قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق

ميثم الجنابيتوطئة: لسوف انشر على شكل حلقات بعض الكتب التي لم انشرها على صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية. ومع ان عد من هذه الكتب طبع مرات عديدة الا ان الكتاب المطبوع يبقى بغض النظر عن عدد طبعاته عدد النسخ المطبوعة محدودا جدا في العالم المعاصر. بينما يتحول "الكتاب الالكتروني" الى بديل معولم. وبالتالي سرعة وصوله المجاني للقارئ ايا كان مكان سكنه وعمله. كما انه مجاني.

والكتب التي اخطط لنشرها على شكل حلقات تحتوي على نوعين، الاول وهي الكتب الحوارية (اربعة كتب) واخرى كتب ليست حوارية وهي اربعة ايضا.

وابدأ هنا بكتاب يتناول اشكاليات وقضايا الفكرة التوتاليتارية ونماذجها. والكتاب طبع ثلاث مرات تحت عناوين مختلفة، الطبعة الاولى والثانية تحت عنوان (التوتاليتارية العراقية- تشريح الظاهرة الصدامية)، والطبعة الثالثة تحت عنوان (التوتاليتارية والاستبداد).

وقد اجرى الحوار معي يوسف محسن الصحفي الالمعي والكاتب المتخصص بواقع العراق السياسي والفكري والاجتماعي

تقديم

كشف تاريخ البعث والصدامية في العراق عن ظاهرة معقدة لعل مفارقتها الكبرى تقوم في أنها استطاعت أن تعزل وجود الأشياء والناس والأفعال من تاريخها، أي الزمن عن التاريخ. وفي هذا يكمن سرّ انهيارها السريع وهروبها المريع، واندثارها الخاطف وبقاياها الخربة في كل مكان.

فالتوتاليتارية عادة ما تفرّغ الزمن من التاريخ وذلك بفعل مساعيها "تبرئة" الحاضر من الماضي، وتحويل رغباتها وتصوراتها إلى يقين المستقبل. وعادة ما يضعها هذا التناقض في صراع يتحول من محال إلى مستحيل بحيث يجعل منها بالضرورة قوة عاتية تجعل من كل ما تجهله "عثرة" ينبغي إزالتها. وبما أن جهلها بالتاريخ هو شرط وجودها، لهذا عادة ما تجعل من تغييب وعي الذات التاريخي سلاحها الفعال في مواجهة الحاضر والمستقبل. وفي هذه المواجهة تجرّب كل الصيغ الممكنة للجهل الذاتي لكي تقف في نهاية المطاف أمام نفس هاوية الانحطاط والسقوط المميز للتوتاليتاريات جميعا. غير أن لكل انحطاط وسقوط معناه التاريخي وعبرته السياسية وقيمته الثقافية. فالتوتاليتارية في نهاية المطاف هي تعبير عن النقص التاريخي في وعي الذات القومي وخلل تقاليده السياسية وضعف حصانته الثقافية. وتجربة العراق لا تشذ عن هذه "القانونية" الصارمة، التي جعلت من تاريخ العراق الحديث حلقة في زمن الضياع والتيه السياسي والوطني والثقافي.

يرتبط ظهور التوتاليتارية في الأغلب بحالة الخلل الشامل في بنية الدولة والأمة والثقافة (السياسية بشكل خاص)، أي عندما تغيب إمكانية التأسيس الواقعي والعقلاني للبدائل ضمن سياق الشرعية والعلاقات المدنية. عندها تصبح التوتاليتارية "جوابا شاملا". مما يجعل منها قوة شرسة في مواجهة الإشكاليات التاريخية الكبرى القائمة أمام الدولة والأمة. أما الحصيلة النهائية لها فتقوم في التحكم التام من جانب السلطة في كل شيء وتحويل نفسها إلى اله بلا قلب، لكنه قادر على فعل كل شيء بما في ذلك تغير طبيعة الإنسان. ويؤدي هذا الاعتقاد بالضرورة إلى احتقار الإنسان وجعله مجرد جزء من آلة باردة لا حياة فيها. وهو سلوك واعتقاد مبني على اليقين التام بأن ما تقوله وتفعله هو تجل للمطلق والحقيقة النهائية. مما يجعل من رؤيتها وهواجسها وأهوائها حقائق مطلقة يحق لها تأويل كل فعل وقول وحادثة مهما قرب أو بعد حدوثها، انطلاقا من يقينها بأنها ممثلة المستقبل. الأمر الذي يجعلها على الدوام تحتقر الماضي و"مخلفاته" في كل شيء، وبالتالي تجعل من تحطيم التقاليد أسلوبا لكسر "أصنام" الماضي. ومن ثم إخلاء الكعبة من أصنام الماضي وإحلال سدنتها فيها. كما تجعل من كل ما تقوم به طقوسا وعبادات مبرمجة بحيث يتحول الحماس والابتهاج في القتل والانتقام إلى فصول في مسرحياتها الدموية. وهي "مسرحية" خاتمتها السقوط، لأنها لا تستطيع أن تقتل إلى ما لا نهاية. وفي موتها تمثل أتفه الأدوار لأنها تختتم فعلا دراميا دماءه وقتلاه التاريخ والمجتمع والدولة.

وقد جسدت البعثية الصدامية في العراق نموذجا خاصا للتوتاليتارية ـأنتح أحد أكثر الأشكال رخاوة ورخوية في كل مكونات الدولة والمجتمع. فقد مزقت التوتاليتارية البعثية الصدامية نسيج الوجود العراقي وشوهت مكوناته الطبيعية مما جعل منها مجرد آلة اجترار للزمن وقتل الحياة. بحيث جعل منها كيانا يقف عند حدود الاستجواب البارد في مثال منكر ونكير، أي حارس بوابة القبور اللاهوتية "للبعث"!

لقد كانت الحصيلة النهائية للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على امتداد أربعة عقود هي سيادة الزمن الراديكالي وفقدان التاريخ بوصفه تراكما في المؤسسات والخبرة والتقاليد، وانحطاط شامل في منظومة القيم، وتفكيك كل ما يفترض الوحدة في بنية الدولة والمجتمع والثقافة، أي مقدمة كل الخراب والانحطاط الشامل في العراق.

لقد قدمت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية مثالا غريبا وسبيكة اغرب لجميع تقاليد الاستبداد. من هنا تصبح مهمة تحليلها وتشخيص مقدماتها ومقوماتها على مستوى الرؤية النظرية والممارسة العملية والشخصية المقدمة الضرورية لنقدها الشامل. وذلك لما في هذا النفي من ضرورة بالنسبة لإرساء أسس العقلانية والنزعة الإنسانية في بناء الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والنظام السياسي والدولة العربية.

والكتاب الذي بين يدي القارئ يحتوي على قسمين، الأول وهو حوار فكري (بالمراسلة) اجراه معي الصحفي الألمعي يوسف محسن. ومن ثم يمكن النظر إلى الأجوبة على أنها مقالات متخصصة بمختلف جوانب القضايا المطروحة. وفي كل محور يمكن العثور على رؤية نظرية ونقدية متكاملة بوصفها بابا من أبواب الكتاب. ومجموع المحاور هي أبواب الكتاب. وقد اتبعت فيه أسلوبا ييسر للقارئ العام أيضا إمكانية المتابعة الفكرية دون إرهاق، والبقاء أيضا ضمن سياق الفكرة الفلسفية والسياسية النظرية.

أما القسم الثاني فقد جمعت فيه الكثير من الدراسات والأبحاث والمقالات التي كتبتها حول ظاهرة التوتاليتارية والاستبداد بشكل عام. وكانت من حيث حجمها الأول تعادل أو اكبر بقليل من حجم الحوار. لكنني اتجهت في نهاية المطاف إلى إزالة اغلبها والإبقاء فقط على ما له علاقة بالظاهرة التوتاليتارية الصدامية.

ميثم الجنابي

المحور الأول: مفهوم التوتاليتارية وحدوده الفعلية (1)

• نشأت التوتاليتارية في تاريخ أوربا كفلسفة بنائية حيث تكونت من مصادر متعددة فكرية وسياسية واجتماعية وتداخلت عناصر متناثرة غير متسقة لتأخذ شكلها النهائي. ما هي أصول الفلسفة التوتاليتارية؟

من الصعب الحديث عن "أصول فلسفية" مستقلة للتوتاليتارية. بمعنى أن من الصعب الحديث عن "فلسفة توتاليتارية" مستقلة قائمة بذاتها. بما في ذلك عن تلك الفلسفات التي اقترنت بها النظم السياسية التوتاليتارية كالشيوعية (الماركسية واللينينية والستالينية وغيرها) والفاشية والاشتراكية القومية (النازية). فالتوتاليتارية أيديولوجية وحالة ومنظومة فريدة وحديثة لحد ما من التحكم بالدولة والفرد والمجتمع والروح والجسد. وإذا كان بالإمكان العثور على صفات مشتركة بينها وبين الأديان و"مؤسساتها" اللاهوتية، كما هو الحال بالنسبة للكنسية، بما في ذلك في اشد حالاتها انحطاطا ودموية (العصر الوسط ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية والدينية)، فان الخلاف يبقى كبيرا ولحد ما جوهريا. وذلك لأن الأديان ومعتنقيها "يؤمنون" بما يفعلون بوصفهم جزء من "إرادة إلهية" باقية في نصوص "مقدسة" (توراة وإنجيل وقرآن). بينما التوتاليتارية تضع "إرادة الحزب" و"القائد" فوق كل اعتبار. مما يفرغها من فكرة القانون والشريعة والنوازع الأخلاقية. كما أن الفكرة الدينية تتمتع بالقدرة على البقاء، بينما النظرية التوتاليتارية جزئية وعابرة.

من هنا عدم دقة الفكرة التي يحاول البعض من خلالها إيجاد الصلة بين الفكرة التوتاليتارية وفلسفة أفلاطون وهيغل ونيتشه وغيرهم. فعندما تناول بوبر هذه القضية في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداءه) الصادر عام 1945، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، فانه وجد المصدر الفكري للتوتاليتارية في فلسفة أفلاطون السياسية، استنادا إلى انه أول من قال بان العدالة هي ما يفيد الدولة ويستجيب لمصالحها. من هنا استنتاج بوبر القائل، بأن فلسفة أفلاطون اقرب ما تكون إلى هندسة سياسية اجتماعية طوباوية، مع ما يترتب عليه بالضرورة من تصنيع للعقائدية الجزمية. هذا ما توصل إليه بوبر. أما في الواقع، فانه وليس من الصعب نقض هذا النتيجة، وذلك لأنها مجرد تأويل جزئي لبعض آراء أفلاطون.

إن فلسفة أفلاطون، بل كافة الفلسفات والأديان الكبرى تحتوي بالضرورة على ما يمكنه أن يمدّ التوتاليتارية بأفكار معينة، كما تساعدها بصورة عرضية على تشحذ وعيها الخطابي وهمومها الوجدانية، وذلك لأن التوتاليتارية رؤية نفسية ذهنية جمعية ونظام شامل. من هنا إمكانية واحتمال استعمالها لمختلف الأفكار والقيم والشعارات والممارسات التي تخدم فكرة الواحدية.

والواحدية فكرة كبرى. من هنا "كبر" التوتاليتارية وضخامة رؤيتها لنفسها وغاياتها. ومن هنا أيضا حبها للضخامة والتضخيم في كل شيء. بحيث يمكن رؤيته في تسييرها للمظاهرات المنظمة الكبرى واستنفاذ طاقة الضمير والوقت على أمور تافهة، وحب البنايات الضخمة والمشاريع "الكبرى" والتماثيل واللوحات والجداريات الضخمة. ولم يكن ذلك معزولا عن هشاشتها الداخلية وضعفها الذاتي، الذي يمكن العثور عليه في التهامها الفج لقشور القيم والشعارات الرنانة.

إنني أورد هذه الأمثلة من اجل التدليل على أن التوتاليتارية بوصفها نفسية وذهنية خاصة غير قادرة على تمّثل الفكر الفلسفي الكبير. إنها تقدر وتعمل فقط على تطويع القيم الأيديولوجية، كما نراه بجلاء على نماذج البلشفية (اللينينية) والستالينية والموسولينية والهتلرية. فهي جميعها تفتقد إلى إدراك ومعرفة التراث الفلسفي. فقد كانت معارف لينين الفلسفية (بوصفه الأوسع معرفة مقارنة بمن جرى ذكرهم) بسيطة للغاية ومحصورة بالماركسية المسيسة فقط. إذ لم تتعد معارفه بهذا الصدد أكثر من قراءات سريعة لكتب قليلة، كما نعثر عليها فيما يسمى "الدفاتر الفلسفية"، أي في التلخيص الذي لا يتعدى عشر صفحات متعجبة من "اكتشافات" عادية!! إضافة إلى كونها لا تتعدى أكثر من حبيبات الملح الضرورية لطبخة الشهية "الماركسية". وما عداها لا شيء!

وفيما لو تناولت هذه القضية ضمن سياق الرؤية الفلسفية الصارمة، فان من الممكن القول، بان الفلسفة والتفكير الفلسفي العميق يخلون من إمكانية التأسيس النظري للنزعة التوتاليتارية. إذ لا يمكن العثور على منظومة فلسفية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة أسست للمشروع التوتاليتاري. كما يخلو منها الفكر الفلسفي الإغريقي والصيني والهندي والإسلامي.

وإذا كانت الفكرة الجوهرية للتوتاليتارية تتمحور حول الواحدية، وبالتالي تحتوي على عناصر الوحدانية، فأن الخلاف بينها وبين التراث الفلسفي الوحداني (بالمعنى الفلسفي) يبقى جوهريا ولا يمكن ردم الهوة بينهما. فالوحدانية الفلسفية لامبيدوقلس والغزالي وابن عربي وهيغل وأمثالهم هي نفي شامل لمضمون التوتاليتارية.

التوتاليتارية هي منظومة التوليف الخربة للعناصر المتناثرة في المنظومات الأيديولوجية من قيم نفسية وأوهام سياسية وخيال شعبي محكوم بأزمات للقادة والجماهير في مراحل الانعطاف العاصفة للدولة والأمة والثقافة، أي في مراحل "المصير" القومي المتأزم. من هنا ترابط احدهما بالآخر بوصفهما وجهان للأزمة البنيوية الشاملة للدولة والأمة والثقافة من جهة، وللصدفة القاتلة للعقل والضمير التاريخي السليم من جهة أخرى. وليس مصادفة أن تلتقي في خصائص تفكيرها الأسطوري، وغاياتها الكونية الكبرى، وأساليبها العملية رغم تباين شعاراتها الأيديولوجية (القومية والأممية وغيرها). ومن هنا أيضا إمكانية توظيف بعض الأفكار الفلسفية لهيغل ونيتشه في التوتاليتارية الألمانية الهتلرية، وكذلك الانتقاء المتحزب للتراث الفلسفي والتاريخ العالمي ككل في التوتاليتارية السوفيتية. طبعا أن ذلك لا يعني تطابقهما بهذا الصدد، إذ تبقى الخلافات بينهما كبيرة أيضا. لكن الخلاف يبقى هنا محصورا في الوسيلة والغاية المعلنة. أما من حيث الجوهر فإن الهموم واحدة والمضمون واحد، ألا وهو الاستغلال الممكن لكل ما يمكنه أن يخدم "الفكرة الكبرى" الخاصة. بمعنى أولوية وجوهرية التطويع والاستغلال "المفتوح" على كل شيء من اجل وضعه ضمن أغلال "الانغلاق الذاتي". وضمن هذا السياق يمكن الاتفاق مع الفكرة الجوهرية التي وضعها بوبر بهذا الصدد عما دعاه بالمنظومات المغلقة (التوتاليتارية) والمنظومات "المنفتحة" (الليبرالية). فالتوتاليتارية منظومة مغلقة. بينما الفلسفة من حيث كونها رؤية وأسلوب في التفكير وغاية محكومة بحب الحكمة تتضاد مع الانغلاق والتزمت. مع أن ذلك لا يتعارض بدوره مع الادعاء الذاتي ببلوغ "الحقيقة النهائية". لكنه بلوغ لا يتعدى من حيث الإعلان والوسيلة والغاية سوى التعبير الفرح بالاكتشاف الحر والاجتهاد النظري. ومن ثم يحتوي في ذاته على نقيضه. الأمر الذي جعل من الأيديولوجيات الصرف مصدر ومرتع النفسية والذهنية التوتاليتارية، وبالأخص الأيديولوجيات الطوباوية السياسية.

فمن غير الصحيح إدراج الطوباويات جميعا بهذا الصدد، وبالأخص العقلية والأخلاقية منها. وهو الخطأ الذي وقع فيه بوبر وكثير غيره من فلاسفة ومفكري ومؤرخي الغرب الحديث في مجرى تناولهم للظاهرة التوتاليتارية. ومفارقة الظاهرة تقوم في أن هذا الموقف من الطوباويات هو النتاج المناقض لأصول الماركسية وموقفها "النقدي" من الطوباوية نفسها.

فالمساعي العملية والتنظير الفكري للنزعة التوتاليتارية القائمة في العقائدية السياسية تتسم بقدر واضح من الرؤية المباشرة بهذا الصدد. فعلى سبيل المثال، إن المفكر السياسي الايطالي جينتيلي الذي وضع مصطلح التوتاليتارية قد أسس له من خلال الفكرة الأيديولوجية القائلة، بأنه لا حدود لتدخل الدولة، ولا توجد أماكن لا يحق لها التدخل فيها. واستند في مطلبه هذا إلى فكرة أيديولوجية بحت تقول، بأن الدولة التوتاليتارية هي تجسيد للروح الأخلاقي للشعب، وذوبان الفرد في البنية العامة للحركات السياسية. وقد جرى وضع هذه الفكرة الأيديولوجية في الفاشية الايطالية، ولاحقا في النازية الألمانية. وقبلهما جرى تجسيدها النظري في الماركسية وتطبيقها العملي في البلشفية (اللينينية والستالينية). فحقيقة الماركسية أيديولوجية صرف. من هنا انتشارها السريع والمريع بين الأوساط البسيطة والجاهلة أو غير المتعلمة. وليس مصادفة ألا يقرأ رؤساء الأحزاب الشيوعية المؤلفات الأساسية لماركس وأنجلس ولينين وغيرهم من أيديولوجي الشيوعية. إنما اكتفوا كما هي العادة بالنسبة "لقادة الجماهير" بالشعارات وبعض "مختارات الحكم" التي ترصع الإيمان التقليدي للذهنية البائسة للجماهير و"نخبها" البليدة!

لكن الأمر يختلف بالنسبة للطوباويات العقلية الأخلاقية وذلك لأنها محكومة بنوازع معرفية ووجودية وأخلاقية عقلية، إي فلسفية صرف. ومن ثم فان غايتها ليس تنظيم المجتمع بمعايير ومقاييس العقلانية التكنوقراطية الحديثة، بقدر ما كانت تعمل ببواعث الوحدانية الفلسفية المتسامية، وفكرة الخير الأسمى، وحكمة رجل الدولة الفلسفية. وهي مكونات لا علاقة لها بالأيديولوجية الحديثة، كما هو الحال في (جمهورية) أفلاطون و(آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي. والشيء نفسه يمكن قوله عن مشاريع الطوباويات السياسية الأخلاقية العقلية الكبرى كما نراها على سبيل المثال عند توماس مور في (اليوطوبيا)، وكامبانيلا في (مدينة الشمس). فقد كانت تلك وأمثالها الصيغة الخيالية لجزيرة العقل المحاصرة بواقع فاسد. انها نموذج المجتمع العادل. من هنا اختلافها الجذري عن النماذج الشكلية اللاهوتية المشابهة، كما هو الحال في (مدينة الله) الاكوينية (توما الاكويني) و(شرح كتاب القيامة) ليوحيم الفلوري (ايطالي- القرن 12) وغيرها.

لقد غذّت هذه الطوباويات النزوع الأخلاقي والوجداني الذي عادة ما يلازم الأحلام السياسية الكبرى. وليس مصادفة أن تشتعل في العقل الصغير والوجدان الكبير للحركات السياسية المتطرفة في أوربا القرن الثامن والتاسع عشر مختلف الحركات الطوباوية. وبالتالي يمكن النظر إلى ما يسمى بتحول الطوباوية إلى علم (الاشتراكية الطوباوية إلى اشتراكية علمية) سوى حلقة في مسار "الحتمية" الملازم لزمن الطوباويات وخروجها الفعلي على مسار التاريخ الواقعي. من هنا يمكننا النظر إلى الشخصيات السياسية الكبرى لتيارات الطوباوية مثل ماليه، ومابلي، وموريلي، وبابوف، وسان سيمون وفورييه في فرنسا، ونستينلي وأوين في انجلترا، على أنها حلقات ربطتها الماركسية في "نظرية علمية" برزت أسسها الكبرى في (البيان الشيوعي) بوصفه احد النماذج الكبرى للتسطيح الفكري والتعبير الوجداني، الذي أشعل لهيب القلوب المرهقة في تأمل جنة التاريخ النسبية في البديل الشمولي الكلياني أو التوتاليتاري.

كل ذلك يكشف عما في الطوباويات السياسية من مصدر كبير قادر دوما على تغذية النزوع الوجداني للجمهور. من هنا سيادة وانتشار أنصاف المتعلمين فيها، بوصفهم الحلقة الرابطة والواسطة بينها وبين نماذج الأيديولوجيات الصارمة. وإذا كانت الطوباوية السياسية عادة ما تنطلق من فكرة "القرن الذهبي" والبديل "الاسمي"، فإن ذلك لا علاقة له من حيث الجوهر بما وضعته تقاليد ما قبل الفلسفة الإغريقية (غيسيود – القرن 8-7 قبل الميلاد) والفكرة الأفلاطونية. فالأزمان الذهبية جزء من بقايا الأحجار القديمة للوعي التاريخي وقيمة الثمن الكامن فيها. كما أنها تعكس التحسس المرّ بالواقع المعاش والرغبة في تجاوزه من خلال الرجوع إلى عالم الطفولة "البريء". لكنها براءة محكومة بحنين الجنين إلى أصوله، بوصفها العملية الضرورية الملازمة لطبيعة الأشياء والطبيعة. بينما كانت الفكرة الأفلاطونية سبيكة كبرى للعقل التاريخي والوجدان الثقافي الإغريقي، أي كل ما عمل لاحقا أرسطو على تهذيبه بمعايير المنطق والبحث عن الحقيقة المجردة. ومن ثم لا علاقة للفكرة الأفلاطونية بحد ذاتها بالتوتاليتارية أو الشيوعية. أما الهمسات واللمسات المتناثرة فيها فإنها تتحول إلى "نغم" يدغدغ مشاعر التأويل المتحزب فقط. ومن ثم لا علاقة له بأفلاطون والفكرة الأفلاطونية. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن مفارقة الظاهرة تقوم في أن التأويل المتحزب (السلبي والايجابي) للفكرة الطوباوية الأفلاطونية في العرف السياسي يستمد أصوله من التأويل المسطح والعجول الذي أطلقه ماركس عليها عندما وصفها بأنها الصيغة الأثينية المبجلة (المثالية) لنظام الطبقات المصري القديم!!

بعبارة أخرى، إن "المصادر الفلسفية" للتوتاليتارية تكمن أساسا في الأيديولوجية السياسية الطوباوية أو اليوطوبيا السياسية العملية كما هو جلي في الشيوعية والفاشية والنازية، بوصفها النماذج الكبرى لهذا الاستعمال "العقلاني الشكلي" الصارم لتراث الفلسفة المجزأة وتقاليد الطوباويات الوجدانية السياسية.

*****

ا. د. ميثم الجنابي

في المثقف اليوم