قضايا

العلم من منظور بيو إتيقي

خديجة ناصريغني عن البيان أنّ الفلسفة عبر أطوارها الزمنية المختلفة قد اهتمت بدراسة الإنسان من مختلف جوانبه الفكرية والنفسية، الأخلاقية والدينية، الاقتصادية والاجتماعية، الثقافية والسياسية، الجمالية والفنية...الخ، في محاولة منها لتقديم تفسيرات منطقية عن العديد من المسائل المصيرية ذات الصلة بالواقع الإنساني والتي عجز العلم عن إيجاد مبررات عقلية تزيل عنها اللبس والغموض وتكشف الستار عن مكنوناتها الحقة، فبدل أن يقوم هذا الأخير بتقليص دائرة المجاهيل أدى إلى توسيع مجالها، وهذا ما أعاد تدفق شريان الحياة في جسد الفلسفة بعدما تم هجرها والتخلي عنها باعتبارها علم نظري ميتافيزيقي عجز عن تقديم حلول عملية إذا ما قورنت بما قدمه العلم من منجزات هائلة في مختلف الميادين، لتفرض الفلسفة نفسها من جديد كمادة معرفية قادرة على تقديم دراسة علمية عملية عن الوجود الإنساني، وتلمس الحقائق المحجوبة عن مدركات العقل العلمي الأصم الذي لا يحسن الاصغاء لأصوات الطبيعة الخافتة الهامسة التي تناشد المطلق وتبتغي التفسير الكلي الأشمل عن الكون.

وقد زادت حدة الاهتمام بالقضايا الإنسانية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين الذي حمل معه تغييرات جذرية مست الوجود الإنساني من حيث كونه كائن عاقل أخلاقي وذلك راجع للثورة التكنولوجية والمعلوماتية وتقدم العلوم واكتساح التقنية لمختلف ميادين المعرفة، الأمر الذي أدى إلى فرز مشكلات جديدة مستحدثة، أقحمت الفكر الفلسفي للتعاطي مع قضايا إنسانية علمية وأخلاقية شائكة، تتماشى مع المستجدات المعرفية الراهنة برؤية نقدية فاحصة تطال الممارسات العلمية والتكنولوجية الجريئة التي تعدت حدود الطموح المعرفي إلى التهور والجموح في الخيال العلمي وما ترتب عنه من تهديد للوجود البشري بأسره.

هذا الوضع القائم أدى إلى دفع الخطاب الفلسفي لبلورة آفاق معرفية وسبل منهجية جديدة تشتغل بدراسة الجانب الأخلاقي للممارسات العلمية أصطلح على تسميتها "الأخلاقيات التطبيقية" أو ما درج على تسميتها بين الشرائح النخبوية المثقفة ب:"البيو إتيقا" ، وقد ظهرت في بادئ الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية ليتسع انتشارها في العالم بأسره لما تعالجه من مسائل حساسة ذات قيمة معرفية تعنى بدراسة النتائج المترتبة عن المنجزات العلمية وانعكاسها على المنظومة القيمية للإنسان، في محاولة لتقديم صيغة أخلاقية بديلة تستوعب الطموح العلمي من جهة وتراعي حرمة وقداسة الحياة الإنسانية من جهة أخرى.

ومن هذا المنطلق يهتم هذا المبحث المعرفي الجديد أي "الأخلاقيات التطبيقية" بوضع جملة من القواعد والمبادئ التي تهدف لتخليق الممارسة الإنسانية داخل الحقول المعرفية المختلفة للحد من سطوة التقنية وفضح الخروقات العلمية وتجاوزاته التي مست الكرامة الإنسانية وآدميتها، مع الحرص على وضع بيان أخلاقي جديد يتعاطى مع الطروحات العلمية بشكل أكثر عقلانية ودينامية، وفق صيرورة جدلية خلاقة تسمح برصد المزالق الكبرى لها وتجترح حلول تشكل أرضية أخلاقية صلدة تبنى عليها الدراسات العلمية المستقبلية، في إطار علمي أخلاقي يكفل عدم التعدي على الكرامة الإنسانية.

في ظل هذا الوضع المتأزم اتجهت معظم الدراسات الفلسفية المعاصرة لمباحثة المشكلة ومساءلتها أخلاقيا، وغالبا ما لاقت المنجزات العلمية المتطرفة استهجانا واستنكار من قبل العديد من المفكرين، الذين دعوا إلى ضرورة الحد من المخيال العلمي مع الحاجة إلى إعادة الوصل بين العلم والقيم بعدما تم فصلهما بشكل تعسفي في الزمن المابعد حداثي، واحداث قطيعة بين العلم والقيم في التصور الذي كرسته المنظومة الابستمولوجية المعاصرة التي خلقت هوة سحيقة يصعب ردمها بين الممارسة العلمية ومنظومتنا القيمية. ومن هنا جاءت البيوإتيقا كمبحث جديد يسعى لمتابعة النتائج المتوصل إليها في الحقل العلمي أخلاقيا، من حيث كونها جملة من الأسئلة العقلية حول التطبيقات العلمية ومدى تأثيرها على المنظومة القيمية من جانبها الأخلاقي والديني والمجتمعي والقانوني...الخ.

ونظرا لهذا المسعى والمطمح العظيم الذي سطرته الأخلاقيات التطبيقية كهدف تناشده وكغاية تروم تحقيقها، فقد فتحت شراع من الآمال لمجابهة سيل العلم المتدفق الذي اقتلع الممارسات الأخلاقية في الحياة العامة من جذورها وكرس لفكر علماني لا يتعامل إلا بمنطق المصالح الشخصية ولا يعترف إلا بالنتائج العملية الربحية النافعة، وقد سعى هذا الطرح الفلسفي المتفائل للحد من تجاوزات العلم، ورد الاعتبار للوجود الإنساني في خضم جدل معرفي يستوعب الطموحات العلمية وقداسة الحياة الإنسانية، بحيث يكفل للعلم رغبته في البحث واستكشاف أسرار الكون من جهة، وتصان من جانب آخر كرامة الإنسان وتحفظ له مركزيته للكون.

وبالعودة إلى السجل التاريخي نجد أن مصطلح البيوإتيقا سجل حضورا ضمن القاموس التخاطبي العلمي في وقت مبكر، وهذا بدوره يوجه انتباهنا إلى أن الإنسان قد أبدى عناية خاصة لوضع مبادئ ومعايير تضبط الممارسة التطبيقية في حقل الدراسات العلمية خاصة تلك التي تجعل من الجسم البشري مركز اهتمامها، لما تنطوي عليه من مخاطرة ومجازفة وما تتطلبه من دقة وحذر في التعامل معها. ويظهر ذلك بشكل جلي في ميدان الطب الذي يتكفل بمعالجة الاختلالات العضوية في الجسم مما يتطلب منه الدقة في التشخيص والمعالجة. ولأن علم الطب توكل له مسؤولية عظيمة تتمثل في العمل على حفظ حياة الأشخاص وانقاضهم من فكي الموت وقبضة الفناء، تفطن الإنسان منذ القدم إلى ضرورة تقنين هذا الميدان وتسييجه بقواعد أخلاقية، وكان للقوانين التي صاغها "حمورابي" تأثير على هذا المجال من الناحية القانونية، أما من الناحية الأخلاقية فقد ظهرت بوادرها الأولى فيما عرف بقسم "بقراط" الذي يتوعد فيه ممتهن مهنة الطب أن يصون حرمة الجسد البشري ويلتزم بالنزاهة في ممارسته للمهنة. ومن هنا تتضح الأصول التاريخية لمبحث الأخلاقيات التطبيقية على أن الفضل في تسميتها يعود لطبيب السرطان الأمريكي "فان رونسلر بوتر"، ولا يعنينا في هذا المقام الاسهاب في ابراز الصيغة المفهومية للمصطلح، والتأصيل اللغوي له أكثر مما نعنى بتبيان مدلولاته المعرفية وممارساته العينية.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المبحث الجديد الذي أسهم في توجيه الاهتمام إلى العديد من المسائل التي تمس الوجود الإنساني ومصيره في هذا الكون الذي يتعرض للتخريب باسم الطموح العلمي والتقدم التكنولوجي، حيث أفرزت الدراسة الأخلاقية للحقول العلمية ونخص بالذكر الدراسات الطبية منها العديد من القضايا الحساسة منها:

الجينوم البشري والتحكم في الهندسة الوراثية:

نظرا للتطور المذهل الذي حققته العلوم البيولوجية على جميع الأصعدة، حيث تمكنت من التدخل في إعادة هيكلة الطبيعة العضوية للأفراد من خلال التحكم في خريطتهم الوراثية وذلك بالرجوع إلى التركيبة الجينية لهم وهي محتواة داخل الخلية ومرتبة على هيئة ثلاثة وعشرين زوجا من الصبغيات أو الكروموسومات كما هو متعارف عليه بحيث تحمل تلك الجينات أو المورثات جميع البروتينات اللازمة للحياة في الكائن الحي وهي المسؤولة عن تحديد شكله وكذا التحكم في تفاعله الحيوي، الأمر الذي يعني أن الحياة البيولوجية للكائن البشري أصبح متيسرا ترميزها وضبطها وفق ما يتماشى مع رغبة الإنسان. وهذا فتح المجال أمام البشرية لصناعة عالم إنساني وفق الإرادة الشخصية للأفراد، على الرغم من كون أن الغاية من البحث في الجينوم البشري كانت في بادئ الأمر محاولة دؤوبة لمعرفة الأسباب المؤدية لبعض الأمراض الوراثية المستعصية لتقديم علاج لها، إلاّ أنّ هذه الأبحاث قد حادت عن هذا المسعى وتبنت مشروع يعمل على تحسين النسل الذي يفترض التدخل المباشر في المسار الطبيعي للوجود البيولوجي البشري، وهو مشروع فتح الباب للنقاش الفلسفي والتساؤل عن مصير البشرية ومستقبلها المجهول. فما بلغه التطور العلمي من قدرة على التدخل في التركيبة العضوية للجسد من خلال التحكم في الجينوم البشري الأمر الذي يسهل عملية إعادة هيكلة التركيبة الجسمية للأفراد وفق رغبتهم الشخصية، يضاعنا أمام تحديات جديدة تنذر بخلق عالم بشري مصطنع يحيد عن مساره الطبيعي، وهذا الوضع يفرز مشاكل قيمية أخلاقية عديدة يتوجب إعادة النظر فيها وتحليلها والبحث عن حلول عملية لها.

الإجهاض بين الدواعي الشخصية والضوابط الأخلاقية:

إنّ التزايد المستمر لعمليات الإجهاض خاصة في الدول المتقدمة نظرا لفتحها باب الحرية في الممارسات الجنسية باعتبارها مساحة شخصية، الشيء الذي ساهم في إقامة علاقات غير مشروعة أفاضت إلى إنجاب أطفال بدون نسب أو التخلص من الجنين في مراحل تشكله الأولى وحرمانه من الحياة، هذا ما يضعنا أمام وضعيات إشكالية تحتاج للدراسة والتحليل وفي هذا السياق يعترضنا موقفين، فنجد من جانب القائلين "بحرية الاختيار" ممن يعتبر أن الإجهاض حق مكفول للمرأة يتحدد بحسب رغبتها الشخصية و مقدار قابليتها للإنجاب إن كان من الناحية النفسية أو الصحية أو المادية و غيرها، وهي تمتلك حق التصرف في جسدها دون قيد أو شرط أو وصاية. وأي محاولة للمساس بهذا الحق يعتبر خرق للحريات الفردية، وفي المقابل نجد أنصار "الحق في الحياة" الذين يعتبرون أن الإجهاض جريمة في حق الجنين الذي يمتلك الحق في خوض تجربة الحياة. ومع ما يشهده العالم اليوم من ارتفاع غير مسبوق لعمليات الإجهاض، خاصة في الدول المتقدمة التي بلغت مستوى عال من الرفاهية والرخاء الأمر الذي انعكس سلبا على التركيبة المجتمعية حيث فتح المجال للممارسات الجنسية العشوائية باعتبارها حرية شخصية، هذا الوضع يلزم علينا إعادة النظر في سلوكياتنا وتشريعاتنا القانونية التي تغظ الطرف عن النتائج الوخيمة المترتبة عن عدم اتخاذ إجراءات ردعية تحد من هذه السلوكيات من طرف الدولة والجهات المعنية، وذلك بتقنين الظاهرة والتدخل الفوري لوقفها بهدف حماية المجتمع من المصير المحتوم وهو الهلاك والتلاشي، وكل هذا يستدعي إعادة بحث الوضع ومساءلة الظاهرة أخلاقيا ودينيا.

مقاربة إتيقية لمسألة الموت الرحيم:

تعتبر مسألة الموت الرحيم من القضايا الشائكة والأكثر تعقيدا في الخطاب الفلسفي المعاصر، لما تحمله من متناقضات يصعب حسمها والانحياز لأحد أطرافها، والموت الرحيم هو تعبير طبي جاء كمحاولة لتهذيب مصطلح القتل الرحيم والذي يعني بحسبهم أي المشتغلين في الحقل الطبي تسهيل موت المريض الميؤوس من حاله بطلب مقدم من قبل طبيبه المعالج أو من الأهل، وذلك بناء على عدم استجابته للعلاج وزيادة تفاقم مشكلاته الصحية وما يصاحبها من أوجاع وآلام تؤدي إلى تدهور البنية الجسمية للمريض لحد الاكتفاء من المعالجة الطبية، إلى جانب النوبات العصبية والإرهاق النفسي لمريض يتواجد في وسط يغذي الروح بشحنات سلبية لما يتردد على مسامعه من تشخيصات تؤكد أنه يحتضر وينتظر لحظة التلاقي مع قدر ليس له منه حولا ولا مفر وما يتجاذبه من أفكار تزيده تعبا وارهاقا بين رغبة مستتيبة للصمود من أجل الحياة وما يفرضه واقع الحال من أوجاع ومعاناة لا يطيق المرء صبرا للتخلص منها والاستسلام لنداء الموت الذي تتباطأ خطواته حينا وتتسارع حينا آخر. الأمر الذي يستدعي التدخل الفوري لتخليص المريض من المعاناة والألم الذي يصحب عملية العلاج الكيميائي والتي لم تعد تجدي نفعا سوى إبقاء النفس يتصاعد في جسم لم تعد تسري فيه الحياة، وذلك بمساعدته للرحيل بسلام وسكينة نحو العالم الآخر وتحقيق الخلاص لروح تسكن جسد منهك فاقد للطاقة والمقدرة لحملها. وعلى الرغم مما يحمله هذا الفعل من غاية نبيلة إلا أنه اصطدم بالمبادئ الدينية والأخلاقية وأعتبر جريمة في حق الكائن الإنساني تعادل القتل بالمعنى المتعارف عليه وهو سلب حياة الإنسان بطريقة عمدية مقصودة وحرمانه من العيش. ولهذا تعتبر مسألة الموت الرحيم من القضايا ذات الأهمية لكونها تتأرجح بين من يعتبرها تصرف نابع من الرحمة والشفقة بالمريض وذلك بالتدخل لإنهاء حياته بطريقة طبية خالية من مضاعفات تسبب الألم للمريض وتساعده للرحيل بسلام من هذا العالم، وما تثيره هذه المسألة من تساؤلات من الوجهة الأخلاقية من حيث كونها حرمان للشخص من الحياة فقد يكتب له الشفاء مستقبلا والعيش في صحة وعافية والتمتع بحياة مريحة، وقرار انهاء حياة الشخص الذي يكون خارج عن إرادته وقد يتنافى مع رغبته، غالبا ما يكون استعجالي مبني على أحكام ليس للعلم نفسه التثبت من درجة يقينيتها. فكم من حالة مرضية وضعت في خانة الحالات الميؤوس منها التي لم يعرف داءها وتعذر إيجاد دوائها، وظهرت إمكانية علاجها مع التطورات التي يشهدها الطب المعاصر.

الجسد بين طموح التطبيب وقداسته:

إن التقدم الذي أحرزه العلم في مختلف ميادينه شجعه على توسيع نطاق تجاربه لينتقل من عالم الظواهر الخارجية إلى حيز الجسد الإنساني الذي جعل منه مجردة مادة قابلة للتجريب مثل باقي الجمادات، ومع استطاعة العلم الدخول لعالم الأجنة والتحكم في الهندسة الوراثية كما أشرنا لذلك سلفا، من خلال التلاعب بالصبغيات أضحى بالإمكان تغيير الجنس البشري من خلال التعديل في الملامح الشكلية الخارجية وكذا تنمية القدرات العقلية بالتدخل في سلوك الدماغ مثل تفعيل مناطق الذكاء، تقوية الذكرة...الخ، ولم يتوقف التدخل في التركيبة العضوية للجسد عند هذا الحد بل تعدى الأمر للقول بالاستنساخ والمتاجرة بالجسد فيما سمي ببنوك الحياة، وكذا عمليات زرع الأعضاء وتأجير الأرحام وعمليات التجميل و التحسين وكلها تتدخل بشكل تعسفي في الجسد وهو ما ينذر بصناعة عالم بشري جديد يخالف عالمنا يتحكم الإنسان في ملامحه وصفاته بما يتماشى مع رغبته في بلوغ الكمال. وهو ما أدخل اضطراب في توازن الحياة الإنسانية وما صاحبه من إثارة لقضايا أخلاقية وفلسفية وقانونية جديدة حول مشروعية اعتبار الجسد شيء وجواز المساس به وانتهاك حرمته وذاك كله ليس إلا اعتداء على كرامة الإنسان التي ترفض التلاعب الطبي بالجسد البشري. وكل ذلك جاء كنتيجة لرغبة الإنسان وهاجسه الدائم لأن يكون في هيئة جمالية تناشد الكمال متناسيا ما قد يترتب عن ذلك من آثار قد تودي بالبشرية جمعاء للدمار، وتماشيا مع أنانيته وغطرسته سعى للبحث عن سبل وتقنيات جديدة تساعده على تحسين الملامح الداخلية (القدرات العقلية...) والخارجية (الشكل الخارجي...)، وكل ذلك يستدعي التدخل المباشر في التركيبة الجسدية كما اتضح لنا قبلا الأمر الذي جعل من الجسد مجرد مادة مثل غيرها من المواد تخضع للدراسة العلمية التجريبية، وهذا ما أعتبر من قبل فلاسفة الأخلاق انتهاك للكرامة الإنسانية من خلال المساواة بين الإنسان باعتباره جسد وروح و بين باقي الجمادات دون أخذ بالاعتبارات الأخلاقية التي تميز بين الإنسان وغيره من الكائنات والأشياء.

هذه المسائل وما شابهها تجعلنا نسلم يقينا لا جدل فيه أن حاجتنا اليوم للخطاب الفلسفي الجاد الذي يتكفل بدراسة العلم نقديا تبرز أكثر من أي وقت مضى، نقصد تلك الدراسة التي لا تكتفي بالطواف حول المشكلة فتزيدها تشبيحا وتلميعا بل تلك التي تمس الأسس وتعري المبادئ وتفضح الغايات وتفصح عن الحقائق المستترة تحت أقنعة مزيفة خادعة تتخذ من خدمة البشرية والصالح العام شعار وتتبع سياسة التمويه والتهويم كآليات لتخدير الوعي بدعوى التقدم والتطور، في حين تضمر هذه المشاريع العلمية من الأهداف و الغايات أكثر مما تظهر، وتزداد أهمية هذه الدراسات وضرورتها مع الثورات العلمية الباهرة وما حققته من تطورات بلغت مدى بعيد تجاوز حدود كل التوقعات، الأمر الذي يضعنا أمام جملة من التناقضات والمفارقات بين ما قدمه العلم من تسهيلات مست كل جوانب الحياة الإنسانية وبين ما تطرحه نتائجه ومنجزاته من أسئلة أخلاقية حساسة تلزم علينا إعادة النظر في العلم وقراءة الوضع الذي خلفته المنجزات العلمية برؤية نقدية جديدة.

 

بقلم: ناصري خديجة

 

 

في المثقف اليوم