قضايا

أسطورة الكهف.. الرمز والطريق

مجدي ابراهيمرَسَمَ أفلاطون في الكتاب السابع من الجمهوريّة صورة ميتافيزيقية لَما يجب أن تكون عليه حركة التفكير الفلسفي فيما أسمَاه بأسطورة الكهف، أو المغارة. جاء الهدفُ منها يكمن فيما رسمه ببراعة قلم الفيلسوف وفيما رمز إليه، وحينما نقول (رسماً) نفرّق هنا بين (الرسم) و(الرمز) وهذه التفرقة ضرورية عندنا لفهم الدلالة منها بدايةً؛ فالرسم هو شكل الأسطورة الخارجي، والرمز مضمونها الكامن فيها الباقي ببقاء ما توحي إليه؛ إذْ يتلخص الرسم في أنه لم يستطع سكان الكهف أن يخلصوا في التأمل العقلي إخلاصهم الموفور وينصرفوا إلى الحكمة، إلّا عندما خَلّفوا وراء ظهورهم القيود التي كانت تكبّلهم بهذا العالم الحسيّ في صُوَره الجارية التي ترسمها لنا الحواس وتقدّمها لنا العادات والمألوفات والتقاليد الجارية والمعتقدات السائدة.

ذلك أن أفلاطون في هذه الأسطورة قدّم لنا أناساً يعيشون في كهف مُظلم منذ ولادتهم، لكن هذا الكهف له فتحة تطلُّ على الطريق يمرّ عليه البشر حاملين أمتعتهم، ووراء الطريق نارٌ مشتعلة تعكس أشباح هؤلاء المّارة على جدار الكهف المُواجه لفتحته المُطلة على الطريق.

ولمّا كان سجينوا الكهف مقيّدين بسلاسل تمنعهم من الحركة وتجعلهم دائماً شاخصين بأبصارهم إلى جدار الكهف المواجه لفتحته؛ فإنهم لن يروا على هذا الجدار إلا أشباحاً تتراقص للمارّة على الطريق وظلالاً تتمايل لكل الموجودات التي في العالم الخارجي. وسيظنون إذْ ذَاَكَ أن هذه الأشباح والظلال هى الحقيقة، وسيستمرون على حالهم هذه، حتى إذا ما استطاع أحدهم أن يفك أغلاله وينطلق إلى الهواء خارج الكهف؛ فإنه سيذهل ممّا يرى، وسيشاهد الناس الحقيقيّين والموجودات الحقيقية، وستعتاد عيناه على رؤية الضياء كما اعتادت من قبل على رؤية صور الأشباح والظلال، وسيعود إلى أصحاب الكهف يرشدهم إلى أنهم يعيشون في عالم كانوا يظنونه هو عالم الحقيقة، لكنه ليس إلاّ مُجرّد ظلُّ له زائل خداع. هكذا، يبدو العالم الظاهري، وهماً ليس هو، لمن اعتاد البقاء فيه، بالحقيقة.

وهكذا؛ تكون طبيعة التفكير الفلسفي: الباطن فيه أولى وأهم من الظاهر، والجوهر أوفر على الإدراك من المظهر الخارجي، تلتمس الحقيقة من وراء المستور الخفي لا السطح البادي في الظاهر الخارجي.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الدّين يقرُّ هذه الصورة الفلسفيّة أو ينبذها؟ هل العالم الذي نعيش فيه مُجرّد وهم لا حقيقة فيه؟ وإذا كانت هذه الصورة الميتافيزيقيّة القديمة ممّا يقرُّها الدين، فكيف أستطاع أفلاطون أن يتوصّل إليها، وهو وثني، لم يتلق وحياً، ولم يتديّن بدين كتابي يرشده إلى كنه هذه الصورة؟

الإجابة على هذه الأسئلة، تضع اعتباراً لكل من خصائص التفكير الفلسفي وخصائص التفكير الديني؛ إنّ هذه الخصائص في مجملها واحدة، لكن هذه الوحدة مشروطة، وليست مُرسلة بغير شروط؛ فخصائص التفكير الديني لو تجرّدت عن الرمز وعن "التأويل" فقدت قرابتها من التفكير الفلسفي، وبالتالي لا تكون هنالك وحدة بين طبيعة التفكير الديني وطبيعة التفكير الفلسفي؛ لأن الرمز والتأويل هما اللذان يجمعان هذه الوحدة ويسوقاها خالية من التناقض والاضطراب.

وقد يكثر الرمز في الدين والفلسفة والتصوف والحركات السريّة، ويتأوله كل أحد بمرجعيته الثقافية والمعرفية، وبطاقاته العقلية والعرفانيّة على التأويل وفق خلفيات دينية أو أيديولوجيّة.

المُعتاد لدى الباحثين - وأنا منهم - أن هناك خلافاً جوهريّاً بين خصائص الفكر الفلسفي وخصائص الفكر الديني؛ إذْ الفلسفة قائمة على العقل، والدين يقوم على الوحي. وبالتالي؛ مادامت المصادرُ مختلفة فلا لقاء بينهما ولا تقارب، لكن الأمر ليس بهذه البساطة إذا نحن أعطينا حق العقل في أن يفكر، وأن يستنبط، وأن يُدلّ، ثم يتعقّل الإيمان، ولو كان وحياً من عند الله. هذا حقه الذي لا يهضمه عنه سوى من أراد له التعطيل.

لا نستغرب - من ثمَّ - وصف مؤرخي وفلاسفة الإسلام بصفة خاصّة لأفلاطون حينما أطلقوا عليه " أفلاطون الإلهي"، أي أن حكمته تتفق مع الإلهيات كما وردت في الإسلام، ومع تحفظنا على التعميم في مثل هذا الاتفاق، إلّا أننا يمكن أن نقول إن كلام فلاسفة الإسلام ومؤرخيه هذا يبدو صحيحاً إلى حد كبير.

فأفلاطون إلهي بمقدار ما تكشّفت لديه هذه الحكمة التي وردت بها الأديان، في أن الحقيقة قائمة وراء الصورة، وأن المخبر الباطني يتغطي بكثافة المظهر الظاهري وأن الإنسان لا يصل إلى الحقيقة ما لم يتعدّ الصور والأشكال والعناوين، يتعدّاها إلى حيث العمق الداخلي يتكشّف له من وراء الأسطح البادية، وأن حقيقتنا الواقعيّة أمام الظاهر المكشوف ليست هى كل شيء فينا، ولكنها إنْ هى إلاّ مجرّد وهم ليس إلاّ .. وإننا لا نتبيّن في جلاء حقيقتنا إلا إذا داهمنا الموت واغْتالنا الفناء. عند ذلك فقط، نتنبّه إلى وجودنا الحقيقي وإلى حقيقتنا الأصليّة.

ولماذا نذهب بعيداً، ألم يقل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه :" الناسُ نيامٌ، إذا ماتوا انتبهوا" .. انتبهوا من ماذا؟

انتبهوا من غفلاتهم، وبطلان معتقداتهم، وسوء مسالكهم، وزيف مطالبهم في هذه الدنيا اللاهية .

انتبهوا من أنهم كانوا يعيشون في كهف مظلم يظنون أنه الحقيقة، هو كل شيء بالنسبة لهم، وأن المغارة التي كانوا يسكنوها لا تحتوي سوى الأشباح والظلال، تتمايل أمامهم وتتراقص فتأسرهم بقيودها ثم تقيّدهم بحواسّهم ورذائل عاداتهم فتحجب عنهم الوعي مقدار احتجاب الحقائق.

إنما العادات والمألوفات هى موطن الغفلة التي لا يتجرّد عنها الإنسان إلا بالموت، حتى إذا مات أنتبه !

الانتباه، بمثابة من أستطاع أن يفك أغلاله وينطلق مُحّلقاً بعيداً عن واقعاته الحسيّة خارج الكهف المظلم، كهف الواقع أو كهف البدن أو كهف الظلمات المعرفية والثقافية سواء، هنالك يشهد حقائق الأشياء سواء كانت تلك الحقائق موجودات تتصل برؤية الواقع، أو تتعلق برؤية الناس بما في ذلك رؤية الإنسان لنفسه هو شخصياً، أو كانت ثقافات وأفكار يُفْرِزها العقل تحت ضغط الموروث، فلا يفرّق فيها بين ما هو صالح للحياة في زمنه ممتد البقاء، وبين ما هو مرهون بظروفه التاريخية والزمنية؛ فكما كانت صور الأشباح والظلال في كهفه عائقاً له عن المعرفة الحقيقية ورؤية الأشياء على ما هى عليه، يصبحُ بفعل الانتباه قادراً على رؤية الحقائق الأصليّة، سواء كانت في النفس أو في الوجود الخارجي أو في ميراث العقل البشري. لكن هذا الانتباه لا يتحقّق بالفعل إلا بالموت، حتى إذا ما مات الناس، انتبهوا، كما جاء في الحديث الشريف.

وهنا يقوم التساؤل مرة ثانية ليفرض نفسه بإلحاح :

ألا يوجد طريق ندرك به الحقيقة، ونحن أحياء لا أموات؟ سؤال له وجاهته ويحتاج إلى بحث جهيد .

نعم، هنالك الطريق، غير أنه ليس يتأسس على التنظير، ولا هو بطريق العقل الاستدلالي النظري، بل هو طريق الاستبصار؛ يسلك فيه المرء نفس السبيل الذي يمكن تحصيله بالموت، بمعنى أنه يصل إلى حالة من الوعي من طريق المجاهدات الدائمة يتساوى فيها مع الموت؛ فكما يكون هناك موتٌ طبيعيٌ يُحقق معنى الانتباه، يكون هنالك أيضاً موت إرادي، اختياري، يُحقق نفس المعنى: اليقظةُ الدائمة والتنبّه الموصول. نعم! هو موتٌ عن الغفلات، موتٌ عن أغلال العلائق والأطماع، موتٌ عن رؤية العقل الظلمانيّة المحجوبة دوماً بحجاب المحسوس، موتٌ عن قيود العالم الحسّي وفرائضه المحدودة، موتٌ عن الأوهام السادرة تكبّلنا عن الحماسة الروحيّة والشعورية، حتى إذا ما تكرّر السؤال : ألا يوجد بديلٌ لليقظة الدائمة والتنبّه الموصول إلا عن طريق الموت الطبيعي، أليست هناك طريقة ترشد إلى سُبُل الحقيقة غيره؟!

جاءت الإجابة، نعم ! هنالك طريقة لكنها تشبه الموت في السير إليها؛ فكما تكون أنفاس المرء خطاه إلى أجله تقوده إليه، كذلك يكون هذا الطريق بالموت الإرادي لا الطبيعي. ومن هنا لم يخطئ أفلاطون حين قال عن الفلسفة واصفاً إيّاها بحق إنها " تأمل الموت ".

فلئن كانت نظرته هذه، سُمّيت بأسطورة الكهف؛ فلأنها ليست بالأسطورة كما تبدو من ظاهرها أو ممّا يُفهم المرء عادةً من الأساطير، ولكن لأنها رمزيّة عصيّة على التحقق الفعلي، مُنكرة من قبل العقل النظري كونها ميتافيزيقية، لا يصدقها في الغالب أحد ممَّن لا يقدرون على الخروج عن منطقته، غير أنها موجودة ومُجرّبة من الإنسان في أرفع مطالبه وأرقى عطاياه، وليس يقدحُ في وجودها الإنكار أو عصيان الفهم أو انعدام التصديق.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم