قضايا

جدوى الكتابة بين ضفتين

علي المرهج

كثيرٌ من الكتاب وأنا منهم لا يستشعرون بجدوى الكتابة، ممن يرغبون العيش على ضفة نهر الحرية في عوالم الكتابة الحرة، هم من الحالمين أمثالي، نأمل حين لحظة الكتابة وبعدها التأثير والفاعلية في كثير أو بعض ممن يقرأون لنا، ونفرح اليوم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي حينما يمر صديق بلايك أو تعليق مُجامل بقول (أحسنت) أو (منور)، وشكراً له إن كان صادقاً، أو يروم أن يبعث فينا بعض من أمل، ولكن الكتابة بحد ذاتها تبقى هم يعتمر في نفس الكاتب يبغي الافصاح عنه والتصريح به، وهذا الهم ليس سوى محاولة لتفريغ شحنات ضغط القراءة ماضياً وحاضراً، وبقايا شحناتها الإيجابية، أو تخليص لذاكرة العقل الذي يُخاطب ذات القارئ لا بوصف الكاتب هوا واحد، بل هو "أنا" و "آخر"، الجسد "الأنا" المرهق من حمولة ذكريات العقل "الآخر"، أو العقل "الأنا" الذي ملَ الوجود في الجسد "الآخر".

ذات الكاتب "أنا" مُتشضية" "ثنوية"، جسد يروم فعلاً مُفارقاً، رافضاً لسطوة العقل، وعقل يُفكر بحرية ملَ الجلوس والإنتظار على مسطبة احتياط الفكر وضغط حاجات الجسد في المُدارات والرغبة في العيش في وسط وفكري اجتماعي ونخبوي مخملي.

الكاتب له يدان تخطان ما ينطق به القلم، أو ما تضرب به أصابع يديه على "كيبورد الحاسبة"، مرةً يستشعر بها "الكاتب" أن الجسد "اليدين"، هما من يقودا العقل ليخط ما يُريد، وأخرى يرى العقل ما لا يستشعره الجسد بكلتا يدي الكاتب اللتان تخطان الكلمات، كلمات، كلمات، فهل في حياتنا وواقعنا المادي ما يلتذ به الجسد خارج الكلمات التي تخرج من مُخيلة العقل؟!.

ربما، هناك الكثير من كلمات صاغتها غريزة الجسد، والعقل ليس سوى أداة لتدوين ما ترغب به أجسادنا نحن البشر في التعبير عن طبيعة وجود تقتضيها الحاجة الفطرية أو الغريزية التي يرنو لها الجسد، أو تقتضيها حاجاتنا المادية للعيش في مجتمع "عربي" كل رأس ماله الرمزي اليوم هو الحضور والتأثير مادياً، والمادي والجسدي، هما صورتان للـ "التقمص الجسدي" بعبارة بورديو، للإشارة، أو الرمز على حضور الفرد في الجماعة التي نشأ فيها، أو هو اليوم جزء من ماكنة التعبير "الوجودي" الفاعل وحضورها السياسي والاعلامي.

وربما يكون الكاتب أداة بيد السلطة، يرغب بالعيش على ضفة النهر الأخرى بكل شناشيل قصورها الفخمة، وهؤلاء في مجتمعاتنا كُثر، فمرة قال أستاذي مدني صالح: "أُعطني دولاراً، أُعطيك فيلسوفاً" إشارة منه وتصريح على أن العقل من الممكن أن ُيباع ويُشترى، كما تُباع العبيد في سوق النخاسة!.

وفي هذا الحال، سيكون الكتاب، ليس جسداً "آخر" يُفارق أناه "الفكر"، ولا يكون الفكر "أنا" تُفارق جسدها "الآخر"، إنما هو في هذه الحال، وإن بدى من قبيل تصور المُحال، إنما يُغادر خارج التصورات القيمية لعوالم الإنسانية الحالمة والمثالية، فلا "أنا" ولا "آخر" تُرتجى من هكذا كاتب، لأن من يبيع أناه، سواء أ كانت هذه الأنا كما يرتضي، هي "جسده"، أو "أناه" هي عقله، والعكس صحيح، فهو، ممن تصح عليه إنطباق وصف السلعة في التوصيف في عوالم البيع والشراء، فالقيمة مفهوم يُطلق على من تستطيع تحديد مقياس تعقله وخلقه إنسانياً، وهي في عالم الانتاج والتصدير والإستيراد، وهو في هذا الوصف حاله كحال السلعة يُمكن أن تُقيمه وفق حاجة السوق والعرض، ولكنه أخس من أن يُعطى قيمة حتى في البيع والشراء، وإن نظر له من وظفه على أنه من عالم السلع، فهكذا كاتب لا قيمة له لا في قوائم الحضور الإنساني المُغرية جسدياً، ولا في قوائم الحضور الإنساني المغرية فكرياً، على ضوء تصورات قيمة "الجسد الحر" الذي لا يقبل صاحبه لا بيعاً ولا شراءً في عوالم النخاسة والبغاء الجسدي جمالياً، أو قيمة "العقل الحر" الذي لا يقبل البيع والشراء في عوالم النخاسة الفكرية ذهنياً، فلا قبول له بسوق العرض والطلب في عوالم الإنسانية الحرة، ولكن له قبول بسوق العرض والطلب في سوق النخاسة والخسة في عالمنا العربي اجتماعياً وسياسياً.

الكاتب الكاسب في عالمنا هو من يُتقن صياغة ألفاظ المدح والثناء للسلاطين من ساسة السوء وسدنتهم، ممن خربوا البلاد وزينوا للعباد أفعال السلاطين، فكانوا خير سدنة لا "أنا" لهم ولا حضور إلَا بحضور وفاعلية "أنا" مُتغطرسة هي "أنا" الحاكم الفاسد، ولا "آخر" عندهم غير "آخر" غيَب عقله و "أناه" ليجعل من "أنا" الظالم وما يقوله وينطق به "سدنته" هي "الأنا" الكلية النطاقة بإسم المجتمع "الآخر" الذي لا حول له ولا قوة.

أما الكاتب الكاتب، وليس الكاتب الكاسب، فـ "أناه" لا تُختصر ولا تنحسر في "أنا" "الآخر" الحاكم الظالم الفاسد، بل "أناه" هي الناطق الرسمي بإسم "الآخر" المجتمع المغلوب على أمره. هو كاتب لا يُباع ولا يُشترى، ولا ينتظر عطايا المستبد وسدنته من "وعاظ السلاطين"، هي "أنا" حرة تنطق بإسم جميع الأحرار الذين لا يقبلون بطاعة لأحد غير طاعة "المطلق" الذي تصوروه كل حسب دينه ومعتقده على أنه مثال الحق الذي يُتيح لكل مُصدق به كل حسب دينه بأنه إنما جاء لينصر المظلومين والمضدهدين من الأحرار الذي يبحثون عن مساحة وأفق رحب يُتيح لهم القول والتعبير الحر.

إن جدوى الكتابة بين من يعيشون على ضفة الحرية، والذين يعيشون يلتقطون فتات الساسة القادة من الفُساد، أمر لا يُمكن حساب الفرق فيه، فمن يعيش على ضفة الحرية ويستنشق عبيرها في عالمنا المليء بالفساد، سيكون إحساسه بجدوى الكتابة أقل جذوة من كاتب يعيش مُتنعماً بهبات وفتات أسياده.    

 

علي المرهج – استاذ فلسفة

    

 

 

في المثقف اليوم