قضايا

هابرماس.. الحداثة مشروع غير مكتمل

علي رسول الربيعيالحداثة مشروع غير منجز بعد، هذه مقولة للفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس في مستهل كتابه الشهير "الخطاب الفلسفي للحداثة "، أيً الحداثة مشروع مستمر في التطوًر والتحوًل، وأن مشروع الحداثة قد أجترح تاريخا آخراً مختلفا دخلت معه البشرية في سياقات جديدة كليا عما كان سائدا لقرون عديدة. أنها مشروع لم يستنفد أغراضه بعد، ويمكن الرجوع الى مكتسباته التي لا عودة عنها والى تراثه بقصد مسائلته من أجل فتح آفاق تاريخية وعرفية جديدة بما يساهم في تجاوز عوائق الحداثة ذاتها وتصويب مسارها.

أنً الحداثة، في مفهومها الذي تتضمنه نصوص هابرماس، مثلت تجاوزا للأنظمة الفكرية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية والفنية القديمة، وهي لن تدرك نقطة في التاريخ تصبح معها ماضيا يتجاوزه حاضر أو مستقبل أبدا، أنها ذلك المسار المتواصل واللانهائي، أو ذلك "المبدأ الديناميكي" المؤسس لكل منتجات المجتمع الحديث والذي لايسمح لها بالثبات أو الوصول الى نقطة توازن. وحتى الحديث عن مابعد الحداثة ليس هو الآخر الا عودا نقديا للحداثة ذاتها.

يؤكد هابرماس أن الحداثة الغربية هي عبارة عن مزيج متداخل من المكاسب التي تعبر عن نضج "العقل الغربي" وهي ذات دلالة كونية لها القدرة على التعميم الأنساني؛ أي ذات صلاحية كونية عابرة.

وحين تواجه هذه الحداثة صعوبات أو أزمات يمكن لها أن تتجاوزها من خلال الأستعانة بتراث الحداثة نفسه، وبقيم العقل الغربي ذاته؛ فهابرماس في معركته الفكرية يهدف الى أنقاذ الحداثة، او بالأحرى أنقاذ مكتسباتها الإيجابية، طبعا هو لايدافع عن تجربة الحداثة بكل قضها وقضيضها. فعلى مدار 200 سنة ماضية من عمر الحداثة الغربية حصلت أنحرافات كثيرة ولمرات عديدة وبدت وكأنها حداثة معطوبة؛ لكنه يعتقد بأن هناك إمكانية لإعادة بناء مشروع الحداثة الغربي وإخراجه من مضايقه وإختناقاته بالأستناد إلى التراث النقدي لفلسفة عصر التنوير الذي بلورته النقدية الكانطية والهجيلية والماركسية خاصة. وبما أن الحداثة مشروع غير مكتمل فأن ذلك ما يجعلها عرضة للمراجعة والأستئناف المتجدد، والتجاوز وإعادة البناء وتنشيطه منذ عصر النهضة. يقبل هابرماس بالأنتقادات القوية الموجه للحداثة وبمحاسبة العقل الغربي حسابا صارما، لكنه لايقبل بإلغاء العقل الأنواري بسبب الأنحرافات التي ارتكبت بأسمه، فهو يعتقد بوجود حل أو مخرج آخر لتجاوز الأزمات التي تحدث أو التي تواجهها الحضارة الغربية؛ ففي رأيه لايوجد بديل عن " عقل التنوير " على الرغم من كل أخطاءه وأنحرافاته. إنه يدافع عن مقولات العقل النواري وتقاليده التي يعدها لاتزال تمتلك راهنية في مد الحضارة الغربية بالحلول للمشاكل التي تعترضها.

لذلك يشدد هابرماس على ضرورة التفريق بين الحداثة كقيم وافكار وبين التحديث كخبرة وتجربة تاريخية. فالحداثة بوصفها قيماَ تتمثل في الأنظمة العقلانية التي تشخًصت في عقلنة الرؤى والمواقف من الوجود والحقائق التاريخية بنظرة نسبية وفي الوقت نفسه قامت بتقويض الرؤية التقديسية والسحرية للعالم. أما الحداثة منظورا إليها بوصفها تجربة تاريخية فهي الممارسات التي جاءت في السياقات التاريخية والقطاعية في جوانبها الأقتصادية والأدارية. إنً الاشكالية التي تواجه الحضارة الغربية اليوم تتمثل في الأنفصال بين منطقها كقيم وفكر وبين سيقاتها في التجربة التاريخية.

وأذا كان هابرماس يؤكد أن " الحداثة مشروع غير مكتمل وغير ناجز " فمن المفترض أن هذا الأمر يجعل الحداثة ذاتها منفتحة على إمكانات تاريخية متعدًدة ورهانات معرفية مختلفة؛ لا أن تبقى حبيسة مركزية العقل الغربي؛ لكن هابرماس ينتهي في المطاف الأخير الى تسييج الحداثة بأسوار فكرية ثابتة مُضفياعليها صلاحية كونية كما كان يعتقد فلاسفة عصر التنوير أنفسهم .

لقد بقى هابرماس، وبعد مرافعاته الطويلة عن مكتسبات الحداثة التي لاعودة عنها، يتحرًك داخل حدود أرضية ليبرالية ذات جذور مسيحية مُعلمنة، وقد عبر عن هذا قائلا يبقى الفكر الغربي في المطاف الأخير قائمة على أرضية مسيحية - يهودية؛ كذلك أعتبر أي عملية مراجعة تفكيكية لما يعده من القيم الأساسية للحداثة أما نكوصا الى ما قبل الحداثة أو خروجا عن دائرتها بأطلاق، كما أعتبر كل تقويض لنمط العقلانية الكانطية خروجا عن معنى ومفهوم العقل بأطلاق. حتى بدا لنا وكأن هابرماس قد نظر الى عقل الانوار وكأنه جوهرا وأي تقويض لمقولاته أنزلاقا عن جادة الصواب؛ لكن الاً يؤدي هذا المنطق وكأنه ياسر الحداثة في قفص، ويمكننا أن نلمس هذا بشكل واضح في كتابه " الخطاب الفلسفي للحداثة " حيث لم يرد أي ذكر أو أشارة الى الحداثة في مرحلتها التاريخية في سياق الحضارة الأسلامية ولا للحركة الإصلاحية الاسلامية في القرن التاسع عشرمثلاً. لقد كان المشروع النقدي لهابرماس مختصرا على محاولة تجديد الحداثة الغربية من داخل سياقها ودعمها بمقولات الاستمرارية بتخليصها من عوائقها أكثر من أن يكون تجاوزا فعليا لمنطقها.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم