والفاعلية والحياة، هذه حال دائمة لا تزال عندي في غاية الأهميّة، اكتشفها مع الدُّرْبة والعادة، ثم أفرح بها أحياناً كثيرة فرحى بمخبوء ينتظر الولادة الجديدة، لكأنما الفكرة عندي لا يُخرجها سوى مثل هذه الأدوات، أمعنُ النظر فيها كثيراً فأتذوق الخط تماماً كما أتذوق الكلمات.

الإحساس انفعال بكل تأكيد، ممدودٌ من العاطفة ومسنودٌ عليها وليس للعقل دور فيه سوى التنظيم؛ ولذلك كانت الكتابة الصوفيّة ليست شياً سوى هذا الانفعال، وما الحياة في أصلها إلا الانفعال. هنالك نصيحة نفسية أو قل ظاهرة من ظواهر النفس البشرية أنا أعتقد فيها غالباً، ساقها شاعر القرن السابع عشر (توماس تراهيرن) قد تتفق أو تختلف معها، لكنها حقيقة واقعية ملموسة في بعض الناس :

قال: إنّ العواطف هى جوهر الحياة، ومن الخطر علينا إنكارها أو إخفاؤها أو كبتها، فإن كبتَ الشعور يدمّر الحب ويتعارض مع طبيعته، ولكننا نلتقي اليوم في كل مكان بأشخاص يرتدون كبت الشعور، وكأنه شارة الشرف .. إنهم الأشخاص الإنطوائيون المنفصلون .. والحديث مع هؤلاء يشبه رفع سماعة التليفون عندما تكون جميع الأسلاك مقطوعة .. إنّ كلمة "بارد" هى الكلمة التي تنطبق على هذه الأنواع .. إنهم يبنون حياتهم على ضبط النفس، ويرون في ذلك فضيلة سامية، لا تبدر منهم نوبة مفاجئة من الضحك أو الدموع المطهرة للنفس، أو حتى انفجار في نوبة غضب لها ما يبررها .. ولكن البرود ليس بالضرورة علامة خارجية لفضيلة داخليّة، فقد يكون ضبط النفس التام هو البوابة الحديدية التي تغلق في وجه أعظم النّعم : وهى الإحساس السامي بالحياة !

من الإحساس السامي بالحياة هذا، يجيء التفكير والتعبير؛ وهو مقوِّم لا غنى عنه للكتابة التي تمس الحياة الشعورية والروحيّة وتتخذ شكلاً من أشكال التعبير عنها، فلم يظهر الأدب بكل أشكاله ولا الفن بشتى ألوانه إلّا من تلك المنطقة، ولا الشعر ولا النثر ولا الرواية ولا المقالة الفنية، لكنه يتفاوت قوة وضعفاً بمقدار ما للكاتب أو الأديب من تمكن هذا الإحساس من بواطنه الخفيّة.

أنا من كنتُ يوماً من الذين يعبثون دوماً بالأدوات مقدار عبثهم بالكلمات. وما دامت الحياة كلها عبثاً جميلاً، فأولى بالعبث عندنا أن ينال الصُّنعة؛ فما الكتابة صُّنعة في الأصل سوى عبث، وأغلب ما نخطه دوماً بالكلمات إنْ هو إلا عبث يترائى لنا صباح مساء من توليد الوهم في عقولنا العابثة .. لا تثق بقدرة العقل في تحصيل المعرفة، فهذه القدرة إذا نظرت إليها بعين التحقيق وجدتها عبثاً في كل حال، ولكنه العبث الذي يليق بالآدميين.

ما الذي تراه من الآدميين في حياتهم غير العبث الذي به يسعدون ويريدون أن يسعدوا الناس على الدوام بعبثهم في كل حال؟ يسعدوهم بالعبث، ويرقّوهم إلى تحصيل الوهم بكل حيلة من حيله الدائمة لتكون حياتهم كلها مدعاة إلى ديمومة العبث في غير فهم أكيد للمواهب والقدرات، وهَبْ أنهم فهموا قدراتهم ومواهبهم، سينطلون منها لا محالة إلى العبث، ويهدفون إليه، ويصدرون عنه طالما تولدت لديهم حيل حول غيبة الإدراك لكل شئ إلا العبث، اهتماماً منهم لمِا عَسَاهُ يكون من جنسه. إنهم مع كل فكرة على عبث لا على وعي، وأن الأشياء التي يتصل بها الوعي لا الأشياء التي يتولد عنها العبث، كل الأفكار الجميلة صادرة عنها .. عن فكرة الوعي العابثة تصدر، لأنها متصلة دوماً بالأصول اللاهية في الحياة، وقد صدق بن الفارض الشاعر الصوفي المصري حيث قال :

ولا تكن باللاهــــي عــن اللهو جملـــة

فهـزل المـــــــلاهـي جـدُّ نفس مُـجــدّة

وإيّــــــــاك والإعراض عن كل صورة

مُمــوُّهــــــة، أو حــالــة مــستحيـلـــة

فطيفُ خيَــــال الظــل يهدي إليــك، في

كُري الليــل، ما عنه الستائــــر شُقــت

ترى صورة الأشياء تُجْلَى عليك، مـن

وراء حجـــــاب اللّــبس، في كل خلعة

فابن الفارض يشير إلى النفس النقية التي هى مصدر كل معرفة، شأنها في ذلك شأن ستار خيال الظل حاجب للمعرفة الكامنة فيها؛ بفضل ستار تتحرك عليه مختلف الصور والأشكال؛ فطيف خيال الظل محجوب خلف الستار، ولكن عندما يزاح الستار يظهر المختفي وراؤه، وهو الحقائق المعرفية الصادرة عن النفس النقيّة، وهكذا يبدو العبث كالستار مثل خيال الظل، غير أنه كاشف بعد إزالة الستار عن حقائق الحياة وحقائق الوجود. من تلك النفس النقية الصافية؛ مصدر كل معرفة، تجيء الكلمة الصادقة الذواقة والصادرة عن إحساس جياش بعدما ينكشف للكاتب تلك الستائر التي شقت ممّا كان حجب عن طيف خيال الظل فيرى صورة الأشياء تجلى عليه من وراء حجاب اللبس الذي هو الستار لكنه إذ يراها في هذه المرة يراها على حقيقتها لا على الظلال المموهة لها.

هل نعبث فعلاً حين نقرأ أو نكتب؟

سؤال يبصرنا بلهونا الذي نلهو فيه، وهو في الحق "جدّ نفس مُجِدَّة"، تحاول كشف الحقيقة من وراء الستائر الحاجبة وتتخذ لإماطة اللثام عن صور الأشياء كما هى عليه الوسائل المتعددة؛ مرة بالخيال، ومرة بحركات الجسد، ومرة ببذل المجهول والكدح في المقروء والمكتوب.

حين عرضتُ الفكرة على صديقي يومها دار حوارٌ معه فقال فيه تعليقاً على ما خطر لي إذ ذاك :" تخيّل إن المعانى والأفكار التي تنتقل من خلال فرد للآخر، تنتقل بنسبة 55% من خلال لغة الجسد. و35% حركة الجسد للأمام مثلاً أو الخلف. و8% فقط من خلال الكلام ولغة التخاطب، إحصائية قدمها الدكتور إبراهيم الفقى مُقدّم تطوير الموارد البشرية، أذهلتني تلك الإحصائية".

وأذهلني أنا أن حوار الصديق العزيز أو قُل مجرّد تعليقه، نقلني على الفور إلى المفاضلة بين القراءة والحركة أو بين لغة الجسد ممثلة في الحركة، ولغة التخاطب مجسدة في القراءة.

وعلى ذكر التنمية البشريّة عرضاً في الطريق، ومُقدّمها إبراهيم الفقي عليه رحمة الله، راحت خواطري تتابع ردوداً على تعليق الصديق بعد تساؤلات أثارها في ذهني تعليقه، تُرى : أيهما أفضل، القراءة الجادة الواعية، أم الحركة المصاحبة للعملية التعليمية كما يُستفاد ممّا تقدّمه التنمية البشرية ووسائلها، الأمر الذي أذهل معه الصديق الكريم؟

أخذت نفسي وقفتها تستجمع قواها لأقول : ولذلك؛ كانت الرواية على المسرح، والقصة حينما تمثل وتخرج للسينما أو التليفزيون، أثبت وأفعل في ذهن المتلقي من القراءة .. ولكن ليس معنى هذا أن القراءة أو لغة التخاطب ليستا على المستوى الأعلى بل بالعكس، والعكس هو الصحيح .

الفرق يكمن في الخيال، ففي الحالة الأولى، الخيال جاهز والصورة حاضرة، وفي الحالة الثانية، حالة القراءة، لابد من أن تقوم بنفسك في خلق عملية الخيال. وصناعة الخيال وتربية الخيال، تتأتّى من الكدح الدائم في المقروء والمكتوب. وما لم يكن لديك خيالٌ ليس بعاطل ما استطعت الصبر على القراءة مطلقاً. تعالى مثلاً نقرأ رواية لنجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، ثم نشاهدها على شاشة السينما .. ما لذي يحدث؟

ستجد الرواية لا تنقل بتفاصيلها حين كتبها قلم الأديب، بل سيحتاج الأمر لنقلها إلى سيناريو وحوار آخر غير ما خطّه الأديب بقلمه .. وماذا يفعل السينارست؟

يفعل أمرين في منتهى الخطورة:

الأول: يقضي على الروابط العقلية والمنطقية في الرواية، ويفرّغها تماماً من النقلات الذهنية، ويحوّل السّرد الفني الذي يخلقه خيال الأديب تحت سنان قلمه إلى حركة ظاهرة. ومعنى ذلك، أنه يستفرغ الوعي الباطن من مضمونه ويقتصر على الحكي فيما يمسُّ الشعور فقط.

والثاني: إنه يستغرق في الحواس الظاهرة، أمّا الحواس الباطنة التي تشكلها القراءة وينمّيها الصبر عليها فلا شأن له بها. والاستغراق في نقل الحواس الظاهرة هو الذي يسبّب، مع الاندماج، حالات شعورية مؤقتة مثل البكاء والفرح والتأثير السلبي. ويكون سلبياً؛ لأنه في الغالب تأثير خارجي برّاني لا يتغلغل في الأعماق الشعورية الباطنة، ولا يغيّر من باطن النفس شيئاً.

وبما إن الحركة الظاهرة تستغرقه كليةً، فلا ينفذ إلى أعماق الشعور كما تنفذ القراءة الواعية بصاحبها، فتغيّره؛ وربما تحوّله من حال في الحياة إلى حال.

الغريب في الأمر، أن هناك دراسات حديثة أثبتت إن إدمان مشاهدة الأفلام والمسلسلات تصيب المُشاهد بالتخلف العقلي. وهذه حقيقة تؤكد إنه كلما ابتعدنا عن القراءة الجادة الواعية انزلقنا - من فورنا - في حضيض التّسفُل والانحطاط .

ومن هنا، ومع فقدان هذين الشرطين السابقين، يكون الفن، ولأنه وصفي يأتي بعد الحدث، تابعاً للفكر، والفكر أسبق منه، وأعمُّ منه وأشمل. ومن أجل وجود هذين الشرطين في القراءة، وفقدانهما في السيناريو كانت القراءة صعبة للغاية لا يطيقها أكثر الناس، وكانت المُشاهدة سهلة جداً تجذب أكثر الناس.

الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، هو فرقٌ بين رجل يفكر، ورجل ينتظر أن يُقدّم له التفكير، وهو هو الفرق نفسه بين صناعة التنمية البشرية من جهة، وبين تجربة حقيقية وحياتية دوّنها كاتب أو أديب أو ناقد أو فيلسوف.

فرقٌ كبير جداً بين من يطبخ، ومن يتناول الطعام جاهزاً من غير تعب ولا معاناة. ومع أنني لا أشجع ممارسات التنمية البشرية واعتبرها سبّوبة إرتزاق يقوم بها الفاشلون، ومع إنني قرأت كثيراً للمرحوم إبراهيم الفقي إلا أن التنمية البشرية لا تشكل شخصيّة ثقافية وفكريّة يُعتد بها، هى عبارة عن (نتش) من هنا ومن هناك، وإني لأتفق هنا مع ما يذكره الأديب إبراهيم الجارحي في لوحاته القلمية المبدعة والصادرة سنة 2004م تحت عنوان "اللهم أجعله خير" من أن الفاشلين وحدهم الذين يقولون ما لا يفعلون، هم من يقومون بها، ولا يجيدون سوى عبارات التشجيع والدّعم النفسي من نوعيّة (أحبّ ما تعمل حتى تعمل ما تحب!)، وهى عبارات من أردأ ما جادت به قرائح شياطين التنمية البشرية، لعنها ولعنهم الله.

الوسيلة الوحيدة كي يحبُّ المرء ما يعمل هى أن يكون بالفعل ممّن يعملون ما يحبون في ظروف عمل يحبونها، تؤهلهم للعمل وتحقق لهم مآربهم فيما يعملون، لا فائدة من صناعة التنمية البشرية كلها إذا لم تكن دعايتها الإيجابية تقابل فلسفة إيجابية يعتنقها المتلقي نفسه ويفعّلها أولاً في ذاته، ولا ينتظر من آخرين يتحفونه بكتابات عن "تنمية الذات" و"تطوير الذات"، لماذا؟ لأننا لا تقبل على الدعاية الإيجابية إلا إذا كنّا إيجابين أصلاً، ومتفائلين فعلاً، ومن ثم ننمي ذواتنا على قناعة، ونطورها على معرفة مؤصّلة لا على قشور وسطحيات.

الحقيقة أن صناعة التنمية البشرية كلها تقوم على أساس بيعك ما تملكه.

هذه بضاعتك رُدّت إليك !

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم