قضايا

الموقف التلفيقى فى تجديد الفكر العربي

علي رسول الربيعييقدم زكى نجيب محمود آراءه بوصفه يتبنى الوضعية المنطقية من الناحية الفلسفية، وبالتالى ضد التعميم الميتافيزيقى الفج، لكنا كما سنلاحظ أنه غالبا ما ينطلق من مثل هذا الأخير، حينما يتصدى لمسألة العلاقة بين (النحن) و(الغير) بين (الأصالة) و(المعاصرة)، فالعقائد التى تمثل عنده عنصر تفردنا الثقافى، يعتبرها واقع ثابت مطلق منحدرة من عالم ميتافيزيقى غير مقيد باى شرط معرفي، أو أنطلوجي (وجودى)، أنه فوق الوجود بمقتضياته الثلاثة الزمان والمكان والحركة. (موقفنا نحن العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة) وعلى هذا الأساس تقع نظرته للأنسان العربي في الأطلاقية واللاتاريخية؛ ونلمس هذا واضحاً في كتابه (تجديد الفكر العربى). ويعود وهذا الى تصوره لثنائية تقسم الفكر العربي - الأسلامي إلى شطرين الغلبة فيه إلى الشطر الروحي الذى يعده الموجد للشطر المادى والمحدد لأهدافه. يتضح هذا الموقف التلفيقي لزكى أكثر جراء تنازله عن المنطق الداخلى العقلى لصالح ما يميز تفردنا الثقافى والذي لا يعتبره مقياس التقدم الحضاري في الوقت نفسه

يرى زكى أن الماضى العربى لا يخلو من تناقض فى أحد أشكال العلاقة بين الدين والعقل فيحاول تجاوز ذلك بوصفه تناقض شكلي وغير ذا طبيعة جوهرية، وايضا على صعيد المرحلة المعاصرة لا يكون التعارض إلا شكلياً بين العلم المعاصر والإيمان فمن حيث المضمون لا يوجد أى تعارض بينهما. (تيزينى، طيب: من التراث إلى الثورة)

يحاول زكي التوفيق بين الدين والعقل، وبين التراث الفكرى العربى الإسلامى والحضارة الغربية المعاصرة، من خلال إيجاد موقف وسط، يرى علينا استخلاصه من التراث يجعل بين العلم والإيمان تعاوناً فى الوصول إلى هدف واحد (تجديد)، نأخذ من تراثنا الشكل دون المضمون، فما نجد من وقفة عقلية فيه نأخذ بها، (تجيد) أى نأخذ جانب النظر العقلى فقط لأن موضوعاتهم مختلفة عن موضوعاتنا.

ليس من المجدى فى هذه الحالة تحليل الماضى كله بحثاً عن الجواب، وإنما نأخذ شريحة معينة من التراث وصل فيها ازدهار الفكر عند الأسلاف إلى أوجه (تجديد)، وعليه تكون أهم جماعة لعصرنا أن نرثها فى طريقة نظرها إلى الأمور هى المعتزلة التى جعلت (العقل) مبدأها الأساسى كلما أشكل الأمر (تجديد). لكن المعتزلة عقلانيون ضمن الوحى والإيمان بالمسلمات، وأقصى دور للعقل عندهم أن يكون معززاً وداعماً للوحى وعلى هذا توجد هوة واسعة بينهم وبين العقلانية الخالصة كمنهج. (الآلوسى: الفلسفة والإنسان). فنجد زكى غير ملتفت إلى حقيقة أن التراث العربى الإسلامى خاضع بالكلية لنظام فكر العصر الوسيط المختلف عن نظام الفكر الحديث والمعاصر

يقع زكى بين موقفين فيما يخص مسألة العقل: فمن جهة يقول إن تراثنا لا عقلى وأن نستعير العقل من الغرب، وبين تراجع عن هذا العقل المستعار، حيث يعتبر العقل جزأ أصيلاً من التراث ويمكننا أن نختار من تراث أسلافنا المعقول وحده، وهذا المعقول يتحدد بأن ننظر إلى الأمور بمثل ما نظروا، وأن نحتكم فى حولنا لمشكلاتنا إلى المعايير نفسها التى كانوا قد احتكموا إليها. (زكي نجيب: المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى)

إن اعتقاد زكى فى أن السمة البارزة للعربى فى المرحلة الإسلامية هى وقفته العقلية تجاه العالم من حوله متأتية فى حقيقة الأمر من نظرته لمعنى (العقل) كاسم يطلق على فعل من نمط ذى خصائص يمكن تحديدها وتميزها، وهو تفسير يرد كل شىء إلى جزء من أجزاء المادة، فلا يكون سوى (أحداث) أو (أفعال) ولكنه عندما يأخذ بهذا التعريف الوضعى المنطقى للعقل لا نجد فيه أى خصوصية فكرية للعرب حيث لا يوجد فى تعريفه معنى للعقل كموقف او منهج واتجاه يحدد به الإنسان (كفرد) وجماعة في مرحلة معينة .(الالوسي)

لكن من جهة ثانية نجد زكى ينقض كل أقواله هذه وهو يوصم التراث العربى بالبدائية، واللفظية والانشداد إلى النص الدينى (الآلوسي)، فيحدد علاقتنا بالتراث من خلال طرحه سؤال ويجيب عن قائلاً: " وتسألنى ماذا نحن صانعون بآدابها وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتى كانت تحتكر عندنا اسم (الثقافة) ؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية فى ساعات الفراغ ... وحسبى هذا القدر من الاعتدال إيفاء الوصل بين جيد وقديم (تجديد). وهنا يظهر بوضوح التوجه الوضعى الذى يتحرك فيه زكى، ويتبين تنقله من موقف إلى آخر مختلف بوتيرة زئبقية غير ملتفت إلى ما يحدثه ذلك من خرق لقواعد التفكير المنطقى وفقدانه التماسك والانتظام فى أفكاره(تيزيني)، فهو يقرر بعد كل تلك الأقوال التى أشرنا إليها بخصوص العقل فى تراثنا إلى أن جماهيرنا دراويش بالوراثة وهذا التراث مردفاً للاعقلانية، أما (المعاصرة) فهى رديفة العقلانية والعلمية (المستعارين) من ثقافة أجنبية، أما كيف يكون هذا وما هى عناصره ومسوغاته، فسببها أن زكى يلبس المعاصرة العدامة للتراث، حيث إن اللاعقلانية مغروزة فى طبائع العرب كألوان جلودهم، فتكون الصورة عنده دروشة تعجب الجماهير العريضة، يقابلها عقل مستعار من ثقافة أخرى تستخدمه الصفوة القليلة لتقاوم بدروشة الكثرة الغالبة (تجديد). وهذا الموقف سرعان ما يغيره كما أشرنا مسبقا حيث يرى أنه " إذا أراد الخلف الذى هو نحن فى عصرنا القائم ـ أن يجئ امتدادا للسلف فلن يكون ذلك إلا عن طريق الجانب العاقل عن السلف " (زكي المعقول واللامعقول).

إن الباحث يحاول عبثا أن يجد وحدة وانسجام عند زكى فسمته المميزة هى التناقض وفقدان التماسك، وكل هذا حاصل نتيجة محاولاته التلفيقية ووطأتها الشديدة على تفكيره، حتى فى مطالبته باخذ الجانب العاقل من التراث، فهو يتصور أن هناك عقل أبدى منسجم تماماً يمكن استحضاره إلى ساحة المعاصرة كما هو بدون أى تفكيك أو نقد أبستيمولوجى لمبادئه وآلياته ومقولاته وموضوعاته وهو لم يتساءل أبداً عن ماهية هذا العقل الإسلامى، وهل يمكن تحقيق استمرارية تاريخية بين ذلك المفهوم للعقل ومفهومه الآن.

وهنا يمكن للباحث أن يلاحظ أن زكى فى مقولاته العامة يلجأ إلى العقل بوصفه حكماً يرجع إليه من أجل اختيار ما يصلح وما لا يصلح من عناصر التراث، هو ذاته دليل على أن المنظور الغربى هو الحاكم (زكريا، فؤاد: تجديد الفكر العربى فى الميزان)، إن المسألة عنده صورية فى كيفية الانتقال من فكر قديم إلى فكر جديد من خلال استخدام الألفاظ الدالة على رؤوس الموضوعات بطريقة تجعلها تساير العصر فى مفاهيمه ومضامينه بعد أن تُخلص من مفهومها ومضمونها الذى استخدمها فيه السابقون. (تجديد)

ولأجل هذا كله يرى زكى أن الاستمرارية بين الحاضر وماضى العرب لا يكون بنقل ما كان لهؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل لنا الحق فى تغيير وتبديل الفروض والمبادئ التى كانت عند الأسلاف، ومعاملة أفكار الأسلاف تكون بأعتبارها نقاط ابتداء أولية نبقي بعضها وننفى البعض الآخر بحسب الحاجة اليها. (تجديد)

يجرى زكى وراء تكوين موقف تلفيقى يجمع بين القديم والجديد وتقوم هذه الرؤية التفليقية على أربعة محاور هى:

1- محور التلفيق بين النسبى والمطلق .

2- محور الانتقال من موقف إلى آخر مخالف كما فى القول مرة بوجود (تراث عقلى عربى) ومرة بنفيه .

3- محور التوجيه إلى المعاصرة بشكل يعدم (التراث) عموماً .

4- محور التوجيه إلى (السلفية) بصيغ تحدد معايير فى النقل من التراث . (تيزيني)

وفى كل هذه الأقوال والتصورات يحاول زكى وضع مفهوم لفلسفة عربية مقترحة تكون الطريق الذى يجعلنا نسير على طريق فلسفى معاصر، له أطره ومبادئه وطابعه العربى الأصيل والمميز، فلسفة نقيمها بوصفها منبثقة من جذور ثقافية فى أعماقنا، وهذه نجدها على شكل مبدأ راسخ يهيمن على أحكامنا فى المجالات كلها، أنه مبدأ الثنائية التى تشطر الوجود إلى شطرين غير متساويين ولا على درجة واحدة هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلى والحادث إنهما الأرض والسماء. (تجديد)

ويذهب زكى إلى أن العقل العربى متجه دوماً إلى الثنائية التى تميل إلى جعل الشطر الروحانى له الاولوية على الشطر المادى، وهذه الثنائية هى ميزتنا فى جعل المطلق فى جهة والأفراد الجزئية فى جهة ثانية، ثم تقسيم عالم الأفراد إلى كثرة من العناصر، فتكون نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة: الثنائية المادية فى التقسيم، الله الخالق والعالم المخلوق والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين فى حدود هذاالكون المخلوق، حتى نقيم مستويين من التقسيم والتفرقة أحدهما تفرقة بين الخالق ومخلوقاته ثم مستوى آخر يميز بين البشر ومختلف الكائنات الأخرى لتجعل للإنسان الإرادة والحرية أن تجعل له جانب مريد خلاق . (تجديد)

يرى زكي إن النظرة الثنائية وتفرقتها الحادة هذه ميزت ثقافتنا عن أى ثقافة أخرى ومنها تكون لنا نظرة خاصة فى تحليل المعرفة الإنسانية؛ وعلى أساس هذه النظرية المقترحة لزكى يكون للمعرفة نطاقان لكل منها وسيلة خاصة حتى يكون الطريق واضحاً أمامنا جراء التقسيم الذى يجعل لكل من نطاق الحقيقة المطلقة والعلوم الطبيعية منهجا مختلفاً عن الآخر، وبهذا تكون هذه الفلسفة التى يقترحها زكى كما تبدو له قد سدت فجوات كثيرة وضمنت الجمع بين العلم وكرامة الإنسان. (تجديد)

وبقى لنا أن نقول إن زكى وفق فى إشارته إلى الاختلاف بين الطابع العام للتراث العربى والطابع المميز لعصرنا، ولكن لو تجاوز هذا إلى اكتشاف الدلالات الاجتماعية والسياسية التى كانت تكمن وراء المواقف ذات الطابع الدينى فى التراث لكان قد قدم رؤية ذات أهمية كبيرة. وذلك لأن الاختلاف حول المسائل الدينية كان هو الوعاء الذى يصب فيه مفكرو ذلك العصر وجهات نظرهم فى مسائل قد تكون فى حقيقتها مسائل (دنيوية) خالصة ؛ فلو أن زكى تعمق أكثر حتى يصل إلى الأهداف الاجتماعية والسياسية وراء المظهر الدينى لكان لهذا العمق فائدة لا تقدر، لكن الذى حصل هو أكتفاءه بالمظهر الخارجى للمذهب الدينى. (زكريا)

يرسم زكى صورة للعلاقة بين الخالق والمخلوق كما هى علاقة الحاكم بالمحكوم، الحاكم المطلق والمحكوم المطيع، لكن ما ينتج عن هذا التصور الكونى لزكى هو تصور مماثل فيما يخص الحياة الإنسانية حول علاقة السلطان بالناس، يعبر هذا القول عن اختيار أيديولوجى واتجاه معرفى يدعم هذا الاختيار، وإذا كانت العقلانية هى تحديد الاختيار الذى يكون بدوره أيديولوجى ولأن الأيديولوجية طبقية فمعيار العقلانية معيار طبقى، وإذا قيل إن العقلانية فى أزمة عند زكى فهى فى الحقيقة أزمة طبقية. (عبد الصمد).

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

......................

المصادر

الآلوسى: الفلسفة والإنسان، دار الحكمة، بغداد، 1990م.

تيزينى، طيب: من التراث إلى الثورة، دار بن خلدون، ط1 بيروت 1987. دار الجيل، ط3 بيروت 1979.

زكريا، فؤاد تجديد الفكر العربي في الميزان، في كتاب الدكتور زكي نجيب محمود فيلسوف ومعلما واديبا، منشورات جامعة الكويت، 1987.

زكي نجيب محمود: موقفنا نحن العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة، مجلة العربى، الكويت، 1972، ص 165 .

----- الحضارة قضية التقدم والتخلف، أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي (ندوة الكويت 7-11 نيسان 1974.

-------- تجديد الفكر العربي، دار الشروق، ط1 بيروت، 1971.

-------- موقفنا نحن العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة مجلة العربي، الكويت،1972.

------- الحضارة وقضية التقدم والتخلف، ندوة أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، الكويت، 1974.

------- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، ط1 بيروت .

عبد الصمد، عبد الباسط: أزمة عقلانية أم أزمة طبقات مسيطرة، ضمن بحوث ندوة (حول العقلانية العربية) عرض مراد وهبة تحت عنوان (محاكمة العقل العربى) مجلة المنار العدد 45، 1988.

 

في المثقف اليوم