قضايا

لماذا هيمنة الغرب ليست ثابتة ولا حتمية؟

98 the westفي عام 2010 صدر في لندن كتاب (لماذا يحكم الغرب ..) للكاتب آين مورس IAN MORRIS في 750 صفحة يتحدث عن مستقبل القوة العالمية الغربية. الكاتب آين مورس وهو بروفيسور في الكلاسيك والتاريخ بجامعة ستراندفورد ذاع صيته عالمياً في هذا الكتاب لدرجة مقاربة لكتاب بول كندي عام 1987 (صعود وانحطاط القوى العظمى). المؤلف يستخدم التاريخ ونظريات بالغة الاهمية في معالجة مخاوف الحاضر. كان كندي حذّر صانعي السياسة الامريكيين من نتائج"التمدد الامبريالي المفرط"، وكان الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي قد شكّل الدفاع القوي والمثير في اطروحته.

بدأ مورس بتوضيح أمرين هامين، الاول ان الحضارات على مر التاريخ تتعاظم وتضمحل باستمرار لأسباب تعود لحكامها وعدم مقدرتهم في التأثير، وثانيا، ان هيمنة الغرب في الـ 200 سنة الماضية لم تكن حتمية وهي لن تبقى ثابتة في المستقبل. يرى مورس ان مصير الانسانية يتقرر الى حد كبير بالجغرافيا وبجهود الناس العاديين للتأقلم مع ما يتعرضون له من تغيرات مناخية او مجاعة او هجرة او اوبئة او فشل الدولة (وهي عوامل يصفها الكاتب بالشرور الخمسة لخراب العالم). هو يرى" من دروس التاريخ بان الضغط حينما يكون عالياً سيبدأ التغيير". وطبقا لمورس (يحصل التغيير بفعل الناس الكسولين الجشعين الخائفين الباحثين عن الطرق المربحة والسهلة لعمل الاشياء. وهم نادراً ما يدركون ما يقومون به).

ومن بين الاشياء التي يوضحها الكاتب هي لماذا يسير التطور الاجتماعي وعلى مر التاريخ بشكل غير منتظم، متراجعاً احيانا في مكان ما لمدة الف عام او الفين قبل ان يندفع بسرعة وفجأة الى الامام في مكان آخر. يعرض مورس ذلك المد والجزر على شكل سباق بين الشرق والغرب. هو يسأل لماذا انطلقت القوارب البريطانية عام 1842 نحو اليانغي بدلا من ان يتجه الصينيون نحو نهر التايمز، ولماذا يتحدث العديد من شعوب الشرق اللغة الانجليزية بدلاً من ان يتحدث الاوربيون اللغة المانديرنية؟

الجواب سيكون واضحاً. ان الثورة الصناعية بدأت في الغرب في اواخر القرن الثامن عشر بجهود المهندسين البريطانيين والمبدعين الساعين الى استغلال الطاقة من المخزونات الوفيرة للفحم في البلاد واستعمالها في توليد الطاقة البخارية لتشغيل السفن والقطارات والمكائن في المصانع. ان التقدم التكنلوجي السريع اعطى بريطانيا تفوقاً مؤقتاً على جميع الدول الاخرى وسمح لها بتطوير القوتين العسكرية والاقتصادية على نطاق عالمي وبقيت تلك القوة عصيةً على التحدي طوال المئة سنة اللاحقة وهو ما اتاح لها تأسيس هيمنة غربية استمرت حتى اليوم. ولكن لماذا لم تتمكن الصين من ان تسبق الغرب في ذلك رغم ما لديها من صناعة نسيجية معقدة وبحرية متطورة ومخزونات هائلة من الفحم والأعداد الكبيرة من الناس المبدعين والاذكياء؟. هي في الواقع كانت قبل قرنين من ذلك الوقت الاكثر تطوراً اجتماعيا من بريطانيا واي بلد آخر في الغرب.

ولماذا كانت بريطانيا وليس الصين القوة البحرية الاولى؟ قبل اكثر من 80 سنة من ابحار كرستوفر كولمبس الى امريكا برفقة 90 بحاراً وثلاث سفن، كان الادميرال الصيني زينك يستكشف الساحلين الافريقي والهندي ومعه اسطول من 300 سفينة و27 الف رجل. لاحظ مورس ان : زينك كانت لديه بوصلات مغناطيسية وعرف الكثير عن المحيط الهندي حتى انه وضع خارطة بحرية بطول 21 قدم، بينما لم يكن كولومبس يعرف اين كان والى اين يتجه.

بدأ المؤلف مورس قصته منذ 50 الف سنة مضت، ولكن عمله الحقيقي يبدأ مع ظهور الزراعة وولادة المجتمعات المنظمة على نطاق واسع وذلك بعد آخر العصور الجليدية قبل 12 الف سنة. هو يبيّن كيف ان الحضارات المتعاقبة بزغت من منطقتين متميزتين جغرافياً هما منطقة الهلال الخصيب في اوراسيا الغربية (المناطق الخصبة بين نهري دجلة والفرات) والمنطقة الممتدة بين نهري اليانغتسي والاصفر في الصين الحديثة- بسبب ما فيهما من وفرة في زراعة الغلات الموسمية والحيوانات الداجنة. بدأ التطور في الغرب قبل 2000 سنة من حصول اي تقدم مشابه في الشرق. تلك الريادة بدأت بالتراجع حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، بعدها اخذ الشرق والغرب يتساويان تقريبا لحين بدأ الانهيار التدريجي للامبراطورية الرومانية التي مثلت ذروة التطور الاجتماعي الغربي الذي بقي بلا منازع حتى بدايات العصر الحديث في القرن السابع عشر.

يؤكد مورس انه وعبر الـ عشرة آلاف سنة الماضية بلغت الحضارات الواحدة تلو الاخرى أعلى سقف للتطور الاجتماعي قبل ان تتهاوى غير قادرة على السيطرة على القوى الدافعة لذلك النجاح. كل خطوتين اوثلاث خطوات الى الامام يقابلها خطوة الى الوراء. في تلك الفترات من التقدم مال الغرب للاندفاع امام الشرق، وخلال خطوات التراجع بدأت الفجوة بالتقلص مرة اخرى. وفي هذه السلسلة من الموجات، كانت كل موجة تعلو على سابقتها، ولكن مع قيادة الغرب اصبح نمط التطور لصالحه. تلك العملية استمرت حتى منتصف القرن السادس حينما تقدّم الشرق فجأة على الغرب ودخلت اوربا في ما يسمى العصور المظلمة ووضعت الصين الاتحادية في ظل اسرة سيو الأساس للشرق كي يمسك القيادة للآلف سنة اللاحقة.

ومع ان الغرب لحق في نهاية المطاف لنجاحه من جهة في صنع السفن المبحرة الى امريكا (الاطلسي اصغر بكثير من الباسفيكي) وبسبب حروبه المستمرة التي ساعدت في تطوير تكنلوجيا عسكرية، لكنه حتى منتصف القرن الثامن عشر لم يكن هناك اختلاف كبير بين الشرق والغرب. يرى مورس (رغم ان السقف الأعلى جرى تخطيه قليلا ولكنه بقي دائما بنفس الصعوبة). الغرب ربما تمكّن من اللحاق، ولكن وفق عدد من الاقتصاديين الجدد مثل ثوماس مالتس، في دراساته السكانية، خاصة القانون الذي يرى ان الناس دائما يحوّلون الثروة الفائضة الناتجة من زيادة الانتاجية الى المزيد من الولادات الجديدة لإستهلاكها، وهو الامر الذي سوف يمنع التطور الاجتماعي للغرب والشرق من الارتفاع اكثر. غير ان مالتس لم يحسب اثر القوة التحويلية للبخار في تجاوز السقف الأعلى للغرب.

في الفصول الاخيرة للكتاب يحاول مورس الاجابة على السؤال المتضمن في عنوان الكتاب. الغرب ربما لا يزال يحكم ولكن الى متى؟ هو يستنتج رغم ان السلطة والنفوذ والدينامية التجارية تتحول نحو الشرق بسرعة فائقة، الا ان السؤال ذاته قد يكون خاطئاً. فلو استمر التقدم الاجتماعي في الغرب وفي الشرق في شكلهما الحالي، فان تفوّق الغرب سينتهي في بداية القرن القادم. ولكن تصاعد المؤشر(مؤشر التنمية الانسانية) في المائة سنة القادمة مدفوعاً بقفزات في قوة الكومبيوتر وعلوم البايولوجي، هو من السرعة لدرجة تصبح البشرية ذاتها في حالة تحوّل عميق وبشكل تصبح فيه الفروقات بين الشرق والغرب ضرب من المفارقة.

وعلى الجانب الاخر يؤكد الكاتب ان هناك امكانية حقيقية ان نفشل في التفاوض حتى في الخمسين سنة القادمة دون اثارة الكوارث البيئية او الحروب النووية او الاوبئة العالمية. في هذه الحالة سيصطدم كل من الشرق والغرب في وقت واحد بالسقف الثابت للعصر.

ينتهي مورس بملاحظة متفائلة، بقوله لو تمكّنا من تأجيل حلول الظلام فترة اطول، فان الفرق بين التجربة التي نواجهها اليوم وتلك التي حدثت ايام اسرة سونغ في الصين حينما جرى تحدّي السقف الثابت قبل الف سنة، او تجربة الامبراطورية الرومانية قبلهم، هي اننا سنكون اكثر قدرة على فهم ومواجهة القوى التي تهددنا – عندما نتحلى بالشفافية والهدفية في العمل.

كان مورس واضحاً وقوياً في كتابه الذي وُصف بالمهم وفيه الكثير من التحدي والتحفيز والمتعة. كل من لا يعتقد بعدم وجود دروس يمكن تعلمها من التاريخ عليه البدأ بقراءة هذا الكتاب .

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم