قضايا

الوجد وجميل السرد

علي المرهجأمتع السرد ما ينطق به الوجد، فعوالم المُتخيل وعوالم السحر في الشعر والسرد، هي العوالم التي جاءت من عالم الوجد ومن عالم التخيل، بل كثير من نتاجات العقل النظري وقفزات النظرية العلمية لم يكن المُختبر وحده هو "فيصل التفرقة" بينها وبين عوالم الوجد والخيال، فكم من نظريات علمية تحققت اليوم كانت من قبل ضرب من ضروب الخيال وتأملات الحالمين الناظرين لعالم المثال؟.

فلك مثال تقتدي به في إكتشاف الكهرباء والتيلغراف والراديو والهاتف والتلفاز والوصول للقمر والتنقل في سُفن فضائية للكشف عن عوالم وكواكب أخرى خارج كوكبنا الأرضي"قرية صغيرة" تأتيك أخبارها وتطور أحداثها وتفاقم صراعاتها في التو واللحظة.

كل هذه الإنجازات العلمية كانت في يوم ما ضرب من ضروب الخيال، ورؤية حالم يسرد لنا قصصاً من عالم الخيال العلمي الذي هو نوع من أنواع الأدب الذي يعتمد فيه "السارد" = "العالم" على قُدراته الفائقة على خلق عوالم جديدة خارج أفق المُعاش الواقعي، بل وخارج أفق التعقل الإنساني ببنيته الاستدلالية (المنطقية)، لأن الراوي (السارد) = (المؤلف) فيه يعتمد على قُدرته التخيلية في التصور لمخلوقات وعوالم مُغايرة لكل ما هو مألوف في حياتنا اليومية، مُعتمداً ـ بطبيعة الحال ـ على بعض من توقعات العلماء سبقوا وفلاسفة حلموا بمدينة فاضلة وجمهورية مُثلى من الذين بنوا تصوراتهم للمستقبل وتحولاته وفق المتوقع وربما خارج المتوقع بما يفيض به خيال "السارد" = (الراوي) = (المؤلف)، فلم تكن عوالم مُسلسل "ستار ترك" الذي شغفنا فيه من عوالم التوقع المألوف في ذلك الوقت، ولكنه من عوالم التوقع المُستقبلي وفقاً لتسارع تطور النظرية العلمية في قراءتها لقوانين الطبيعة وإن بدت لنا نحن المُشاهدين أنها ضرب من الوهم أو مُجرد تأملات خيالية لا صلة لها بواقعنا المُعاش.

كان لغرائبية أفلام الخيال العلمي، بل وأفلام "الكارتون" في لعبها على "المفارقة" وخرق أفق التوقع العادي لنا للبناء السردي والعلمي المبني على وفق نظام سبق، فضل تبديل وتغيير وتنمية لتصوراتنا في تقبل المُغايرة وخرق المألوف عندنا في "سردية" الحياة التقليدية.

فنحن نُسافر عبر الزمن مع "ماتريكس"، أو "المصفوفة" وإعادة إنتاج فكرة المخلص "المُختار" الذي "يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلأت جورا"، ولكنه تصور مُفارق للدارج المألوف من تصوراتنا التقليدية، بل هو نمط جديد يخترق أفق تصوراتنا الدينية والتقليدية في الديانات الوضعية والسماوية لهذا "المُخلص".

إنه "مُخلص" لنا يبتغي الدفاع عن الخير ونشر العدل في "العالم الرقمي" الإفتراضي، جُلَ همه تحرير البشر من عبودية الآلات. وهذا تصور من عوالم الوجد لا عوالم الوجود، هو رؤية سردية تداخل فيها العلم الطبيعي مع الخيال العلمي، لينتج لنا رؤية خلَابة أخاذة. إنه تصميم جديد مُشوق تجاوز البناء التقليدي للبطل (المُخلص) في الفيلم الهندي أو "السوبر مان" الأمريكي الذي يفترض وجود بطل يُحارب الظلم والجور في عالم الواقع بجسد وعضلات وخصال حميدة لا مقبولية لها في التصور الطبيعي عندنا نحن البشر.

في عوالم الوجد لا الوجود عشقنا صراع "توم" و"جيري" وكأنه يُذكرنا بصراع الطبقات، فـ "توم" هو القط من طبقة "الأرستقراطية" الأعلى طبقة من الذين لم يتذوقوا طعم المرارة، و "جيري" هو الفأر من طبقة دُنيا "بروليتاري"، ولكنه بذكائه الحاد و "ثورته الدائمة" ورفضه للواقع المرير الذي فرضه عليه القط "الأرستقراطي" رسم وخطط للإطاحة بخصمه الذي تحمل منه كل مررات الحياة، ولكنه (القط) = (الأرستقراطي) لم يرتض للفأر (البروليتاري) أن يعيش عيشة هنية في حياته الردية، فحاربه وظل يُحاربه في عيشه، وخرق ناموس حياته التي لم يرغب (الفأر) فيها أن يكون خصماً لخصيم قوي مثل (توم) = "الأرستقراطي"، ولكن لا بُد مما ليس له بُد، فالقط السمين = (الرأسمالي الشره) لم يقبل بترك "جيري" الفقير يستمتع بحياة الفقر بكل آلامها ومرارتها، فأبى واستكبر، فكان من الظالمين، فما كان لجيري من خيار سوى المواجهة التي طال أمدها، فمذ كنت طفلاً عرفت "توماً" مُرابياً خبيثاً لئيماً، لا رغبة له سوى إهانة "جيري" وإمتهانه، واليوم وأنا في العقد الأربعيني من عمري وجدت الصراع على أشده بين "توم" و"جيري"، وفي كل مرة ينتصر "جيري" في حلقات المُسلسل الكارتوني، لإرضاء بعض أو كثير من مُشاهدي هذا اللعبة ممن هم من "القطط السمان" أو ممن هم من ضعاف الحال من فئران المحلة الفقيرة، والكل مُستمتع في المُشاهدة، ولكن في الواقع، (القط السمين) يلعب لعبته بماهرة في إتعاب خصمه الفأر الضعيف، ليُطيح به، إما أكلاً بشهية، أو تطويعاً له كعبد وتابع له من التابعين والرعية، وليعيش (جيري) ومن هم من أمثاله آمال الإطاحة بـ (توم) وأقرانه، فهذه من الأمنيات. فهل هناك من مانع في عيش (جيري) في عوالم الأمنيات؟ فهي أُمنيات لا تجعلم من (جيري) (توماً) ولا تظن أن (توماً) سيرضخ لمطاليب (جيري)، ولكن أُحسن الظن بعض الشيء بـ "توم" لأنه سيُراعي رغبات (جيري) أيام الانتخابات وتبنيه لدعوته في الإصلاح وتواجده في ساحة التحرير، بل وسيُشاركه في رفع العلم وخط اللافتات وتصدير الشعارات، ولكن (جيري) سيظل فأراً ولن يصير قطاً لأنه يتعلم في مدارس المقامرة ولا دراية له بسوق البورصة وأسعار الكراسي ساعة تشكيل الحكومات.

وللصراع في عوالم الرسوم المُتحركه غرائبية ومُفارقة وخرق لأفق التوقع، وهي من مُقتضايات الشغف في السرد الجميل بشجنه وحزنه وجمال التمتع بحُسن الروَي عند كاتب همه المتلقي الذي يعيش في عوالمه ليغيب هو عنها، بعد استكمل السرد. فدليل إجادة السرد ونجاح الراوي هو حينما يعيش القارئ "المتلقي" بعد تغييب السارد القاص لنفسه، كي يجعل القارئ (المُتلقي" مُشاركاً له في فعل القص وحضور شجن الروَي وسحر الكلمات وتصور الأمكنة والعود للأزمنة، أو العيش في مُستقبليات الحكاية وتصور عوالم السرد إن كان من الماضي أو من المستقبل الآتي.

وأجمل الوجد حين يكون السرد فيه تلقائياً لا تصنع ولا تكلف فيه لا في صياغة العبارة، ولا في التعبير تصنعاً لألم أو بناء لتصورات يعتقد السارد "الراوي" = (القاص) أنها من مُستلزمات تزويق الكلام ليُفقد القارئ التمتع بالمشاركة في بناء تصور أمثل للإخبار عن حقيقة المعاناة، ليجعل من زيف التعبير اللفظي بديلاً عن تصور واقع مصداقية المُعاش، فأعذب الشعر أكذبه، ولكن في الروَي أعذب السرد أصدقه كما أظن وأعتقد وإن كان في القص أو الروَي بعض من الاستعارة والبلاغة اللفظية.

تحدثت عن التخيل والحلم، وفي حديثي تقريب لا يندرج في أكذب الروَي، إنما يندرج في توصيف الحال وبناء دراما حكائية لمستقبل أفضل وفق تطور النظرية العلمية، أو فق تصور مُستقبلي يخترق المتوقع الدارج والمألوف للكشف عن إمكانات ضامرة فيه عن إمكانية مُتاحة في فضاء الحُلم الإنساني الذي يروم من وراء بنائه السردي (الراوي) تحسين أو تجميل الواقع أو نقده وتجاوزه عبر النفاذ في عوالم اللغة والتعابير الجمالية في توصيف الألم والفرح، أو في توقع القادم سرداً روائياً أو قصصياً ينتقل فيه الراوي من عالم الواقع المُعاش ليبني لقارئه ومتلقيه عالم مستقبلي أفضل.  

 

د. علي مرهج

 

في المثقف اليوم