قضايا

حديث الولاية: المعراج

مجدي ابراهيمعَبَرَ صوفي هندي مسلم هو "عبد القدوس الجنجوهي" عن إرادة الاتصال الدائم من مقام الشهود حيث لا رجعة ولا عودة، حيث قال: "صَعدَ محمد النبي العربي إلى السماوات العُلى ثم رجع إلى الأرض. قسما بربي! لو أني بلغت هذه المقام لما عدتُ أبداً" فهذه هى غاية الصوفي من وراء المعراج : الوصول الدائم والاتصال الذي ما بعد عودة، ولكن هيهات !

وبما أن الصوفية في اتصالهم بالله يتخذون من معراج الرسول عليه السلام نموذجاً كاملاً لمعاريجهم الروحيّة، فيهتدون بهديه ويتلمسون طريقته، ويعتبرون إتباع النبي والاسترشاد به أول شرط من شروط السلوك إلى الله، وينحون باللائمة على نظار المتكلمين والفلاسفة الذين يعتدون بعقولهم ويعتقدون أن فيها الكفاية والضمان للوصول إلى الحقيقة المطلقة، فإن في هذا كله ما من شأنه أن ينفي تماماً القول بأن فكرة أفلاطون عن النفس كانت أساساً اتخذه الصوفيّة لوصف معراجهم الروحي، وهو قول يتغافل عن معراج النبي صلى الله عليه وسلم، وأثره الواضح في تشكيل معاريج الأولياء والعارفين. ألم يقل ابن عربي شعراً يعبر به عن الاهتداء بالشريعة والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معراجاً قائماً على متابعة السّنة في القول وفي الفعل، وذلك حين قال :

ولا تقتدي بالذي زالت شريعته             عنه ولو جاء بالأنبا عن الله

ونحن لما نتبيَّنه من نظرية المضمون لا نستطيع أن نوافق هذا القول بوجه من الوجوه، بل نرد وصف المعراج الروحي عند الصوفية إلى معراج الرسول عليه السلام الذي هو في عينه المضمون الإسلامي يتكئ عليه الصوفية ويتمثلونه حتى الرمق الأخير. صحيح أنهم قد تأثروا بأفلاطون في بعض المناحي الفكرية إنْ في النفس وإنْ في غيرها، لكنها مع وضوح التشابه بينها وبين السلوك الصوفي، لم تكن بحال هى الغاية. ربما تشابهت الوسائل بين فكرة أفلاطون عن النفس، وبين سلوك الصوفية بإزاء المسيرة الإلهية، إنما الغاية لا شك مختلفة. لم تكن لأفلاطون فكرة واضحة عن الناحية العلمية والتطبيقية التي تنصقل بمضمون إلهي مُوحي به لرسول جاء يبلغ للناس رسالة ربه. وإنْ كانت لأفلاطون بعض الأفكار البارزة في مجالات الميتافيزيقيا، فهى أطر خارجية وتنظيرية خاوية جدباء من المضمون العقائدي الذي طبقه الصوفية في حياتهم الروحية؛ فأفكار أفلاطون برغم هذا التشابه لا تمَسّ التصوف من ناحيته العملية والتهذيبية أو من ناحية الغاية التي يسمو إلى بلوغها في الاتصال بالله على النحو الذي يجيء فيه الاتصال معراجاً روحيا تماماً كمعراج النبي أو مثله قدوة ونموذجاً ومثالاً محفوراً في بطن المضمون.

لقد صور ابن عربي، كما صور الغزالي من قلبه، المعراج الروحي تصويراً يشبه عملية التحول في العناصر المادية في أحد فصول الفتوحات المكية بعنوان "كيمياء السعادة"؛ وهو الفصل رقم (167) حيث يتخذ رمزاً لصعود الإنسان إلى السماء؛ فحيث إن غاية النفس شهود الله، فلا غرو في أن تجاهد هذا العالم الذي وضعها الله فيه، لكي تحصل كمالاتها فتحظى في النهاية بمقام رفيع هو الغاية التي كانت تقصدها وترمي على الدوام إلى بلوغها : شهود الله والاتصال به.

ويذكر " أسين بلاسيوس" أن " دانتي" قد تأثر تأثراً واضحاً بهذا الفصل الذي يصف فيه ابن عربي الاتصال بالله عن طريق المعراج الروحي والصعود إلى الفردوس. وكذلك تأثر أيضاً برسالته التي يصف فيها رحلة النفس إلى المقام الأعلى حيث تنكشف لها حقائق الكون في عالم الملكوت، وهى بعنوان"الإسراء إلى مقام الأسرى"، وهناك من الآراء التي تعد ابن عربي من إتباع المدرسة الإشراقية، نظرا لأن أثار السَّهْرَوَردي المقتول وصلت إلى المغرب وتتلمذ إليها ابن عربي.

ولا خلاف على أن ابن عربي يمثل وحده مدرسة كبرى من المدارس الصوفية؛ وإنه جاء بأقوال نظرية لم تكن موجودة من قبل في التصوف لا عند السهروردي ولا عند غيره من الصوفية الأوائل والسابقين عليه؛ هى الأقوال التي صبغت آراؤه بصبغة وحدة الوجود، وهى نظرية فلسفية كما هو معروف، في الوقت الذي لا يمكن لنا أن نخرجها عن مضمونها الديني العميق في فرط الإيمان وجذوره التحقيق. وكذلك؛ لا يمكن أن نحذفها من أصولها الروحيّة في الإسلام - إنْ في التصوف السني أو في آراء السهروردي المقتول - لكنها على أية حال هى مختلفة الطابع والمضمون والصبغة الفلسفية عن الفلسفة الإشراقية اختلافاً تاماً.

معراج الصوفي الذوقي، إنما هو معراج تنكشف له فيه أسرار الذات الإلهية والأسماء والصفات انكشافاً لا يستطيع التعبير عنها، وهذا مقام المعرفة الحقة : أسعد ساعات السعادة عند الصوفي غبطة عظمى هى بلا شك ثمرة الإيمان يستأنس بنوره العارف فيقوده إلى اليقين ثم إلى الشهود. هذا المعراج الروحي مختلف في طبيعته وخصائصه عن المعراج العقلي - إنْ صح أن يكون للعقل معراج على الحقيقة - وهو الذي كان ابن عربي تخيله في التفرقة بين علوم النظار من المتكلمين والفلاسفة، وبين علوم الصوفية من أهل الذوق وكبار الروحانيين، تماماً كما فرّق الغزالي قبل ابن عربي بين مسلك النظار - فلاسفة كانوا أو متكلمين - وبين مسلك أهل الكشف من الصوفية الذين يستمدون علومهم ومعارفهم من مشكاة النبوة.

بطبيعة الحال يختلف هذا المعراج الروحي عند الصوفية عن المعراج النبوي وإنْ كان في الوقت ذاته يشاركه المثال، لكنه يختلف عنه باختلاف درجة الوعي بين الأولياء والأنبياء؛ فالوعي النبوي إنما هو وعي يتحكم في ضبط قوى التاريخ ضبطاً يوجهها نحو إنشاء عالم جديد من المثل العليا.

ورجعة النبي من معراجه الروحي هى رجعة مبدعة؛ إذْ يعود ليشق طريقه في موكب الزمان؛ فيتغير بعودته نظام العالم الإنساني تغيراً تاماً. وقد لاحظ الدكتور "إقبال" الفرق بين الوعي النبوي والوعي الصوفي إذ إن :" رغبة النبي في أن يرى رياضته الدينية قد تحوّلت إلى قوى عالمية حيّة رغبة تعلو على كل شيء، ولهذا كانت رجعته ضرباً من الامتحان العملي لقيمة رياضته الدينية، فإرادة النبي في عملها الإنشائي، تقدر قيمتها هى كما تقدر عالم الحقائق المحسوسة التي تحاول أن تحقق وجودها فيه.

وعندما يتغلغل النبي فيما يواجهه من أمور مستعصية وينفذ إلى أعماقها تتجلى له حينئذ نفسه فيعرفها، ويزيح القناع عنها فتراها أعين التاريخ ". ولا هكذا الحال في عودة الولي؛ إذا نحن وضعنا في الاعتبار اختلاف وعي النبي عن وعي الولي. فالولي لا يريد العودة من المعراج الروحي، بل غايته الاتصال الدائم، غايته هى مقام الشهود، وحين يرجع من هذا المقام - ولا بد له أن يفعل؛ فإن رجعته لا تعني الشيء الكثير بالنسبة للبشر على وجه العموم. إنما المعراج في هذه الحالة ذاتي خاص، والرجعة منه كذلك ذاتية خاصّة. هذه الذاتية المتفردة التي تضرب بجذورها في أغوار النفس البشرية، إذا عززها الدين، يعزز فيها العمق الداخلي والجذوة الباطنية، ولا يعزز فيها ظواهر الشكليات إلا بالمقدار الذي يفهم على المستوى الإنساني، وبخاصة إذا كان هذا المقدار مردّه إلى مطالب الشرع وضرورة التمسك بقيوده من الوجهة العملية.

فلا التحلل من هذه القيود يعطيها حق الظفر المطلق بذلك "التعزيز"، ولا هو ييسر لها ذلك التعميق الداخلي الذي نقصده، وإنما تتفرد "الذات" وتتحرّر من القيود والعلائق، ثم يتعزّز فيها مثل هذا التفرّد، إذا هى استبطنت مطالب الشرع وكشفت بنفسها عن الضرورة الواجبة له في صميمها، حينذاك تتسع لها القدرة فتمتلك "الإرادة" الحيّة لأن تصبح ذات حرة من قيود العلائق الخارجية، فلا يصفو لها الصفاء كله إلا إذا تحرَّرت بمثل ما يكون التحرُّر دليلاً على الطلاقة الروحيّة معراجاً دائماً للاتصال بالذات المطلقة.

سرُّ النور المُشْرق الوَضَّاء في عقول الحكماء وقلوب العارفين يرتدُ كما أسلفنا إلى جهاد النفس بقوة التجرُّد والصفاء، وهى قوة مستقاة من "عين الحقيقة المحمدية"، من الأساس الشرعي الذي اعتمده الصوفية. وللفيلسوف الصوفي البارع شهاب الدين السَّهْرَوَرْدي المقتول (سنة 587 هـ) مقولة تتمثل هذا الأساس الشرعي كل التمثل, وتكشف عن طواياه الدفينة في أعماق وعي الباطن الصوفي حيث يقول :" إذا ما تَجَرَّدْنَا عن الملذات الجسمية؛ تجلى لنا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا، وهذا النور صَادرٌ عن كائن منزلته منَّا بمنزلة الأب، والسيد الأعظم للنوع الإنساني، وهو الواهب لجميع الصور، ومصدر النفوس على اختلافها، ويسمى"الروح المقدسة"، أو بتعبير الفلاسفة "العقل الفعال". هذا الكائن والسيد الأعظم هو محمد صلوات ربي وسلامه عليه. هو عين النور، هو نور الأنوار، وهو السر الأكبر، والجوهر المصون، هو بشر، نعم ! لكنه لا كالبشر، بل كالياقوتة بين الحجر.

وإنك لترى في عبارة السَّهْرَوَرْدي أن شرط معرفة هذا السّر الأكبر الذي يتجلى لنا خلال النور الإلهي فلا ينقطع مدده عنا، هو شيء واحد فقط : التَّجَرُّد عن الملذات الجسميّة، ولكن هذا التجرد لا يتأتى عبثاً فارغاً من دلالة، إذْ ليست مجاهدة النفس مجرد كلمة تقال، ولا هى باللفظة الفارغة من معناها، إنما المجاهدة حياة تقامُ على الإرادة.

ليس ضعفاً أن يتعلق قلب الإنسان بخالقه، بل الضعف كله أن يتعلق قلب الإنسان بالمخلوقين. وليس ضعفاً أن يكون قلب العبد ذا سر مع الله، هو بمثابة المؤشر الذي يحركه في كل اتجاه يرضى عنه الله تعالى، لكن رضى الله شيء، ورضى النفس شيء آخر. كلُ ما يرضي الله يسخط النفس، وكل ما يرضي النفس يسخط الله؛ والتوفيق بينهما من أمحل المحالات التي تقف عقبة أمام العقل البشري.

ولم يأتِ الشارع الحكيم بالحكمة السديدة إلا ليتمِّم محاولات العقول البشرية القاصرة، جاء ليكملها بعد نقص، ولو أن في فهم العقل البشري وحده قدرة لفهم مُرَادَات المشيئة الإلهية لاسْتَغْنَى الناس عن رسالة الأنبياء، لا بل لو أن فيه قدرة لفهم العقل نفسه لنفسه، ولفهم ما أحاطت به علوم الدنيا، لألتمس الناس في العقل وحده الهداية، وطلبوا المعونة منه دوناً عن سواه، ومن ثم اكتفوا به في تقرير مسائل الغيب وكشف خفايا المصير، وهذا ما لم يحدث قط في كل حُقَب التاريخ : أن يُعَوِّل الناس على العقل وحده دون وحي النبوة وأن يكتفوا به عن مطالب الغيب.

ولو أن لعقول الناس إحاطة شاملة تامة لعرفوا الله تعالى بمقتضى عقولهم القاصرة، ولكانت حاجتهم إلى الرُسل والأنبياء ليست بذي شأن. إنّ الحكمة الإلهية لا تتمُّ بغير نور النبوة؛ أعني أن الحكمة الإلهية لا يمكن نقلها إلى الناس بغير معراج النبوة. ولم يكن مصادفة أن نقرأ في كتاب الله قوله تعالى :" قُلْ إنْ كُنْتُم تُحبُّوُنَ الله فَاتَّبعُوُني يُحْببكُم الله " (آل عمران : آية 31 ). شرط إرادة محبة الله هنا الإتباع لرسول الله صلوات الله عليه وقوله :" يَا أَيُّهَا الذَّينَ آمَنُوا اسْتَجيبُوا لله وَللرَّسُول إذا دَعَاكم لما يُحْييكُم" (الأنفال : آية 24) .

هنا يمكن أن يقال لك حقاً : إذا أردت أن تحيا, فعش كما يحيا الذين يريدون، وإذا أردت أن تعيش بإرادة الحياة، فوافق الحياة على ما تريد منك، لكن أعرف قبل ذلك ماذا كان هؤلاء المريدون للحياة يريدون؟ هنا، وهنا فقط، "إرادة الحياة" : الاستجابة لله ولدعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ وتلك هى "صفة العارف" في أعز ما يظهر عنده من صفات : الاستجابة والطاعة والتسليم لأمر الله ولدعوة رسوله على شرعة المحبة الفائقة وتوجه الإرادة والتَبْصرة بمعنى الحياة الحقة.

فاستجابتنا لرسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - هى الحياة، الحياة على شرعة الموافقة والتوفيق، هى هنا "إرادة الحياة"، وإتباعنا له هو عين محبتنا لله تعالى. ففي معراج النبوة كفاية الهداية لبني الإنسان، أما دَوْرُ العقل، فليس هو بالدور القليل؛ لكنما هو الدور الذي يفهم عن النبوة سرِّها في نقل الحكمة الإلهيّة إلى البشر ليعرفوا معناها، ولا يعرفوها من تلقاء أنفسهم التي تلوثها المطامع والأهواء، لا تزال تخفى وراءها "القدرة"، وهى عاجزة مسلوبة القدرة أو تكاد؛ ولكن يعرفوها - فيما لو شاءت الاستجابة لله حقيقةً - من تلقاء "نور النبوة".

هنا, وهنا فقط, يكمن دور العقل البشري : أنْ يتلقي من "نور النبوة" ما في طاقته أن يتلقاه، وأن يُبْدع في غير حدود، يُبدع في مثل هذا التلقي من الوسائل والطرق ما شاء له أن يبدع ما دام مجاله في تلك الإمكانية مُقرراً سلفاً لا شك فيه، فلن يعوق العقل عائق عن أداء دوره ولن يحجبه عن تأدية رسالته حاجب مادام قد فهم المهمة المنوطة به في إطار ما هو محدد له. ومن ثمَّ قامت "رسالة الصوفية" : التماس معرفة الحقيقة الإلهية من طريق غير طريق العقول المحدودة، من طريق الحرمان! أعني حرمان النفس الإرادي لما يُبَاح لغيرهم من طلاب الحقائق بطريق في التَّوَجُّه غير طريقهم. ومن هنا أيضاً، نُدْرك سرَّ تسمية القشيري كتابه في التصوف بــ "الرسالة"، بمقدار ما ندرك سر شهرة هذا الكتاب خاصَّة من بين كتب القشيري؛ لأن الرسالة الصوفية ليست كرسالة "العقل" لدى المتكلمين والنظار، إنها تُشْبه رسالة النبوة لتقترب من مشكاة الأنوار النبوية؛ أو لأنها تعبيرُ عن رسالة النبوة وَمُتَضَمّنَة لها، رسالة الصوفية خاصّة بمنهج وبطريق.

أمَّا المنهج؛ فذوقيُّ تعمل فيه الإرادة البناءة عملها الفعَّال من حيث التطبيق والممارسة والمعايشة والحياة وتذوق الحياة الدينية والإحساس بها وتشرُّبها من الداخل.

وأمَّا الطريق؛ فهو طريق المعاناة وركوب المتاعب والمقاومة العنيفة، هو كما قال الشيخ أحمد زَرُّوق في رسالة "الأصول" (ص 117) يتمثل في :" علو الهمة، وحفظ الحرمة، وحسن الخدمة، ونفوذ العَزْمة، وتعظيم النّعمة؛ فمَنْ عَلَتْ همته ارتفعت مرتبته، ومَنْ حَفَظَ حُرْمة الله حفظ الله حرمته، ومَنْ حسنت خدمته وَجَبَتْ كرامته؛ ومَنْ نفذت عزمته دامت هدايته، ومَنْ عظمت النعمة في عينه شكرها، ومَنْ شكرها أستوجب المزيد من النعم".

ثم هو بعد ذلك "فقهُ اللحظة الحاضرة"؛ الوصف الذي أجمع عليه قدماء علماء الإسلام، كابن قيم الجوزية في كتابه (روضة المحبين ونزهة المشتاقين من طبعة دار الفكر العربي؛ القاهرة سنة 1397هـ ؛ ص 315 ) حين عبَّر عن ذلك واصفاً الشجاعة بأنها صبر ساعة؛ فالشجاعة صبر ساعة وخير العيش ما يدركه المرء بصبره. والصبر كما عرفه الغزالي كاشفاً لمعناه حقيقةً هو :" ثباتُ باعث الدين في مقابل باعث الهوى" (إحياء علوم الدين؛ جـ 3, ص 76) . وخيرُ المرء كله في صبر تلك الساعة، لكأنما كان صبر هذه الساعة هو بالضبط "فقه اللحظة الحاضرة "، ماذا عَسَاَكَ فاعلُ فيها؟ هل تَتبع نفسك أم تتبعك نفسك، أتريد أن تركبك أم تركبها؟

وليس من شك في أن العلماء والحكماء اتفقوا - فيما يقول الغزالي - على أنْ لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات؛ فالإيمان بهذا واجبُ، ونهي النفس لا يكون إلا بطريق الرياضة. وحَاصلُ الرياضة وسرَّها أن لا تتمتع النفس بشيء مما هو موجود إلا بقدر الضرورة، فالمرتاض لهذا الطريق يكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن، وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه، ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا مَنْ لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا أن يكون القلبُ مشغولاً بمعرفة الله وحبه، والتفكر فيه، والانقطاع إليه، ولا قوة للمرء على ذلك إلا بالله ... ولتلحظ قوله :"لا قوة للمرء على ذلك إلا بالله"؛ تجدنا نقرر مع الغزالي أن التجربة مع الله هى بالأساس توفيق. حين تقبل على الله بكامل الهمة، فهو قبول توفيق؛ وحين يكون همك كله هو الله تعالى، فهذا في الأساس توفيق. لا تصدق أن الإنسان بمستطاعه أن يتصل بالله عن طريق إرادته هو، أو عزيمته هو، كلا .. بل الله من وراء ذلك، الله هو الذي يوفقه إلى الله ليصبح من فوره رَبَّاني المعرفة، إذْ لا قوة للمرء على معرفة الله وحبِّه إلا بالله، وصدق الغزالي؛ وصدقت تجارب المحبين معه في وصف الحالة وتشخيص النزوع .

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم