قضايا

ليلة تسليم جلجامش لليهود؛ فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (28)

حسين سرمك حسنالقسم الثاني: مغالطات من صفحة المقدّمة: التناص المزعوم:

من مفارقات كتاب الأستاذ ناجح المعموري هذا هو ان عنوانه هو "الأصول الاسطورية في قصة يوسف التوراتي"، لكن لاحظ ما يقوله في الأسطر الأولى من مقدمة كتابه:

(كنت منذ سنوات مهتما بقصة يوسف التوراتي وعلاقته التناصية مع ملحمة جلجامش بوصفها نصا مكرسا لعب دورا بارزا في التأثير على الآداب الشرقية، وتبدّى هذا في الملاحم والنصوص الأدبية وتوصلت القراءة الى التناصات المهمة بين الملحمة وسفر التكوين، وقدمت هذه التوصلات ضمن كتاب (ملحمة جلجامش والتوراة) الذي صدر في دمشق عن دار المدى 2009 - ص 31) (1).

وهو تقديم غريب يقفز من تناص ملحمة جلجامش مع قصة يوسف التوراتي الى تناصات ملحمة جلجامش مع سفر التكوين !!

ثم يعود إلى القول:

(واستمر اهتمامي بقصة يوسف التوراتي وحصرا قميصه الأحمر وصلة ذلك مع الالوهة الشابة المذكرة في الشرق، وفعلا تأكدت العلاقة الثقافية القائمة بين عدد من الآلهة ويوسف - الصفحة نفسها) (2).

الآن عدنا إلى موضوعة الأصول الأسطورية لقصة يوسف التوراتي ليعود الأستاذ ناجح ويقول قبيل النهاية:

(تظل ملحمة جلجامش الشهيرة جدا نصا مؤثرا في قصة يوسف التوراتي ولا يمكن تجاهل تأثيره المبكر في كل ثقافات الشرق الأدنى القديم وكان لحكاية الأخوين المصرية مجال متمركز أيضا. وقد اتضح للقراءة بأنها قد نسخت في النص التوراتي، ولا تحتاج إلى جهد كبير بمعرفة واكتشاف التفاصيل المرتحلة.

أما النص الأسطوري السوري فانه ساعد الدراسة على رسم إطارها الجديد المرتبط بتكون لحظة الالوهة والتضحية بأهم العلامات الدالة على نظام الخصب والانبعاث - ص 32 و33) (3).

ومن يقرأ هذا المقطع ويربطه بعبارة الاستهلال، سيعتقد أن الكتاب يتركز على كشف صلة قصة يوسف التوراتي بملحمة جلجامش، وأن حكاية الأخوين والنص الأسطوري السوري ما هما إلا حاشية على المتن . ولكن ما سيجده هو عكس ذلك تماماً حيث كان التركيز الأساسي على صلة قصة يوسف التوراتي بحكاية الأخوين أولا، والأسطورة السورية ثانيا، وبعد (194) مئة وأربع وتسعون صفحة، يأتي قسم عنوانه (ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي) ويتكوّن من (17) سبع عشرة صفحة فقط، يتحدّث فيه ناجح عن التناص (المزعوم)، بين ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي .

وأقول أنّ هذا التناص "مزعوم"، لأن كل ما يقدّمه ناجح عن التناص بين الملحمة والقصة مفبرك وملفق ولا أساس له، ويمكن دحضه بمجرد تحريك مفردات قليلة من مكانها في التحليل .

ظاهرة خطيرة في الثقافة العربية: بدون هذا التناص لا محل للدولة اليهودية في الوطن العربي:

لكن قبل ذلك دعوني أتوقف عند ظاهرة خطيرة صارت تبرز في الثقافة العربية منذ أكثر من عقدين، وتمس جانباً من مشروع الصديق الباحث ناجح المعموري هذا: كشف الأصول الأسطورية لقصة يوسف التوراتي . وسنجد أن الأصول الأسطورية التي يركّز عليها هي أصول تتعلق بالعراق ومصر تحديداً والشرق الأوسط عموماً !! . يقول ناجح في المقدّمة بعد أن يعرض تعلّقه بكشف أصول قصة يوسف التوراتي الأسطورية:

(وستساهم هذه الدراسة في توسيع المجال التوراتي والإشارة إلى مصادره الحيوية / الفعالة التي صاغت البنية الذهنية التوراتية والتي تسللت إلى ديانات الشرق المؤسسة وأخذت منها ما يساعدها على إعادة صياغة النص التوراتي الذي ظل شفافاً، كاشفاً عن طبقات ثقافية ليست له، على الرغم من محاولات الكهنة اليهود لإضاعة وطمس العناصر الدينية الأخرى - ص 32) (4).

وناجح – كما يبدو واضحا – دقيق في القول إن الكهنة اليهود حاولوا إضاعة وطمس العناصر الدينية الأخر . ولكنه يقع في كبوة كبيرة حين يحاول إثبات وجود "تناص" عفوي بين الجانبين: التوراتي، والعراقي والمصري القديم، لأنّ ما حصل هو سرقة كبرى وعملية سطو مدروسة وذكيّة من قبل الكهنة اليهود، وذلك لإرباك تراث المنطقة ووقائعها التاريخية التي تحمل الأسطورة جانباً كبيراً منها أوّلاً، ولجعل التوراة تبدو وكأنّها وريث "شرعي" للإنجازات الفكرية والأسطورية العظيمة التي حققتها حضارتا النيل ووادي الرافدين (مصر والعراق)، وكذلك الحضارة السورية القديمة .

ولم يعد سرّاً القول بأن الجهات اليهودية الصهيونية المعاصرة تخصص الأموال ومراكز البحوث ودور النشر وتسخّر الباحثين المميزين – من دون أن يعلموا في كثير من الأحوال - لكي يعملوا بدأب وبكل طريقة ليكشفوا الأصول الأسطورية للفكر التوراتي حتى لو عن طريق الكذب والتلفيق . فمن دون هذا المشروع الذي يجعل الفكر التوراتي جزءا أصيلا من مكوّنات فكر المنطقة، ووريثا لإنجازاتها الأسطورية الريادية العظيمة، لن يكون هناك مستقبل فكري وقبول نفسي مؤسس عليه، للمشروع اليهودي الصهيوني في فلسطين، خصوصا وهو مقبل على إعلان دولته اليهودية في فلسطين المحتلة، وستبقى "إسرائيل" كيانا هجينا لا يمكن أن تستقبله ثقافة المنطقة (ثقافة العراق ومصر وسوريا خصوصا) التي هي ثقافة مناقضة تماماً للفكر التوراتي الذي يريد ناجح جعله فكرا مصادره الحيوية الفعالة كامنة في ديانات الشرق المؤسسة كما يقول في مقدّمة كتابه (ص 32) . وكلامه هذا لا يمكن أن يصدر من باحث عربي في مجال الأسطورة لأن معناه أنه لا يعرف المميزات الأساسية لديانات الشرق الأدنى القديم، ولا يدرك أنها مناقضة بصورة جذرية للفكر التوراتي كما سنشرح ذلك بالتفصيل .

وفي ختام المقدّمة يعلن ناجح عن ثقته بأن دراسته هذه سوف تثير الإهتمام:

(وأنا وائق بأن هذه الدراسة المتواضعة ستثير اهتماماً، مثلما ستساهم بتعميق المجال الثقافي المعني بالأسطورة والتوراة، كما إنها تنطوي ضمنا على اعتراف بكل من ساهم بالكشف عن اصالة الحضارات ودورها الكبير في إنتاج وصياغة الديانات القديمة - ص 33) (5).

وفعلا ستثير هذه الدراسة الإهتمام، فهي ستكون – وبحسن النيّة المؤكّد - جزءاً من مشروع خطير يُنفّذ - ويا للخيبة والألم – بالنوايا الحسنة، وبعرق وجهد وعناء الطرف الذي سوف يكون الخاسر الأوحد من تحقيق أهدافه وهو نحن .

 

حسين سرمك حسن - بغداد المحروسة

 

 

في المثقف اليوم