قضايا

جدليّة العلاقة بين الصبر والإيمان

مجدي ابراهيمسؤالُ منطقي أطرحه على نفسي إزاء البحث حول هذا الموضوع (الصبر والإيمان): متى تصبح العلاقة جدليّة بين فكرتين أو بين طرفين قابيلتهما للنقاش محوريّة جوهريّة؟

والإجابة ببساطة شديدة هى : في الحالة التي يتمُّ فيها التفاعل النظري في مستوياتها الإدراكية، بحيث لا تستطيع أن تفصل عَسَفَاً بين فوارقها الشعوريّة، وإنْ كنتَ في الوقت عينه تستطيع أن تحدّد ميادينها النّظريّة؛ فما يُقال على مستوى النظر لا يُقال في الغالب على مستوى الشعور؛ لأن ما يُقال على مستوى الشعور شئ أعمق بكثير ممّا عَسَاه يُقال على مستوى النظر والتفكير، لا لشيء إلا لأن المساحة الداخليّة لشعور القائل تجئُ حُبلى مثقلة بجملة إحساسات لا توفيها الكلمات فوراتها الباطنة، وبالتالي تفتقد معها القناة التعبيرية التي تكافئها أو تناظرها، فيبقى ما هو بالداخل مطموراً مخفيّاً في دائرة الشعور محجوباً عن أعين الناظرين، ويظهر فقط ما استطاع المرء أن يفكر فيه ثم يقوله في كلمات تعبّر عنه بالتقريب أو بالتحديد.

لكن ما يفكر فيه المرء، وينظّر له، إنما هو في الأصل قد وَصَلَ إليه قطعاً من طاقة الشعور. ومن ثمّ، فلا حاجة لنا إلى فصل "الفكر" عن "الشعور" بوجه من الوجوه. وعليه؛ فلا يجوز اعتبار العلاقة جدليّة بين طرفين أو بين فكرتين إذا تمّ انفصالها مطلقاً عن منطلقاتها التأسيسية سواء كانت على مستوى التفكير أو كانت على مستوى الشعور. ففي حالة الانفصال، العقل وحده هو من له الصدارة، ومن له الحكم. وفي المقابل : العاطفة وحدها هى من لها الحكم؛ لأن الصدارة لها في كل الأحوال.

الانفصال؛ إذن، لا يوحي بعلاقة جدليّة، ولكن الاتصال هو وحده الذي يوجب قيام هذه العلاقة، فلا يزال جدل العلاقة قائماً بين الدائرتين : دائرة الوجدان ودائرة العقل والتفكير، إذا صحّ الاتصال بينهما بطل الانفصال الذي يراه البعض خطأً من علامات الرقي الفكري والتّوُّجه الفلسفي، وإنْ قضى في تلك الحالة على حيويّة الإنسان.

وإذا لزم الحوار بين أمرين أو بين طرفين، والحوار فكرة، لَزَمَ معه ما يؤيدها في مستوى الشعور، وسواء أيّدها ما يلزم معها أو ناقضها وأثبت تهافتها، قام من وراء هذا كله جدل حركي يتفاعل من السطح إلى الأعماق، أي يتفاعل بين الباطن الخفي والظاهر المكشوف؛ فتصبح العلاقة بين ما هو ظاهر من المعاني وبين ما هو خفي منها ومستتر علاقة جدليّة.

خذ على هذا مثلاً، لتنظر معي إلى العلاقة بين هذه الأصول الثلاثة : "الصدق" و" الصبر" و " والإخلاص"، وسائل نفسك : هل أستطيع التفرقة بينها في مستوى الشعور لا في مستوى المعنى اللفظي الدارج؟

إذا لم تستطع أن تحدّد الفواصل الشعورية التي تقف من خلف الحركة الفعليّة بينها فاعلم أن هنالك علاقة جدليّة قائمة في مستوى الداخل الخفي، رغم تحديد كل كلمة من هذه الكلمات الثلاثة من حيث معناها اللغوي والقاموسي.

نطالع في كتاب (الصدق) لأبي سعيد الخرّاز، رحمة الله عليه، ما نصه :

"هذه الكلمات الثلاثة (الصدق، الصبر، الإخلاص) أقسامٌ كبرى لمعان مختلفة، وهى داخلة في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة، وليست تتمُّ الأعمال إلا بها حتى إذا فارقت الأعمال فسدت، ولم يرج لها نفعاً؛ فليس يتمُّ بعض هذه الأصول الثلاثة إلا ببعض، ومتى فَقَدَ أحدها تعطل الآخر. فالإخلاص لا يتمّ إلا بالصدق فيه، والصبر عليه. والصبر لا يتمّ إلا بالصدق فيه، والإخلاص فيه. والصدق لا يتمّ إلا بالصبر عليه، والإخلاص فيه".

على هذا النحو، تمضي العلاقة جدليّة بين طرفين أردنا لكل طرف منهما ضرورة التجاوب مع الآخر ثم قيام كل طرف على الآخر، يأخذ منه ويعطيه في نفس الوقت؛ ففي مجال القيم تصبح جدلية العلاقة ضرورية حين لا يُستغنى مطلقاً عمّا هو باطن في مستقر الشعور، وإنْ تمّ إبرازه من حيث الظاهر المعلوم. وهكذا يتوجّب علينا وصف العلاقة بين الصبر والإيمان بالجدل على النحو الذي أوضحنا معناه.

إنه الكرار الإمام علي ابن أبي طالب، كرّم الله وجهه، هو الذي قال :" بُنيَ الإيمان على أربع دعائم : على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل".

وكل دعامة من هذه الدعائم الأربع تحتاج لشرح طويل يثمر النفس في طريق التحقيق الفعلي للإيمان. فاليقين أول الدعائم : لأنه قائم بالقلب بوجود الله ورعايته لعارفيه .. يقين فيه من العزاء أعذبه وأطيبه وأنبله وأرضاه .. يقين بالمعيّة الدائمة في رحاب الله .. يقين بأن الوجود كلّه لا شئ إذا خَلَاَ قلب العبد من هذا اليقين بوجود الله. ومع وجود هذا "اليقين" يكون وجود الله هو كل شئ، وتكون معيّتُه هى الحقيقة الوحيدة، وتكون معرفته حقيقةً أصل خلق الإنسان.

والصّبر : حبس النفس على المكارة.

والجهاد : بذل الإنسان نفسه قدر الطاقة في تصحيح المقلوب.

والعدل : حفظ توازن الطاقة النفسيّة بين قوى الإنسان. ولا إيمان إلا لمن كان الصبر له.

وفي القرآن الكريم :" وقال الذين أُوتوا العلم ويلكم ثوابُ الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقّاها إلاّ الصابرون". تلاحظ أن الدلالة واضحة في قول الذين أُوتوا العلم لا قول أحد سواهم، ولا يُلقى الثواب من الله إلا الصابرين على شرط الإيمان والعمل الصالح.

وقوله تعالى :" وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق ممّا يمكرون، إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم مُحسنون".

إذا كان (وما صبروك إلا بالله)، ومن الله، ومع الله، ومن أجل الله، وفي الله؛ فليس من حزن، وليس من ضيق، بل سعة؛ فمن كان حاضراً في داخل المعيّة، مجموعاً فيها، هان عليه، بالتقوى والإحسان، كل شئ، ولم يهن هو على الله.

فالصابرون هم أهل الإيمان، ومن لا إيمان له لا صبر له، فجوهر الإيمان الصبر، وجوهر الصبر العقل، وجوهر العقل العزيمة والإرادة والتصميم، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإنْ كان فإيمان قليل؛ كقشرة سطحيّة، في غاية الوهن والضعف وقلة الحيلة والهوان، وصاحبه ممّن يعبُد الله على حرف، فإن أصابه خيرٌ أطمئن به، وإنْ أصابته فتنة خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما إلاّ بالصفقة الخاسرة، فخيرُ عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى منازل الإيمان بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم.

وبفقدان الدعائم الأربع (اليقين، والصبر، والجهاد، والعدالة) تأمل ما يجري الآن في المسرى (الأقصى) لترى كيف نفد الإيمان من قلوب المؤمنين، حيث لا يقين، ولا صبر، ولا جهاد، ولا عدالة، ولا صدق في ذلك كله ولا إخلاص، ولا اقتدار على تطبيق واحدة منهم في المسلمين بل هوان من بعده هوان.

أصبحوا مجرّد صور متحركة بأصابع أمريكا والغرب الأوروبي، ماذا تنتظر من أمة انطمست من أبنائها البصيرة، وهان عليهم سُبل الإدراك، وتبدّلت المقاصد، وتبلّدت الأذهان، وجفت منابع العلم في ضمائر العلماء؛ فإذا الفقر والعدم والموات صفات مجتمعة لغير ذي حياة.

وتريدون أن تحرّروا القدس يا أمة لا إله إلا الله؟!

إليكم جانبٌ واحدٌ فقط من عدّة جوانب فيها التردي والنكوص، وهو جانب الصّلة مع الله.

في الحديث الشريف قوله، صلوات الله وسلامه عليه، (تعس عبدُ الدّرهم ، تعس عبدُ الدينار).

ولم يكن الدرهم ولا الدينار يعبدان بركوع ولا بسجود، ولكن إشارته عليه السلام منصرفة إلى مجرّد التفات القلب إليهما. ومجرّد التفات القلب وحده إلى السوّى يقدح في العبادة لله فيبطلها؛ فلا يصحُّ من القلب ذكر (لا الله إلا الله) إلّا بنفي ما في نفسه وحذف ما في ذاته ممّا سوى الله تعالى، ومن امتلأ قلبه بصور المحسوسات ولاحظ "هذيان العالم"، لو قال ألف مرة (لا إله إلا الله) قلما يشعر قلبه بمعناها أو يتحقق من دلالاتها.

وإذا فرغ القلب من مشاركة السّوى لو قالها مرة واحدة لوجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه، ولهانت عليه الدنيا كل الدنيا، وتقدّم الموت في سبيل هذه الكلمة على عبوديّة الحياة اليوميّة وهوانها ومذلّتها والعيش فيها نكرة بل حشرة على هامش الوجود.

في سورة يوسف آية تقول :" إنّه من يتق ويصبر؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين". وفي الآية المباركة عند التأمل أسرارٌ عظيمة : منها أن شرط الأجر من الله تعالى أن يكون ها هنا إحسان : إحسان في التقوى، وإحسان في الصبر .

نعم؛ فأنت قد تتقي وتصبر لكن في غير إحسان .. قد تتقي يوماً أو يومين أو أسبوعاً، وقد تصبر على فعل التقوى أياماً بل شهوراً، وقد تحسن في هذه الأيام المعدودة والشهور المحدودة وقد لا تحسن، فليس من تقوى وليس من صبر !

إذا لم تستطع أن تداوم على "فعل التقوى"، وعلى ألفة الصبر الدائم ثم على الإحسان في فعل التقوى وفي فعل الصبر، فقلَّ أن يكون لك أجرٌ في غير ضياع. إنّ الأجر الذي لا تخشى منه الضياع مشروط بالإحسان، لكأنه يُرادف العمل الدائب الموصول، ويواكب مسيرة الجهد المستمر في الطاقة النافعة نحو تغيير النفس وتحويلها من أخسّ العادات إلى أطيبها وأرضاها وأجملها في ميادين الإصلاح.

فكل عمل نافع يزكّي فعل التقوى وينميّه ثم يقويّه، وكل عمل نافع ينقل إلى النفس فضائل التقوى مرهون بالاستمرار في الإحسان ومشروط على أساسه. فلن يُقال لك إنك رجل تقي ما لم تكن التقوى ديدناً لك وعادة، ناهيك عن قول القائلين فيك، ليس هذا هو المهم، إنما المهم أن تأتيك من الله إشارة بتقواك، وأن تدرك علامة ذلك من نفسك فيما يعترض حياتك من مواقف وأحداث.

ولن تعرف هذه الصفة فيك، ولن تدرك رضى الله عنك بها ما لم يكن فعل التقوى طبعاً لك لا تفارقه ولا يُفارقك، فإذا هو كان على هذه الطاقة النافعة من ضوابطها ومقاييسها فها هنا يجوز عليها أجر المحسنين.

على أن فعل التقوى وحده كفيلٌ بموهبة الفضيلة التي هى "موهبة الصابرين"، فكأنما التقوى فعل لا يقدر عليه إلا صابر، وكأنما الصبر في جوهره طريق المتقين، وكلاهما في مراتب الإحسان على ترقي وعلى مزيد من علو الأسرار .... ثم ماذا؟

انظر إلى نفسك وقد عاقرت الآفات، فلا أنت بالذي يتقي ولا أنت بالذي يصبر؛ لأنك لم تحسن فعل التقوى ولم تحسن فعل الصبر، ولم تداوم عليهما بادي ذي بدء، فكيف تنتظر من بعدٌ جزاء الصابرين؟ كيف ترجو من الله أن يوقفك عن سوء عاداتك لتفارقها في غير عودة؟

لكن مع هذا ثق : إنّ الذي في معيّة الله لا يُضام من مكروه آذاه، فالله قادر على خلق القوة فيه لمقاومة المكروه .. لنكره أنفسنا على تطبيق دعائم الإيمان من : يقين، وصدق، وصبر، وجهاد، وإخلاص، وعدالة، وإحسان كيما نكون أهلاً بالمواجهة، جديرين على الحقيقة بصفة المؤمنين. ومن أقوال الإمام على أيضاً كرم الله وجهه :" إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء، فإذا انتهك العبد الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه".

أبحث عن ملكة التعلق : فيما عَسَاَكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟ فلئن كانت الثانية فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة.

ولئن كانت الحالة الأولى فلقد أورثت صدأً على وجه القلب فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه .... فانقطع .

الغريب في الأمر، إن قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى القلب، فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها، أي قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبي بكليّتها ... فحُجب .

والاشتغال بالأسباب صدأ قلبي .. بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والران).

فإن قلت : فما بالُ العقل؟ ألم يُعرف الحق بالعقل؟

إنه ابن عربي الصوفي العظيم هو الذي قال إن : مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهة : الجوهر، والطبع، والحالة، والهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء. وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحس أو الضرورة أو التجربة الحسية. وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لديه بالضرورة، وهذا لا يكون إلا لوقائع عينيّة.

يقدح الدليل العقلي في العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقلية على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله، صلوات الله عليه : إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ... وفيه : إن جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن.

ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، في أنفسها، عن الله دليله؟ أيحتاج وجود الله إلى دليل؟

أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟

شغل الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحجب الأدلة العقلية، ولم يتحققوا قيد أنملة إنّ معرفة الحق متجلاّه على الدوام بغير انقطاع لا يُتصور في حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافي عن لوثات التكدير، الخالي من ظلمة حجب الأسباب.

فاللهم أجلوها فقد صدأت من كرازة الدنيا ومعاطب الأسباب.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم