قضايا

الواقع بين النص والموضوع: رد على صباح الأنباري

في مقالته اللماحة عن بنيان صالح، وبعد عرض مسهب ودقيق لنشأة المونودراما وخلفياتها الحضارية، يحاول صباح الأنباري أن يثبت وجود علاقة تأثير وتأثر بين مسرحية (المانيكان) لبنيان و(الفزاعة) لفرحان الخليل*. ويحشد مجموعة من البراهين للتأكيد على فرضيته، أهمها: 1- العنوان، 2 – النهاية، 3- الفردانية، و4- المؤنث على وجه الإطلاق.

ثم يضيف نقطتين وهما:

- تجريد الأنوثة واختزالها بنعوت تفيد معنى المرأة.

- وإبدال المرأة بدمية من خشب ولدائن ومعدن. أو كما ورد في المقالة بالحرف الواحد: تبديل المواقع والحالات وتمثيل جمود المشاعر وتبلدها.

والحقيقة إن إشكالية التناص معقدة مثل العاطفة التي يرعاها البشر في صدورهم، فالخوف لا يمكن فصله عن التعقل، وكذلك بالنسبة للتهور والشجاعة. وظاهرة التخاطر معروفة منذ أقدم العصور. وقد خصص لها عباس العقاد فصلين كاملين من كتابه (يسـألونك)، واختار لها اسم "التليباثي". وإذا قّلبت في صفحات المدونة سيفاجئك التشابه الذي ينطوي، في حقيقة الأمر، على اختلاف في المنطلقات والنتائج. ومن أكثر الأمثلة شهرة رواية لحنا مينة وأخرى لمحمود تيمور، وكلتاهما تحمل نفس العنوان، وهو (المصابيح الرزق). ناهيك عن التشابه في البناء والموضوع. فهما من أعمال الحبكة البسيطة التي تعوم فيها الشخصيات على سلسلة من الأحداث والمشاهد، وكلتاهما أيضا تتابع أعمال المقاومة ضد المستعمر، الإنكليزي (في حالة تيمور) والفرنسي (عند مينة). ولكن هذا لا يمنع أن فلسفة مينة في تحليل شخصياته مختلفة تماما عن فلسفة تيمور. فالأول لا يستطيع أن يتصور الإنسان أو المكان خارج بيئته التاريخية، بينما الحبكة عند الثاني أشبه شيء بالقدر. فالمصائر محددة سلفا والخيبات الشخصية تتطور بمعزل عن فساد الحضارة وتخلف الواقع.

وأعتقد أن هذا ينطبق أيضا على تشابه مقصود بين ماركيز مؤلف (ذاكرة غانياتي الحزينات) وميشيما مؤلف (الجميلات النائمات). لقد صرح ماركيز أكثر من مرة عن إعجابة برواية ميشيما، وبقيت الفكرة تدور في رأسه لمرحلة متأخرة من حياته. ولكن التشابه بين العملين اقتصر على المرأة النائمة والمرأة المخدرة. والأليغوري هنا (بتعبير الدكتور زهير شلبية) كان أوضح من التناص. فرمزية استسلام المرأة للمجتمع الذكوري تؤثر في القارئ أكثر من استاطيقا الصور، وبالأخص أن ماركيز يطبق على التعري علاقات واقعه الدنيء والمتدهور. فهو عري إيروتيكي وجنسي وخلفه عواطف ليبدوية ورغبة بالامتلاك والحيازة، مقابل رغبة بالذوبان والضعف. ومتعة المرأة بالتخاذل أمام جبروت الحاجة والجوع لا تقل عن نشوة الرجل أمام قدرته الفائقة على التملك والاغتصاب، وكأن الخاسر هنا هو المانح. والخسارة برأيي كانت نفسية وثقافية ولها علاقة بحضارة الغالب والمغلوب.

في حين أن الاتجار بالنساء النائمات عند ميشيما ليس له أي رصيد ترفيهي. فالرجال إما عاجزون جنسيا أو أنهم ضعفاء وطاعنون بالسن. والأقسى من ذلك أنه غير مسموح لهم بالنكاح ولكن المداعبة فقط. وما يزيد من عذاب وذل الماشيزمو في هذه الحالة أن الرجل مستيقظ ويعرف سقطته. لكن المرأة في غيبوبة تحت تأثير المخدر.

ولا أتردد لحظة في وضع التوازي بين العالمين في مجال الرغبات التي يصعب تحقيقها. لكن التناقض يتأتى من وراء حدود التجربة. ولنأخذ الروائح على سبيل المثال. في رواية ميشيما يكون الفراش مضمخا بالعطر والمنظفات، لكنه في رواية ماركيز يكون مفعما بروائح العرق والجماع والأطعمة الرخيصة.

وبالعودة لموضوعنا مثل هذه الرموز تتكفل بإلغاء أثر التناص المقصود والمباشر. وبرأيي لا يخلو أي نص من تأثير الواقع. فتشابه التجارب البشرية وردود الأفعال عليها يحكم اتجاه النص: في الشكل والمضمون. وتسمي جوليا كريستيفا هذه الظاهرة بالمتناص وهي نتيجة لإلحاح في موضوع الرغبة**. وهي نفسها التي يسميها العرب التضمين. ومعناها الدقيق: احتواء نص على أجزاء من معنى نص آخر. أو كما ورد في معاجم البلاغة: دلالة اللفظ على جزء مفهومه.

لكن بالنتيجة أغنت المقالة رؤيتنا لرمزية الدمية، ولعلاقة الإنسان بنفسه وبما ينتجه، وللأثر المتبادل بين العاقل وغير العاقل. بالإضافة لما قدمته لنا من تمييز بين أشكال المونولوجات (المتممة في الرواية والضرورية للحبكة في المسرح).

 

د. صالح الرزوق

....................

* المقالة هي: بنية الفردانية في مونودراما بنيان صالح (منيكان). منشورة في جريدة العراقية الصادرة في سيدني بتاريخ: 6-6-2018.

**Black Sun, Columbia University press.

 

في المثقف اليوم