قضايا

البحث عن الله

مجدي ابراهيميسلك الفكر الفلسفي على التعميم طريقة للوصول إلى الوحدة المنشودة، إلى الله، والصوفية من بين أنواعه المتعددة هم الذين يلجئون إلى اللقاء المباشر بالوجود العيني بدل أن يلجئوا إلى "الأقوال" التي قيلت عن ذلك الوجود.

خذ مثلاً قولي حين أقول: "هذه وردة حمراء زكية الرائحة".. فماذا تلاحظ؟ فأنت تلاحظ في الطرف الأول من الجملة " الوردة"، وهى بمثابة الوجود العيني بالفعل ثم يأتي في الطرف الثاني المقابل وصف الوردة بأنها حمراء وزكية الرائحة؛ ففي الطرف الأول هنالك كائن موجود اسمه الوردة وهو الوجود العيني. وفي الطرف الثاني يوجد وصف في شأن الوردة كونها حمراء وزكية الرائحة، لكن هذا الوصف لا يتعدى سوى كونه جملة لغوية مؤلفة من عدة كلمات، وكل كلمة مؤلفة من عدة حروف. وكلمات اللغة وحروفها (وجود لفظي) لا تصور كلية الشعور الوجداني لا في الجملة ولا في التفصيل؛ لأن الكلمات هى في كل لغة من اللغات هى نفسها الكلمات، وليست شيئاً أزيد من وصفها بالكلمات؛ أعني ليست شعوراً يخفق به قلب وينبض له وجدان.

وبما إن كلمات اللغة لا تصور كلية الشعور الوجداني فالعلاقة التكافئية بين الطرفين مفقودة؛ هنالك في الطرف الأول كائن اسمه "الوردة"، وهنا في الطرف الثاني قول قيل في شأن الوردة التي هى الوجود العيني، أي الوجود الفعلي الحقيقي، فلو كانت هناك علاقة تكافئية لأمكن الاستغناء عن الطرف الثاني تماماً، وبالتالي لن تكون ثمة علاقة ليجوز وصفها بأنها متكافئة أو غير متكافئة بل ستحل الوحدة المنشودة.

فالوصف ما هو إلا وجود لفظي لما يبدو عليه الوجود العيني القائم بالفعل، ولأن هذا الوصف إن هو إلا مجرد أقوال قيلت عن هذا الوجود العيني؛ فمن يصف الوردة بأنها حمراء زكية الرائحة في حالة يحق له أن يصفها في حالة أخرى بأنها بنفسجية لا رائحة فيها ولا لون.

وبما أن الوصف قد يصدق وقد يكذب؛ لأنه يخضع لحالات شعورية؛ ولأنه مجرَّد قول (أي مجرد لغة) فهو لا يصف حقيقة الوجود العيني؛ وعليه فالوجود اللفظي شيء والوجود العيني شيء آخر. وإذن فلا توجد بين الطرف الأول والطرف الثاني علاقة تكافئية بمقتضاها نستطيع أن نصف الوجود العيني القائم بالفعل. ثم ماذا بعد .. وما الذي تريد أن تقوله؟!

أريد أن أقول قولاً فاصلاً إنه مادمنا نعتمد في بحثنا عن الحقيقة الإلهية على الكلمات باعتبارها الأقوال التي قيلت عن هذه الحقيقة لا الحقيقة ذاتها؛ فإن إيماننا بها لا يزيد على كونه إيمان لغة لا إيمان حقيقة، إيمان لفظي لا إيمان عيني، ومن هنا يخفق الذين يبحثون عن الله من خلال ما قيل عنه من أقوال ويساورهم الشك دوماً في وجوده؛ لأنهم يعتمدون إيمان اللغة وإيمان القول وإيمان الكلمة مما توارثناه طيلة أجيال متعاقبة من تراث الفرق والمذاهب والنظريات والمباحث على اختلاف استخدامها تعبيراً عن الحقيقة بالوجود اللفظي وكفى. وكل هذا كله كلام فارغ لا يصور الحقيقة الإلهية ولا يمثلها ذوقاً في بؤرة الشعور؛ ربما يجريها لفظها نعم، ويصورها قولاً غير أنه لا يعمقها في الباطن ويفعلها مطلقاً في قلوب المؤمنين. لكن إيمان الحقيقة شيء آخر يختلف عن إيمان اللغة هو نفسه اللقاء المباشر بوجودها العيني والدخول فيها مباشرة بغير اعتماد على قول يُقال عنها .. وهذا هو إيمان الأولياء والعارفين : لقاءُ مباشر بالوجود العيني على التحقيق.  

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم  

 

 

في المثقف اليوم