قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (2)

ميثم الجنابيالمحور الأول: مفهوم التوتاليتارية وحدوده الفعلية (2)

• طرحت الباحثة حنة اريندت في كتابها (أسس التوتاليتارية) أن النازية والفاشية والستالينية تمثل الشكل الذي ولد من انهيار البنية السياسية والاجتماعية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى. ما هذا الشكل الجديد للهيمنة داخل المجال الأوربي المتمثل بالظاهرة التوتاليتارية؟

- من الأدق ترجمت كتابها بعبارة أصول أو منشأ أو مصادر التوتاليتارية، الصادر عام 1951. في البداية أود القول، بان كتاب حنة اريندت من بين الكتب القيمة بهذا الصدد. وتكمن قيمته الأساسية في تتبع وتحليل مختلف مظاهر التوتاليتارية وأساليبها في تنظيم القمع و"نزع إنسانية الإنسان". بمعنى انه يتسم بصفة التقرير والإشارة والتصوير، إضافة إلى امتلاءه بالتلوين البلاغي، الذي لا يخلو من تأثير أصول المؤلفة والتجربة المريرة التي تعرض لها يهود ألمانيا آنذاك. مما طبع الكتاب في كثير من جوانبه بنزعة نقدية وجدانية عارمة للتوتاليتارية وتعرية أساليبها الهمجية في سحق الشخصية الإنسانية.

وما عدا ذلك، فإن مستوى التأسيس النظري الفلسفي فيه يبقى ضعيفا. وقد تكون فكرة أن التوتاليتارية الشيوعية الستالينية والنازية والفاشية هي نتاج لانهيار البنية السياسية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى احد نماذجها. فمما لا شك فيه، أن التطور الرأسمالي كان يجري في جميع البلدان ضمن مسار كسر وتحطيم وتدمير وتذليل البنية التقليدية. لكنه لا يحتوي بحد ذاته على إمكانية الصعود التوتاليتاري. على العكس! أن الصعود التوتاليتاري هو نكوص إلى تقليدية "متسامية"، أي محكومة بطوباوية الأيديولوجية العملية (السياسية) "المتسامية". وفي هذا يكمن تناقض النزعة التوتاليتارية. بمعنى، أنها تنتقد الواقع من اجل الاستيلاء على الماضي والحاضر والمستقبل، أي مصادرة الواقع والآفاق. فالتوتاليتارية "فكرة مستقبلية". من هنا احتقارها للماضي. إنها لا تحتوي على أي نقد تاريخي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، مما يجعل من الماضي والحاضر والمستقبل زمنا لا قيمة له مقارنة بما في نياتها وإرادتها وغايتها!

فالشيوعية والنازية والفاشية، أي القوى المتربية بتقاليد الأيديولوجيات الكونية الكبرى وبدائلها الشمولية هي قوى راديكالية. وفي هذا يكمن سرّ عنفوانها زمن الأزمات و"مراحل الانتقال" العاصفة. لكنها خلافا للقوى الأخرى الفاعلة زمن انكسار القيم والمفاهيم والمؤسسات عادة ما يرتبط نقدها للواقع بمحاولة تجاوزه إلى "الأفضل" و"الأسمى". لكنه تجاوز يعادل في حقيقته الرجوع إلى نفسية وذهنية القطيع البدائي. وفي هذا يكمن سرّ وطبيعة "الشكل الجديد للهيمنة"، أي لمصادرة التاريخ والمستقبل والروح الإنساني والعقل الحر، باختصار مصادرة كل شيء من اجل صنع كلّ خاضع وخنوع بوصفها الصيغة "المثلى" و"المتسامية" للبديل. من هنا تنوع مظاهرها، واجتماعها في الغاية والوسائل. باختصار ليست هذه الأشكال الجديدة للسيطرة والاستحكام والهيمنة سوى مظاهر متنوعة لفعل الآلة التكنوقراطية الشكلانية الصارمة في "توحيد" الطبيعة وما وراء الطبيعة في بنية أو تشكيلة تتناسب مع الغاية الكبرى للأيديولوجية وشعاراتها المعلنة: اجتماعية طبقية أو قومية عرقية.

ذلك يعني أن صعود هذه الأنماط التوتاليتارية ونماذجها في "الهيمنة" داخل "المجال الأوربي" يعكس أولا وقبل كل شيء، كما هو الحال بالنسبة لكل التوتاليتاريات الأخرى، خصوصية الأزمة البنيوية الشاملة والحادة للدولة والمجتمع والثقافة في مراحل الانعطاف الحاسمة وكيفية تنظيم الردود عليها في منظومات نظرية (أيديولوجية) وعملية (سياسية) تستقطب وتستنسخ بصورة مشوهة خليط القيم النفسية والأوهام السياسية والخيال الشعبي المحكوم بأزمات القادة والجماهير، بحيث يجعل منهما كتلة لا عقلانية ترفع هيجانها إلى مصاف "القدر المحتوم". بينما لا تتعدى حقيقة هذا "القدر" ما أسميته بالصدفة القاتلة للعقل الثقافي والضمير التاريخي للأمم. وليس مصادفة أن يكون صعود التوتاليتارية واستحكام سيطرتها في ثالوث القوة "الروحية" الكبرى لأوربا (روسيا وألمانيا وايطاليا). فقد كانت روسيا عند بداية القرن العشرين تحتوي على قدر هائل من الصعود "العالمي"، وإنتاج روحي فكري ثقافي علمي غزير وضعها في أولية "الطليعة الأدبية" العالمية، بينما كانت ألمانيا مصدر الإشعاع الفلسفي العالمي ومنظومات "المطلق" العقلي والروحي والأخلاقي، أما ايطاليا فهي أس "الأنا الأوربية" المادية والروحية، بمعنى جمعها بين تقاليد روما السياسية الحقوقية ومرحلة النهضة التي أسست لبنية الوحدة الثقافية الأوربية ومن ثم "مركزيتها الكونية". إننا نلاحظ ظهور التوتاليتارية في "أقوى" البلدان وأضعفها، أي أقواها من حيث الاحتمال والإمكانية، وأضعفها من حيث الفعل والواقع. من هنا شهية الإرادة في تذليل هذا الخلل من خلال البحث عن قوة بديلة وإرادة عليا ويقين جازم

بعبارة أخرى، إن الأنماط الجديدة للهيمنة الكلية هي أشكال متشنجة لتجسيد المشاريع الكبرى الضاغطة على الوعي القومي واللاوعي الثقافي، التي تحطمت أمام مجريات التاريخ الواقعي. وليس مصادفة أن يكون احترابها أساسا فيما بينها وبصورة تتسم بقدر من الشراسة والعنف لا مثيل لهما، سواء ما قبل صعود البلشفية (الحرب العالمية الأولى) وما بعد صعود الفاشية والنازية وهيمنتهما السياسية (الحرب العالمية الثانية).

• هل يمكن حدّ التوتاليتارية الأوربية بشكل خاص، بحيث يمكن تطبيق هذا الحدّ (التعريف) أيضا على الظاهرة التوتاليتارية العراقية؟

- تفترض الإجابة على هذا السؤال الانطلاق من تحديد ماهية التوتاليتارية وخصائصها وسماتها وتفحص مقدماتها وأصولها لكي يكون بإمكاننا رؤية الحصيلة النظرية بهذا الصدد. عندها يمكنني تحديد موقفي من "التوتاليتارية الأوربية" بمختلف أشكالها، وبعد ذلك تجاه غيرها.

وسوف لن أتوقف عند الجدل المتعلق بدقة هذا المصطلح من عدمه وعما إذا كان يفي بالغرض أم لا، كما قال بذلك كثير من المفكرين والباحثين أمثال غيدنس وشابيرو. فهي أمور لا تغني البحث كثيرا. بمعنى إنني سآخذه كما هو بوصفه مصطلحا "شائعا" ومعبرا عن ظاهرة فريدة لها خصائصها وتاريخها الذاتي في العالم المعاصر.

فمن حيث المصطلح ليست التوتاليتارية (الكليانية) سوى الصيغة المعربة للكلمة اللاتينية totalitas، أي الكلّ أو الامتلاء. أول من استعمله في ميدان العلاقات السياسية موسوليني. فقد استعمال هذا المصطلح الذي بلوره المفكر السياسي الايطالي جوفاني جينتيلي، الذي انطلق من الفكرة القائلة، بأنه لا حدود ولا أماكن لا يحق للدولة التدخل فيها. وأن الدولة التوتاليتارية هي تجسيد للروح الأخلاقي للشعب، مع ما يلازم ذلك ويفترض بدوره ذوبان الفرد في البنية العامة للدولة وحركاتها السياسية.

غير أن التوتاليتارية، بوصفها ظاهرة تاريخية سياسية فكرية وثقافية غاية في التعقيد. لكنه تعقيد يختبئ وراء ملامحها الجلية والبسيطة! وفي هذا تكمن دوما خصوصية الظواهر الكبرى. إذ ليس هناك من ظاهرة لعبت هذا الدور المأساوي والعنيف في التاريخ الحديث والمعاصر أكثر مما لعبته الظاهرة التوتاليتارية. إنها صنعت بقدر واحد "بداية" و"نهاية" التاريخ المعقد للقرن العشرين. إذ احتوت بقدر واحد على "أمل" التاريخ ومأساة الوجود. وما بينهما تراوحت حصيلة تاريخ الحداثة وخاتمته. مع ما في ذلك من كمون هائل للاحتمالات القائمة في العولمة المعاصرة، باعتبارها مرحلة البدائل الكبرى.

وفيما لو أهملت هذه الجانب، رغم ما له من أهمية بالنسبة لفهم خصائص "المشروع الكوني" للنزعات التوتاليتارية الكبرى" ومن ثم أثرها بالنسبة لمصيرها التاريخي في مواجهة المسار الطبيعي للعولمة، فإن التوتاليتارية كانت وما تزال تحتوي في أعماقها على احتمال التشويه والتخريب الفعال للبحث عن بدائل عقلانية. من هنا عدم دقة الفكرة السائدة في تحديد التوتاليتارية على أنها مجتمع عقلاني – تكنوقراطي مغلق، ينزع من الإنسان إنسانيته. إنها تحتوي دون شك على عناصر عقلانية جزئية مثل معارضة الدين والتدين، لكنها لا تقل عنهما "كفاءة" في تصنيع الإيمان القهري! أما نزعها لإنسانية الإنسان فهو احد نتائجها الملازمة بسبب سيادة فكرة الواحدية الأيديولوجية التي تقترب من حيث نيتها وغايتها ووسيلتها من نفسية وذهنية العبودية القديمة.

وضمن هذا السياق يمكن الإقرار العام بالفكرة القائلة، بأن التوتاليتارية ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية خاصة، وأنها الصيغة القادرة على اختبار مختلف المنهجيات النظرية في الموقف من ماهية التوتاليتارية وتحديد خصائصها ونقدها الفكري والسياسي. وقد يكون التيار الروسي النقدي في موقفه من التوتاليتارية الأكثر قربا من فكرة التحليل المنهجي السياسي والثقافي للظاهرة التوتاليتارية بوصفها ظاهرة ثقافية – سياسية، كما نلمحها في مواقف وأراء كل من بيردياييف، وبولغاكوف، ونوفوغورودسيف، وستروفه، وفيودوروف، وفرانك وغيرهم. إذ اجمعوا بصورة عامة على ربط ظهور التوتاليتارية بطبيعة الأزمة العامة للحضارة الأوربية الغربية وكيفية انكسارها في الواقع الروسي. إذ وجدوا في الماركسية تعبيرا عن هذه الأزمة وتمثلا لها. كما أن روسيا أصبحت حقلا تجريبيا لهذه الأزمة المزدوجة (الأوربية الغربية والروسية في ميدان الثقافة والسياسة). إذ جرى تجريب فلسفة الأزمة (الماركسية) في واقع روسيا المتأزمة، عبر النظر إليها على أنها "الحلقة الأضعف" في سلسلة الأزمات الأوربية بداية القرن العشرين. فقد أدت الأزمة الاجتماعية الثقافية الروسية إلى انتصار الدكتاتورية البلشفية المتلبسة بهيئة دكتاتورية بروليتارية. فهي الفكرة التي قال بها بيردياييف ثم أيّدها في وقت لاحق كل من فيودوروف وستروفه. إذ أكد فيودوروف على أن طبيعة هذه الأزمة في ظروف روسيا هي نتاج لديناميكية الغربنة الأوربية وانحلال العلاقات التقليدية مع ما ترتب عليه من تشّوه في الوعي الاجتماعي وتشّوش في الرؤية السياسية والاجتماعية والثقافية.

بعبارة أخرى، إن التيار الروسي في تحليله لماهية التوتاليتارية ودراسة أسباب ظهورها ونقدها انطلق من مواقفه الخاصة تجاه مظهرها الروسي. بمعنى أن مواقفه كانت محكومة بمعايشته لمصير الدولة والنظام السياسي والأمة الروسية التي تعرضت إلى أول تجريب خشن للنزوع التوتاليتاري. ووجدت هذه الحالة تعبيرها النقدي أيضا فيما يسمى بتقاليد معارضة اليوطوبيا في الإبداع الأدبي والفني كما نراه على سبيل المثال في أولى المحاولات التاريخية الساخرة والعميقة في كتابات زامياتين (نحن) 1920، ورواية بولغاكوف (قلب كلب) 1924، وما تبعها لاحقا بعد عقود من الزمن كما هو الحال في رواية جورج اوريل (1980) التي كتبها عام 1948.

لكننا حالما ننتقل إلى ميدان الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي، فإن انعكاس فهم مقدمات ومضمون الظاهرة التوتاليتارية ونقدها يأخذ بالبروز في ثلاثينيات القرن العشرين، كما هو جلي على سبيل المثال لا الحصر في كتاب اورتيغا – إي- كاسيت (انتفاضة الجماهير) الصادر عام 1930. فهو من بين أوائل من تكلموا عن ظهور "الإنسان الجماهيري" المنظم على أساس أيديولوجيات كارهة وعصبية. غير أن المزج التام بين تحليل مقدمات ظهور التوتاليتارية ونقدها يبدأ بالتراكم مع كتاب هكسلي (حول العالم الغريب الجديد) الصادر عام 1932. إذ نعثر فيه هنا للمرة الأولى على تحديد ماهية النظام التوتاليتاري على انه مجتمع عقلاني تكنوقراطي مغلق، يحوّل الإنسان إلى مسمار في آلة الدولة التي تفقده إنسانيته. كما انه مجتمع ونظام يقتل القيم الإنسانية من حب وفنون ودين. في حين ربط هايك في كتابه (الطريق إلى العبودية) الصادر عام 1944 ظهور التوتاليتارية بالاتجاهات الاشتراكية المعارضة لليبرالية، أي تلك الاتجاهات التي رفضت فكرة القيمة المطلقة للفرد والشخصية الإنسانية، بحيث جعلت من الإنسان مجرد أداة لغاية أسمى! وعمّق لفيلسوف بوبر لاحقا في نقده للتوتاليتارية هذا الاتجاه كما نراه في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداءه) الصادر عام 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصراع التوتاليتاريات الدامي. إذ انطلق من مقدمة فكرية تقول، بأن التوتاليتارية ظاهرة قديمة. وأنها موجودة في "المجتمع المغلق" في معارضة المجتمع المفتوح. والمقصود بالمجتمع المغلق هي البنية التقليدية البدائية القبلية. وإذا كان مضمون الثورة التاريخية الكبرى للإنسانية يقوم في تأسيس الانتقال من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح، فإن التوتاليتارية الجديدة هي رجوع إلى المجتمع المغلق. إنها تتمثل نفسية الرجوع إلى المغارة وسيادة الانغلاق عبر إرساء أسس السيادة المطلقة للدولة. بحيث نراه يجد في فلسفة أفلاطون السياسية مصدرا فكريا أساسيا للتوتاليتارية، انطلاقا من فكرة أفلاطون القائلة، بأن العدالة هي ما يفيد الدولة ويستجيب لمصالحها. وبالتالي ليست فلسفة أفلاطون بهذا الصدد سوى احد نماذج الهندسة السياسية الاجتماعية الطوباوية. والطوباوية تؤدي بالضرورة إلى العقائدية الجازمة. بينما المهمة تقوم ليس في إسعاد البشر بل في تخفيف معاناتهم. بينما اعتقد كانيتي بأن التوتاليتارية هي اقرب ما تكون إلى تمظهر مكثّف لصيغة أولية نموذجية تعيد إنتاج نفسها في الوعي والسلوك العملي. وهو تفسير نفسي اجتماعي كما لو انه يريد القول، بأن التوتاليتارية موجودة في النفس البشرية وأنها قديمة شأن كل مظاهر السيطرة والخضوع والهيمنة والتحكم. بينما وجد توينبي في التوتاليتارية بديلا وتعويضا عن الدين.

أما حنة اريندت، التي تورد اسمها وكتابها في أكثر من سؤال، فإنها تناولت الظاهرة التوتاليتارية بصورة محترفة وموسعة منذ وقت مبكر، أو بصورة أدق بعد بروز اغلب معالمها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية والفاشية. ففي كتابها (أصول التوتاليتارية) الصادر عام 1951 يمكننا رؤية ملامح النازية الألمانية بوصفها النموذج "الأرقى" للتوتاليتارية. وكتابها كما أشرت لا يتسم بمنهجية عميقة ومتجانسة، لكنه يحتوي على تصوير دقيق ومتوسع لمظاهر التوتاليتارية الألمانية وتقديمها على أنها نموذجا شاملا. ولا يخلو هذا التحليل والنقد من ردود الفعل النفسية والأخلاقية على ما في النازية من إفراط في إرساء أسس المنظومة التي "تفقد الإنسان إنسانيته" وتجعله عنصرا فعالا في "جمهور" أو "رعاع" مبتهج ومتحمس فيما تقوم به الدولة من جرائم تجاهه وتجاه الجميع. من هنا فكرتها عما تدعوه بالطابع المجرم للنظام التوتاليتاري وقدرته في الوقت نفسه على حصول تأييد الجماهير. الأمر الذي جعلها تتكلم عن أن أصول التوتاليتارية تقوم في تحول الطبقة (الاجتماعية) إلى جمهور (رعاع) في المرحلة الامبريالية. والرعاع ليس ما هو متعارف عليه، بل ظاهرة اقرب ما تكون إلى رعاع جمعي، أي رعاع من كافة الفئات والطبقات. وتبلغ هذه الظاهرة ذروتها في التقاء الرأسمال والرعاع. فالرأسمالية تقضي على الطبقات وتجعل الجميع رعاعا (نزع الطابع الطبقي)، مع ما يترتب عليه من تهشيم وتدمير للتمايز الاجتماعي والفئوي للبشر بوصفها المقدمة الاجتماعية الضرورية لتمثيلهم السياسي في مؤسسات حقوقية. من هنا غياب وتلاشي الحرية السياسية. وهي الحالة التي تجعل من الممكن صعود وقبول فكرة القائد والزعيم. مع أن زعماء التوتاليتارية لا يختلفون عمن سبقهم. والفرق فقط في سيطرتهم الشاملة. إذ ليس في الزعامة التوتاليتارية كاريزما (حسب الطريقة الفيبرية). أما شخصية هتلر فإنها لا تتمتع بقوة الكاريزما بقدر ما كانت تقوم في قدرته على خداع القوى المعارضة من خلال نظرتهم إليه باعتباره ديماغوجيا. كما أن ستالين لم يكن شخصية كاريزمية ويفتقد إلى ابسط قدرات الخطابة. إن الجوهري بالنسبة لصعود التوتاليتارية هو "الجمهور" أو "الرعاع" من خلال استنادهما إلى الدعاية والتنظيم، اللذين يتوقفان بدورهما أيضا على "الجمهور". غير أن فاعلية الدعاية تعمل حالما يصبح الشعار السائد هو "إرادة القائد هو قانون الحزب". وكذلك سيادة واستحواذ الأيديولوجية على عقول وأفئدة الجماهير من خلال توظيفها الدائم والشامل. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأيديولوجية هي أداة سياسية وليست معرفية. من هنا قيمة وفعالية المنظمات الأيديولوجية (المؤدلجة) والتنظيم الهرمي الصارم في الإدارة والمنظمات المحكومة بقاعدة "من ليس معنا فهو ضدنا"، أي كل ما يتوج الخطاب التوتاليتاري ويجعله خطابا لا عقلانيا.

إننا نقف هنا أمام تنوع كبير ومختلف لكنه يكمل احده الآخر فيما يتعلق بتحديد مقدمات وماهية التوتاليتارية. لكن الدراسات والأبحاث تجمع فيما يتعلق بتحديد سمات التوتاليتارية باعتبارها ظاهرة مميزة للقرن العشرين. وفيما لو أجملنا نتائج مختلف الدراسات والأبحاث المحترفة بهذا الصدد، فمن الممكن إجمالها بست سمات كبرى وهي:

1. نظام وسيادة الحزب السياسي الواحد،

2. النظام الدكتاتوري،

3. التحكم العام والصارم للدولة في كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والروحية،

4. استعمال العنف المنظم والشامل (العنف الجماعي والسياسي)،

5. والأيديولوجية الواحدة الشاملة (الحكومية) المتحكمة في كل شيء،

6. وأخيرا الزعامة المطلقة المعصومة للقائد الفرد الفذ.

مما سبق يتضح بأنه ليس هناك اتفاقا عاما وشاملا وجوهريا حول ماهية التوتاليتارية، إلا فيما يتعلق بالحصيلة المتعلقة بسماتها، التي يمكن وضعها في تحديد ماهية التوتاليتارية. وهي سمات دقيقة وتعمم في الواقع الصفات الجوهرية الكبرى المميزة للتوتاليتارية "الأوربية" وغير الأوربية، بما في ذلك "العراقية". إلا أن المضمون الأعمق وراء هذه "الوحدة" يكمن في الاختلاف التاريخي والثقافي والسياسي الفعلي القائم وراء ظهور توتاليتاريات مختلفة ومتباينة، بما في ذلك بالنسبة لآثارها اللاحقة على الدولة والأمة والثقافة. وهي قضية شائكة وكبيرة لكنني سوف اكتفي بوضع أسس الرؤية المنهجية العامة لمقدمات وماهية "التوتاليتارية الأوربية" ونماذجها المختلفة (الشيوعية والفاشية والنازية) و"العراقية".

إننا نستطيع الحديث عن "توتاليتارية أوربية" غير أن لكلّ منها خصوصيتها القومية والأيديولوجية والاجتماعية، التي تجعلها أحيانا مختلفة ومتعارضة بل ومتضادة. لكن ذلك لا يتعارض مع التقائها الجوهري فيما يمكن دعوته بالمرجعية الخفية الكامنة وراء هذا التباين، ألا وهي مرجعية "فكرة البدائل الشاملة". فالتوتاليتارية هي فكرة "البديل الشامل"، وبالتالي فهي فكرة بدائل الواحدية العقائدية والسياسية. وإذا كان نشوءها وتكاملها النظري (الأيديولوجي) قد برز في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن النصف الأول من القرن العشرين هو زمن تجسيدها العملي. ذلك يعني أن قرنا من الزمن (البيان الشيوعي عام 1948) يمكن وراء ظهورها الأوربي وتلاشيها، أي منذ البيان الشيوعي عام 1848 حتى ظهور "المعسكر الاشتراكي" (1948) والقضاء التام على منافسة المشاريع التوتاليتارية الأخرى للشيوعية الستالينية (الفاشية والنازية). وللاستطراد فقط أود الإشارة هنا إلى ظاهرة تستحق البحث ألا وهي أن هذا "القرن" كان أيضا زمن الصيرورة الخفية للمشروع الصهيوني وظهور "إسرائيل" بوصفها الضريبة التي حصل عليها اليهود مقابل "جرائم النازية" فقط!.

وعندما نضع هذا "القرن" الزمني ضمن سياق تحديد ماهية ومقدمات ظهور التوتاليتارية الأوربية، فإن "مأثرته" بهذا الصدد تقوم في انه زمن الصعود العارم للفكرة الراديكالية على ضفاف التيار الليبرالي العقلاني السائد للرأسمالية. ومن ثم لم تكن الراديكالية الأوربية في الواقع سوى الوجه الآخر للمرجعيات المتحكمة في آلية بلورة وفاعلية الليبرالية الأوربية. فقد صنعت الأخيرة في مجرى تطورها مرجعية "الأوربية المركزية" ووضعتها (بوصفها جزء من التطور التلقائي الأوربي) في صلب رؤيتها للبدائل الكونية. وقد اتسمت هذه البدائل في مجرى قرون عديدة بالدموية والعنف المصّدر للخارج. وجرى التنفيس عنه بإبادة شعوب واحتلال قارات. وكانت تلك إحدى أقسى وأعنف قرون التاريخ البشري. وهذا بدوره لم يكن إلا الوجه المّحسن بسبب فاعلية الفكرة الليبرالية والربح المادي من سحق رياء وتناقض المهمة "الأخلاقية والروحية" للكنسية، بوصفها "مركز الوحدة الأوربية". بعبارة أخرى، لقد استعاضت الليبرالية الأوربية مركزية ببديلها الاقتصادي الاجتماعي والثقافي عن مركزية الكنيسة الروحية العقائدية. أما الراديكالية الأوربية فقد تكاملت أيديولوجياتها الكبرى من خلال نفي الليبرالية والكنسية. مما كان يحتوي في أعماقه على مركزية المادة والروح. وهو الشيء الجوهري الذي صنع بوعي ودون وعي آلية التوتاليتارية التي وجدت منفذها في مجرى الأزمات الكبرى بهيئة بدائل كبرى للدولة والأمة والثقافة. فقد استمدت الراديكالية الأوربية في كل "مآثرها" رحيق الأنساق القائمة في وعي ولاوعي المركزية الأوربية، بوصفها الوجه الجديد لتقاليد الكنيسة الكاثوليكية (العالمية). فقد كانت وما تزال تقاليد الكنيسة النصرانية ونظامها المختزن في دهاليز اللاوعي الثقافي كامنة في وعي ولا وعي الثقافة الأوربية السياسية، رغم تعرضها الشديد للنقد والتثلم. وقد يكون تطويع وتأويل تقاليد وتاريخ اليونان والرومان والكنيسة الكاثوليكية من اجل بلورة "بديل" قومي – أوربي – عالمي احد أمثلتها الظاهرية. وبدأ ذلك "بالاكتشافات الجغرافية" وانتهى بالكولونيالية. وعملت في مجرى قرون من اجل أن تكون "الأوربية" عالمية. ومن هذه الذروة انطلقت الراديكاليات الأوربية الكبرى من شيوعية وفاشية ونازية. والفرق بينهم بهذا الصدد يقوم في أن نفسية وذهنية الهيمنة تعتمد في الشيوعية على "الطوعية" (مع أنها كانت مبنية من حيث يقينها السياسي الأيديولوجي الأول على فكرة "الثورة العالمية" و"تصدير الثورة")، بينما تعتمد في الفاشية والنازية على الإكراه بالقوة والعنف والإرهاب القومي والعرقي الأسطوري. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن فكرة المركزية العالمية التي حكمت الكنيسة والليبرالية الأوربية والراديكاليات الكبرى الدائرة بفلك "قوة المثال" ومثال القوة، هي المرجعية الكامنة والخفية وراء صعود "التوتاليتارية الأوربية". وخصوصية كل منها تقوم في شراسة فعلها المنظم من اجل صنع مجتمع تجريبي تكنوقراطي مغلق لا يخلو من عقلانية لكنها شكلية وجزئية. وذلك لأن التوتاليتارية "تراكم" في شحذ فكرة وهواجس "الوحدة" المطلقة. من هنا إمكانية جمعها بين كل العناصر المتناقضة من غضب السفهاء إلى حلم الأنبياء! وفي هذا تكمن خطيئتها الفكرية والروحية. فالتوتاليتارية خطيئة وليس خطأ! وهي الصفة التي تجسّدها كل توتاليتارية بطريقتها الخاصة. ولا تخرج "التوتاليتارية العراقية" (البعثية الصدامية) عن هذا التحديد الصارم، كما هو الحال بالنسبة للتوتاليتارية الشيوعية (الستالينية) والايطالية (الفاشية) والألمانية (النازية).

****

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم