قضايا

المشرق العربي وإيران في حلبة الصراع الروسي – الأمريكي

ميثم الجنابيإن إحدى بديهيات الفكر السياسي المعاصر تنطلق من حقيقة الترابط العضوي بين الأحداث العالمية وتأثيرها المتبادل. وبالتالي، فان اشكاليات المشرق العربي الجيوسياسية وثيقة الارتباط بالصراع الروسي الامريكي القديم والحالي. وعليه تتوقف آفاق صيرورتهما المستقبلية ما لم يحسم المشرق العربي وايران الصراع الداخلي والاقليمي بالشكل الذي يجعلهما قوة اقليمية كبرى ومركزا فاعلا في الحياة السياسية الدولية.

فقد كانت نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين تبدو كما لو أنها بداية "مرحلة جديدة" لما "بعد الحرب الباردة". غير أن الأحداث الحالية، وبالأخص ما يتعلق منها باشتداد المواجهة الإعلامية والدبلوماسية والسياسية والعسكرية المبطنة بين روسيا والولايات المتحدة في القوقاز (جورجيا) والأطراف الروسية (نوفوروسيا – اوكراينا) وإيران والعراق وسوريا وليبيا واليمن، تكشف عن أن "الحرب الباردة" و"ما بعد الحرب الباردة" هي مجرد حلقات في تنافس الأمم وصراع المصالح. وجرت محاولات عديدة لإخفاء هذه البديهة تحت شعارات شتى مثل "نهاية التاريخ" و"النظام العالمي الجديد" وما شابه ذلك. بينما كشفت وقائع الأحداث السريعة، عن أن ذلك لم يكن أكثر من نزوات أيديولوجية لامعة لما كان ينمو وتتضح معالمه عن "القطب الواحد" و"القرن الأمريكي الجديد". بمعنى محاولات اختزال التاريخ والمستقبل والبدائل إلى إرادة "القوة العظمى الوحيدة"، والعمل بوعي أو دون وعي حسب قواعد "الانتقام والتشفي" الملازمة "للانتصار التاريخي" للولايات المتحدة على "القطب السوفيتي". ولا يخلو هذا الاستنتاج من صحة، غير أنه جرى تضخيمه عبر موجة كاسحة من دعاية "العلاقات العامة" وتغطية إعلامية ضخمة بتنظيم فائق الدقة والإحكام.

لكننا نعرف بان للمنطق قواعده في التاريخ أيضا، كما أن للدعاية والعلاقات العامة قواعدها الخاصة. وما بينهما تفاوت شاسع. وكان يكفي حدث عابر في سوء الاستعمال المتعمد لانجازات التكنولوجيا الحديثة، كما جرى في أحداث الحادي عشر من أيلول، لكي تنقلب المعادلة "التاريخية" رأسا على عقب. بمعنى أنها أبرزت بصورة فضيعة الشهوات الدفينة للهيمنة، كما كشفت بدورها عن أن "حصانة " "القوة العظمى الوحيدة" لا تصمد حتى أمام مجموعات إرهابية من فيافي أفغانستان المتخلفة والممزقة. وهي مفارقة كانت في طي الكتمان، كما كان من الصعب تأمل نتائجها "المنطقية" في رؤية الآفاق السريعة الزوال "للانتصار الأمريكي".

فقد احتوت أحداث الحادي عشر من أيلول على رمزية يقوم فحواها (بغض النظر عن كل ما قيل ويقال عن سيناريوهات العملية الإرهابية والقوى القائمة وراءها) في أن بداية "القرن الأمريكي" تتسم بقدر كبير من اللاعقلانية والحرب الساخنة.

فقد سعت الولايات المتحدة إلى التهام أكثر واكبر مما تستطيع هضمه. بمعنى التهام أوربا الشرقية وضم كل ما يمكن ضمه إلى الحلف الأطلسي. ومحاصرة البقايا السوفيتية وبالأخص روسيا بوصفها الوريث الشرعي للدولة السوفيتية. وجرت محاولة التهام أفغانستان من اجل الدخول إلى وسط آسيا، أو بصورة أدق إلى وسط المنطقة المتاخمة لروسيا والصين والهند وإيران. واستسهلت الأمر في احتلال العراق، لكنها واجهت هنا للمرة الأولى اعتراضا دوليا جديا. بينما كشفت الأحداث اللاحقة للاحتلال عن أن العراق لم يكن لقمة سائغة بل دبوسا خربا! أما الحصيلة فهو اللهو الأمريكي والغوص في مشاكل شتت الإرادة الأمريكية وخلخلت أيديولوجية "الانتقام التاريخي" وكشف عن ضعفها الفعلي في مجرى أحداث وسلسلة الحروب التي جرت بين جورجيا وروسيا، وتعثرها في مجرى ونتائج الحرب الاوكراينية الحالية على نوفوروسيا (شروق وجنوب اوكراينا)، وتأزمها في الموقف من سوريا، وتوقفها شبه التام أمام إيران، وإعادة خلخلتها في العراق بعد هروب الممثل الصنيعة لايديولوجيا الفوضى الخلاقة من مسرح الأحداث الدمشقية إلى أطراف البادية السورية العراقية بهيئة دواعش فواحش!

فقد كانت الضربة الروسية لجورجيا تحتوي من حيث أبعادها السياسية والعسكرية على تحجيم عملي حاد للقوة الأمريكية وردعها غير المباشر والفعال. بحيث يمكننا القول، بان الأحداث الدامية التي جرت في القوقاز وتجري الآن في اوكراينا تعيد صدى الغزو الأمريكي للعراق. وتكشف عن ترابط الأحداث ونتائجها. وليس مصادفة أن تتصاعد وتيرة الدعاية السياسية عما يسمى باستعادة "الحرب الباردة" وما شابه ذلك. بمعنى إننا نكتشف في استعادة مصطلح "الحرب الباردة" بحد ذاته على تحسس ورؤية الأشباح القديمة المخيمة على خيال وذاكرة الغرب الأطلسي، الذي يجد في كل ما يعارض تمدده "تهديدا" للسلام و"المصالح الدولية" و"الأمن العالمي". أما في الواقع فإننا نقف أمام تمدد في محاولات روسيا لاستعادة دورها العالمي. ولعل تحول المشرق العربي وإيران من جديد إلى بؤرة محتلمة للصراع، ليس إلا إحدى أصوات الصدى العنيف للحرب الروسية الأمريكية العلنية والمستترة في القوقاز واوكراينا، بوصفها آخر القلاع التي تنوي الولايات المتحدة احتلالها من اجل الإشراف على الحدود الروسية المباشرة!

إن الانكسار الأولي والجزئي في السلسلة التي أرادت الولايات المتحدة تطويق روسيا بها قد بدأت تتهاوى، أو على الأقل إن السياسة الروسية تسعى من الآن فصاعدا لكسرها بمختلف السبل والوسائل. الأمر الذي يجعل من منطقة المشرق العربي وإيران في الفترة القريبة القادمة الميدان المباشر للصراع. لاسيما وانه كان وما يزال ميدان المصالح العالمية الكبرى، أي القوة التي تحدد إستراتيجية الدول الكبرى وسلوكها العلني والمستتر. الأمر الذي يرشح هذه المنطقة لكي تصبح "بؤرة" الصراعات العالمية الكبرى. وهي إمكانية واقعية مائة بالمائة بأثر الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية لها (المشرق العربي وإيران وعبرهما دول الخليج)، أي كل تلك المنطقة التي تختزن الرصيد الأكبر لمصادر الطاقة العالمية (النفط) والغاز أيضا. كما تختزن إحدى اكبر واشد البؤر توترا للصراع المباشر وغير المباشر للسياسة الأمريكية من اجل الهيمنة التامة في منطقة ودول المشرق العربي، وبالأخص إيران والعراق وسوريا.

إن إحدى الحقائق الجلية فيما يخص المشرق العربي وإيران هو أن المنطقة لا تحتوي بحد ذاتها على حتمية الإثارة والاحتراب، لكنها تحتوي بقدر ما فيها من أهمية جيوسياسية واقتصادية هائلة للاقتصاد العالمي المعاصر، على قدر مماثل من مساعي الاستحواذ عليها والتحكم بما فيها. وهي حقيقة اقرب إلى البديهة حالما يجري النظر إليها ضمن سياق ما تكشفه الوثائق والحقائق المتعلقة بها في التاريخ الحديث والمعاصر. من هنا ليست فرضية تحوله إلى بؤرة الصراع القادم من نتاج الخيال، بقدر ما أنها تنبع من واقع الصراع السياسي الحالي وما يجري التخطيط له ووضعه في مشاريع عملية واستراتيجيات مستقبلية.

وإذا كانت الدعاية الأمريكية زمن الحرب الباردة قد جعلت من "الخطر السوفيتي" ومحاولاته الوصول إلى "المياه الدافئة" (الخليج) هو الوجه الآخر لمساعيها الفعلية من اجل الاستحواذ والسيطرة والهيمنة التامة فيه، بأثر الانبطاح التاريخي والصميمي لدويلات الخليج والبحث عن "حماية" بفعل الشخصية المخنثة لهذه الدول، فان مجرى الأحداث اللاحق، وبالأخص بعد انحلال الاتحاد السوفيتي قد كشف عن حقيق الأشياء كما هي. بحيث لم تعد المراوغة في الشعارات ذات جدوى وذلك لانفراد القرار الأمريكي في السياسة الدولية والهيمنة الفعلية المؤقتة "للقطب الواحد" واستفحال المساعي الإمبراطورية والخصوصية الأمريكية. وليس مصادفة أن تخوض الولايات المتحدة في العقد الأول (والأخير) من "القرن الأمريكي" (الحادي والعشرين) حروبا مستمرة ومكشوفة وعلنية عسكرية (على جبهات عديدة في آن واحد) وسياسية واقتصادية ودبلوماسية رمت عرض الحائط كل الأعراف الدولية و"القانون الدولي" وهيئة الأمم المتحدة وإلغاء الاتفاقات السابقة فيما يخص التسلح وما إلى ذلك. وليس مصادفة أن يظهر في مجرى هذا العقد، وبالأخص بعد الهجوم على أفغانستان واحتلال العراق وظهور فكرة "الدومينو" في إسقاط النظم السياسية والتدخل الفض في الشئون الداخلية للدول تحت ذريعة وشعار تطبيق "الديمقراطية" و"المدنية" و"التطوير الاقتصادي والتكنولوجي" للدول، فكرة "السيطرة على مصادر الطاقة من اجل السيطرة على الدول، والسيطرة على المواد الغذائية من اجل السيطرة على الشعوب".

وضن هذا السياق أصبحت مهمة التحكم والسيطرة التامة في المشرق العربي (التي لم يكن بإمكان دويلة مصطنعة كإسرائيل القيام به) مهمة مباشرة وعملية، لكي يجري استكمال النصاب الذي يطوق لاحقا إيران ويجبرها على الاستسلام. ومن بعده تصبح الولايات المتحدة الأمريكية القوة الفاصلة بين روسيا والصين بأثر الخطة الإستراتيجية للسيطرة على كامل المشرق العربي والخليج وإيران وأفغانستان ودول آسيا الوسطى. حينذاك يكون بإمكان الولايات المتحدة القدرة الفعلية على خلخلة الأوضاع الجيوسياسية والعسكرية لكل القارة الآسيوية الناهضة والمستقبلية (الصين والهند وروسيا) كأقطاب ذات استعداد ذاتي لكسر الهيمنة الأمريكية والتاريخ الكولونيالي للغرب الاوروامريكي الذي استمر لقرون عديدة. ومن ثم استعادة التاريخ الفعلي للمدنية والحضارة التي وضع الشرق أسسها وأصولها. بمعنى القدرة على إنتاج توازن جديدة يعطي للمدنية الإنسانية إمكانية الارتقاء إلى مصاف الحضارة الإنسانية المحكوم بقوة القانون والأخلاق العملية.

وليس مصادفة أن يكون الظهور الروسي الجديد واستنهاض الفكرة الاوروآسيوية القديمة (التي كان الاتحاد السوفييتي في الواقع تجسيدا ضيقا لها بأثر استحواذ القوة والعنف في تنفيذها)، والتجمع الروسي الصيني الجديد، وتوسعه صوب دول آسيا الوسطى، ثم توسعه بانخراط عينات افريقية وأمريكية جنوبية، ثم الاستدراج الواقعي للهند وباكستان وإيران إليه، سوى العملية المعقدة والديناميكية في الوقت نفسه. بمعنى إننا نقف أمام تجمع عالمي جديدة يوازي ويواجه على المدى القريب والبعيد التيار الاوروامريكي الآخذ في الأفول. وضمن هذا السياق أصبح التوجه الروسي صوب المشرق العربي وإيران جزء من هذا التيار الصاعد، وعنصرا عمليا في الرؤية الجيوسياسية الروسية المناهضة للهيمنة الأمريكية واستفرادها في القرار الدولي. من هنا يمكن فهم طبيعة الاندفاع الروسي صوب الشرق والجنوب، أي صوب الصين واسيا الوسطى وإيران والمشرق العربي (سوريا بالأخص والعراق بعد نزوع الأخير للتسلح منها والتعاون معها، بأثر الخذلان الأمريكي المتعمد، أي المحكوم برؤية عناصر ومنظومة استقلال القرار الوطني العراقي الذي جسده المالكي في سنواته الأخيرة). ومن الممكن رؤية ملامح هذا التوجه الروسي في تغير لهجة الخطاب السياسي والدعائي، الذي يستظهر باطن التحول التدريجي في تمركز المصالح الروسية العالمية.

إن هذا التوجه الجديد ليس محكوما أو مرتبطا بالنسبة لروسيا بما يمكن دعوته بمساعي الأخذ بالثأر من هزيمتها في "الحرب الباردة"، بقدر ما أنه تراكم في مجرى عقدين من الزمن بعد انحلال الاتحاد السوفيتي.

طبعا، إن للتاريخ صداه ومداه في المواقف والتوجه والأحكام. فإذا كانت العلاقة الروسية الأمريكية جزء من تراكم وتصادم وتشابك المصالح، بمعنى أن لها تاريخها الخاص، فان للماضي أيضا أثره في الحاضر، خصوصا حالما يكون "الماضي" كتلة صلدة من الأحكام السياسية والأيديولوجية.

فالعلاقة الروسية الأمريكية هي احد نماذج صعود الإمبراطوريات وانحلالها. وبما أن التاريخ الإمبراطوري هو تاريخ سياسي ثقافي، من هنا شدة وقوة مخلفاته في الذاكرة القومية والسياسية. فقد كانت العلاقة المتشنجة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة تتمثل تقاليد المواجهة بين الإمبراطورية الروسية الصاعدة والإمبراطورية العثمانية، ولاحقا بينها وبين الإمبراطورية البريطانية. وإذا كانت روسيا أكثر عراقة في تاريخها الإمبراطوري وأطولها بين الإمبراطوريات المعاصرة، فإنها الأكثر إنهاكا وتعبا. فالإمبراطورية جهد دائم وهموم لن تنتهي. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان قوة الإمبراطورية الأمريكية لم تكن في ذاتها أكثر مما كانت في صعودها المتأخر. من هنا إمكانية أفولها السريع، ولكن في ظل شروط وظروف جديدة محكومة بفاعلية العولمة. وهي الحالة التي نعثر على تناقضها الحاد في الرؤية الأمريكية ومساعيها العملية. بمعنى الدعوة للعولمة والسعي للاستفراد بها بمعايير "القطب الواحد" و"القوة العظمى الوحيدة" وفرض "الديمقراطية" و"الإصلاح" وما شابه ذلك. في حين أن العولمة الجديدة وصعود قارات ودول ومجموعات اقتصادية وسياسية تتعارض من حيث الجوهر مع كل نزوع إمبراطوري أيا كانت قوته. وهي العملية التي أخذت مداها الأولي وصداها الخجول في الدعوة لعالم "متعدد الأقطاب". لكنه خطاب بدأ يتوسع ويصدح في المواقف الروسية، وبالأخص في أواخر الفترة الأولى لرئاسة بوتن. أما زمن الرئيس ميدفيدوف (وهو استكمال أو نسخة طبق الأصل لبوتن)، فانه لم يعد يقف عند حدود الدعوة لعالم متعدد الأقطاب، بل واخذ يهاجم فكرة القطب الواحد ويعتبرها غير شرعية. وهي اللهجة النوعية الجديد في الخطاب الروسي التي تحولت بعد الحرب الأخير في القوقاز، واستعادة بوتن للرئاسة مرة أخرى، إلى مرجعية مشتركة للمؤسسات الحكومية والبرلمان ومجلس رؤساء المحافظات والنخب السياسية قاطبة.

لقد بدأ هذا الخطاب النوعي الجديد يبدو بمعايير الدعاية التقليدية الغربية كما لو انه استعادة للحرب الباردة أو حرب باردة جديدة. لكنها عبارة لا تفصح عن شيء دقيق. وذلك لان القول بها يعني أن "الحرب الباردة" لم تنته. في حين أن مجمل المعطيات تبرهن على إننا نقف أمام حالة تاريخية جديدة لا علاقة لها بتقاليد الحرب الباردة السابقة، بقدر ما هي "حرب" البحث عن توازن دولي جديد ومنافسة من اجل المصالح والمناطق.

لم يكن البحث عن توازن جديد على الصعيد العالمي أمرا واضحا وجليا. وهو توجه ما زال يكتنفه الغموض النسبي. لكن الأمور الجلية في الموقف الروسي تقوم في الدفاع عن فكرة ضرورة الخروج مما يسمى بالعالم ذي القطب الواحد، والدعوة لتعدد الأقطاب، وضرورة الاحتكام للقانون الدولي وليس للإرادة السياسية للدول أيا كانت قدرتها ومكانتها. ومن حصيلة هذه المفاهيم المتراكمة وبالأخص في مجرى سنوات القرن الحادي والعشرين، أخذت تتعمق وتتوسع فكرة العمل الفعال والنشط لمواجهة الهيمنة الأمريكية. وبلغت هذه الحالة في كثافة الخطاب السياسي الشديد اللهجة في انتقاده واتهامه للسياسة الأمريكية في الحرب الأخيرة مع جورجيا، ولاحقا استعاد النقد اللاذع والمتشددة في تقييم السياسة الأمريكية وحروبها في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، اي كل ما وجد تعبيره في الفكرة التي توصلت إليها الرؤية الجيوسياسية الروسية عن أن التدخل الأمريكي لم يؤد في كل المناطق والدول إلا إلى التخريب والتدمير وإثارة القلاقل والنعرة البدائية وتفتت الدولة وعدم تحقيق اي من الشعارات المرفوعة. بل أن النتائج جرت بالعكس تماما. وسواء كان ذلك بأثر السياسة الفعلية وليست الظاهرية (الشعارات) للدولة الأمريكية أو بغيرها، فان النتيجة واضحة وواحدة وجلية، ألا وهي أن الولايات المتحدة ليست قادرة بمفردها على حل أية مشكلة محلية أو إقليمية. ومن ثم هي عاجزة تماما عن حل المشاكل العالمية. فالأخيرة تفترض بالضرورة سياسة جديدة ورؤية عالمية مشتركة.

لم تكن النتيجة المذكورة أعلاه معزولة عن تراكم القوة الروسية الصاعدة وبالأخص تطابق فكرة المصالح الكبرى للدولة الروسية باعتبارها مصالح قومية وعالمية. بمعنى إدراك أن مصالح روسيا القومية هي مصالح عالمية أيضا. وهي الرؤية التي أخذت تتجسد في تنشيط القوة العسكرية وتوسيع مدى الاستكشاف والطلعات الجوية للطائرات الإستراتيجية، والتوجه صوب البحر الشمالي للبحث فيه عن مصادر طاقة "روسية" جديدة. وهو الفعل الرمزي الذي يود القول، بان مصالح روسيا ليس على سطح الكرة الأرضية وفي الفضاء بل وفي أعماق المحيطات والبحار، أي أنها مصالح كونية. كما لم تعد هذه المصالح جزء من نزوات عابرة، بقدر ما أخذت تتجسد في حلقات متدرجة من اجل كسب التأييد والتعضيد، بدأ من استجماع الاتحاد السوفيتي السابق في "مجلس الدول المستقلة" و"منظمة الدفاع المشترك"، و"منظمة شنغهاي" واستدراج الهند وإيران وأفغانستان ومنغوليا إليها بصفة أعضاء مراقبين، سوى حلقات تكشف عن اطر وملامح "القطب الجديد". وبمقابل الابتعاد عن معاهدة التجارة العالمية نرى التقرب مع أوبك، وبمقابل تبريد العلاقة بالأطلسي والاتحاد الأوربي نرى التقرب من دول المشرق العربي وإيران، وبمقابل الهجوم الإعلامي الأطلسي نرى توحد وتصلب اللهجة الروسية الجديدة، بحيث يردد رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء والبرلمان ومجلس رؤساء المحافظات والمعارضة كلاما موحدا ومتشابها.

إن هذه الحالة ليست رد فعل على ما هو اخذ في الانتشار من أن السياسة الأمريكية هي التي دفعت روسيا للتوجه صوب الشرق والانعزال عن الغرب، بقدر ما أنها تعكس ديناميكية الاختلاف والبحث عما أسميته بتوازن جديد على الصعيد العالمي. وهو توازن محكوم بالنسبة لروسيا بارتقاء فكرة المصالح القومية إلى مصاف العالمية. من هنا إمكانية اصطدامها بالسياسة الأمريكية التي مازالت تنظر إلى الأمور وعلى أعينها عصابة الأيديولوجية الكثيفة للمحافظين الجدد.  

مما لا شك فيه أن البحث عن توازن جديد في الرؤية الروسية ما زال قلقا بسبب قلق التوازن الدولي وعدم استقراره. من هنا تزاوج الرؤية الواقعية والاختبار العملي والتجريب الخشن أحيانا. بعبارة أخرى، إن الرؤية الروسية عن التوازن الجديد لم تتأطر بعد بنظرية إستراتيجية واضحة المعالم وثابتة، إلا أن ملامح هذا الوضوح والثبات أخذت تبرز وتتجسد بشكل متشدد في مجرى الحرب على سوريا والدفاع عن حقوق الدولة الإيرانية واستقلال قرارها السياسي. ووجد ذلك انعكاسه في مساعي الدولة الروسية لتحسين وتنويع العلاقة بالمشرق العربي (سوريا بالأخص) وإيران، ومن ثم عدم المساس بها رغم الظروف الدرامية التي كانت وما تزال تحيط "بالمشكلة الإيرانية" و"المشكلة السورية".

فقد سعت روسيا إلى توسيع وتمتين العلاقة بدول المشرق العربي وإيران ودول الخليج على السواء. ومن الممكن تذكر الزيارة التاريخية التي قام بها بوتن لدول الخليج ونوعية الاستقبال والخطاب السياسي المتبادل. لكننا نعثر في الخطاب السياسي والدعائي الروسي أيضا (وليكن غير السائد) على مواقف تقول، بان المصالح فوق الاعتبارات الأخرى. فكما أن الولايات المتحدة مع "السعودية الوهابية"، فان بإمكان روسيا السير مع إيران "آيات الله". وبغض النظر عما في هذه الفكرة من تسطيح وابتذال للظاهرة المعقدة، إلا أنها تشير إلى وجود رؤية لها صداها أيضا بين النخب السياسية لتوظيف كل ما يمكن توظيفه من اجل المصالح الخاصة.

إلا أن الرؤية الروسية الإستراتيجية الآخذة في التراكم والوضوح محكومة أيضا بطبيعة الصراع العالمي وصراع المصالح. فالغرب "مغلق" لحد ما بالنسبة لروسيا. من هنا فان التوجه صوب الشرق والجنوب أمرا طبيعيا ولحد ما حتميا. فقد رفضت ألمانيا (وأوربا) مشروع "اتحاد الطاقة" الروسي. تحت حجة "تنويع المصادر". ومن الممكن فهم الرفض الألماني، لكنه يعكس في الوقت نفسه بقايا عدم الثقة ومحاولات عزل روسيا عن "أوربا". ولعل الأحداث الأخيرة المرتبطة بالصراع حول اوكراينا والتحمس المتشدد في توسيع وتعميق المواجهة مع روسيا وجعل لغة المقاطعة الاقتصادية والسياسية والتلويح بالقوة العسكرية (توسيع خطوط الأطلسي اقرب فاقرب من الدولة الروسية) سوى احد مظاهرها الجلية. كل ذلك يكشف عن أن الصراع بين روسيا والغرب (الاوروامريكي) لا علاقة له بطبيعة النظام السياسي ومستوى تطور الدول. فقد أثارت كل هذه الأحداث الأحقاد وسرائر النفس الاوروامريكية من روسيا بوصفها "الدب المخيف" بغض النظر عن التغير النوعي في النظام السياسي (الديمقراطي) والاقتصادي(الرأسمالي). إننا نعثر في مجمل السياسة الاوروامريكية الأخيرة من روسيا استمرار ما يمكن دعوته بخلل الإرادة الأوربية وعدم نضج وتكامل رؤيتها السياسية الإستراتيجية. وهذا بدوره ليس معزولا عن خضوعها المباشر وغير المباشرة للسياسية الأمريكية.

وبالمقابل نرى صيرورة التكامل الفعلي في الرؤية الروسية فيما يتعلق بمجمل المشاكل الداخلية والخارجية الإقليمية والعالمية وكيفية مواجهتها وإيجاد الحلول لها، سواء باستقلال القرار الروسي أو عبر استجماع القوى القادرة والمستعدة للبحث عن بديل عالمي متوازن. وهو تكامل يجري في ظروف معقدة لا تخلو من درامية ودموية، اي كل ما نعثر عليه في حالة الانتقال الجلية للرؤية الروسية من التأرجح بين متطلبات الصراع المحكوم بمصالح ضيقة وجزئية وعابرة وضغوط خارجية، إلى إدراك ضرورة الثبات حول مبادئ إستراتيجية بعيدة المدى. وعلى كيفية حسم هذه المعادلة القلقة تتوقف ديناميكية الحالة الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية لمنطقة المشرق العربي وإيران.

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم