قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (3)

ميثم الجنابيالمحور الأول: مفهوم التوتاليتارية وحدوده الفعلية (3)

• هل ترتبط التوتاليتارية بفكرة أو شخصية الأقلية (الاجتماعية أو السياسية أو العرقية أو القومية أو غيرها) أم أنها وثيقة الارتباط بالأيديولوجيات الشعبوية في أوربا العتيقة؟

إن حقيقة التوتاليتارية ومضمونها الفكري والسياسي لا علاقة له بالأقلية. أما جوهر الفكرة التوتاليتارية فمرتبط كما أشرت أعلاه بأيديولوجية البديل الكوني. لكنه بديل بلا احتمالات، أي بديل بلا بدائل! بمعنى أنها لا تقر بشيء غير بديلها الخاص. الأمر الذي يجعل منها نفسية وذهنية اقرب إلى الدين واللاهوت منها إلى الفكرة الدنيوية (العلمانية) الحرة، رغم أن التيارات التوتاليتارية دنيوية النزوع والغاية. وفي هذا تكمن مفارقتها وتناقضاتها الحادة. أنها تتمثل فكرة الكلّ من خلال واحدية ضيقة، وتنفي "المقدس" لتقيم على أشلائه "مقدساتها"، وتدعو للجمعية والجماهيرية والعمومية، لكنها تصنع خاصة لها امتيازاتها، ونخبة فارغة مغلقة، وسدنة طقوسها رغباتها!

وفي هذا يكمن سرّ ارتباطها بالأقلية. بمعنى أنها تسعى للقضاء على الأقلية لكنها تعيد إنتاج اشد أشكالها تطرفا وغلوا. فالانغلاق الكامن في النفسية التوتاليتارية وذهنيتها يتطابق مع حقيقتها. إذ لا تستطيع التوتاليتارية الفعل والعمل والإنتاج دون فكرة التمايز الحاد بين الأقلية والأغلبية، النخبة والجماهير، القائد والنخبة، أي أنها تصنع من حيث الجوهر اشد الأشكال هرمية. وتقدمها على أنها النموذج الأمثل للكلّ والعام. وضمن هذا السياق يمكننا الحديث عن وجود ترابط عضوي بين الأقلية والتوتاليتارية. لكنه ترابط له مقدماته وأسسه الأيديولوجية، بوصفه نتاج الأيديولوجية التوتاليتارية نفسها. فالتوتاليتارية فكرة كليّة وقسرية. ولا يمكن للكلّ أن يمارس القسر على نفسه بنفسه. كما أن فكرة "المنقذ" "المعصوم" القائمة في "القائد" و"الزعيم" تجعل من الأقلية قوة محببة له تماما بالقدر الذي يجعل منها القوة الأكثر طواعية في تلبية رغباته ونزواته. فالأقلية استمرار للزمن، أي لا علاقة لها بالتاريخ بوصفه تراكما ومؤسسة وبدائل تلقائية. من هنا استعدادها للقبول بكل شيء والقيام بكل شيء من اجل الاستمرار في الزمن.

فالأقلية أما بقايا تاريخية لم تكتمل وأما بقايا عوالم مندثرة. وليس مصادفة أن تلتقي الأقلية القومية والعرقية بالأفكار الراديكالية "الكونية" من اجل الاختباء بين ثناياها. وهو السبب الذي يجعل على سبيل المثال من الشيوعية مرتعا للأقليات. ومع انه تناقض فض، لكنه "طبيعي" ضمن سياق الرؤية النفسية الاجتماعية. فالأيديولوجية الراديكالية عادة ما تمدّ هذه العلاقة المزيفة بين "الأقلية" وفكرة "الأكثرية" الكونية بحبل البقاء السري. ومن ثم يمتص كل منهما من الآخر رحيق الحياة والموت. من هنا رجوع الأقليات إلى أصولها وجذورها الأولى بعد انهيار التوتاليتارية والراديكاليات الأيديولوجية، كما نراه بجلاء على حال العراق، حيث نزعت الأقليات عن جلدها قشور الشيوعية المزيفة وعادت إلى أصولها العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الجهوية. بحيث يصعب رؤية شيوعي من بين الأقليات، التي كانت تصول وتجول في الحزب الشيوعي. كما يصعب رؤية بعثي متمثلا لفكرة العروبة الثقافية. طبعا إن لكل منهما مقدماته وخصوصياته، لكنهما يكشفان عن نماذج متنوعة لشخصية الأقلية (العرقية أو الجهوية أو الطائفية أو الاجتماعية، أو خليط من مختلف هذه المكونات).

ذلك يعني انه بالقدر الذي تبلور الأيديولوجية الراديكالية الكونية نفسية وذهنية الأقلية السياسية أو الحزبية المغلقة، فإن الأقلية القومية أو العرقية أو الدينية أو الطائفية وغيرها تشكل المرتع الخصب لانتشار الراديكالية والقبول بها. مما يعطي لنا إمكانية الحديث عن البعد الاجتماعي السياسي الآخر المكمل لأيديولوجية النزوع التوتاليتاري. والسبب يكمن في كون الأقلية تحتوي من حيث "تاريخها الذاتي" وخصوصية استمرارها على احد مصادر الانغلاق والراديكالية. وبهذا المعنى فقط يمكن الحديث عن وجود علاقة عضوية بين الأقلية والتوتاليتارية. بعبارة أخرى، إن ولادة التوتاليتارية ليست مرتبطة بالأقلية، لكن حياتها وفعلها محكومين بنفسية وذهنية الأقلية. والأقلية هنا متنوعة، يمكن أن تكون قومية أو عرقية أو دينية أو طائفية أو جهوية أو اجتماعية تقليدية (عشائرية أو قبلية أو عائلية) أو سياسية، أو خليط بين مكونين أو أكثر منها. وقد تناولت هذه القضية في أكثر من مبحث، وقد يكون كتابي عن (اليهودية الصهيونية في روسيا) هو الأكثر تطبيقا لها بهذا الصدد. فقد كشفت بصورة تاريخية دقيقة عن طبيعة الترابط بين الأقلية العرقية (اليهودية بوصفها السبيكة الخاصة لما أسميته بوحدة الشتات والغيتو) والراديكالية البلشفية (الشيوعية).

إن التوتاليتارية ترتبط ارتباطا عضويا وجوهريا بالأيديولوجيات الراديكالية الكونية. أما الشعبوية (أو بصورة أدق الجماهيرية) فهي مجرد احد مظاهرها، والأكثر تمثلا وتمثيلا واستعدادا لتجسيد ما في النزعة التوتاليتارية من كمون بهذا الصدد.

• الدولة التوتاليتارية ظاهرة من ظواهر القرن العشرين. أنها تمثل الطور المكتمل للدولة البيروقراطية الحديثة، التي استطاعت اختراق المجتمع واحتكار السلطة. ما هي الأزمات التاريخية التي تعرضت لها هذه المجتمعات وأدت إلى ظهور هذا الشكل من الدولة التوتاليتارية؟

إن الدولة التوتاليتارية هي إحدى الثمار المرّة للقرن العشرين. ومرارتها تكمن في عدم قدرتها على تذوق الحياة بمعايير الحياة نفسها. وذلك لأن معيارها الوحيد هو القيم الأيديولوجية. بمعنى أنها محكومة في أذواقها بالأهواء الخاصة. وإذا كانت الأهواء هي النتيجة العرضية الملازمة لتطور الأمم والثقافات الكبرى، فإن سيادتها في القرن العشرين جعل من الممكن انتقال الهامشية والراديكالية من الأطراف إلى المركز، ومن ثم جعل الزمن حاكما على التاريخ. بمعنى انقلاب القيم والمفاهيم والمبادئ. وضمن هذا السياق تكلمت عن "مرارة" التوتاليتارية. أما في الواقع، فإن التوتاليتارية ليست خطأ في الذوق فحسب، بل وخطيئة تاريخية كبرى. لكنها شأن كل "خطيئة تاريخية كبرى" هي نتاج "خطأ كبير" في السمار التاريخي للأمم والدول والثقافة، أي خطأ الخروج على "منطق" التاريخ.

أما ارتباطها بالقرن العشرين، فبسبب كونه القرن الذي جعل من فكرة "الحتمية" فلسفة سياسية تاريخية. وإذا كان ارتباطها الظاهري بالشيوعية الماركسية، فإن جذورها النفسية والأيديولوجية تكمن في فكرة الحتمية القائمة في السيطرة "الفرحة" للمركزية الأوربية وقيمها وسهولة انتشارها وهيمنتها العالمية. لقد أنتج ذلك بوعي ودون وعي سهولة "البدائل الكبرى". لقد أصبح من السهل لكل برنامج ورؤية أوربية ادعاء العالمية. وهي نفسية وذهنية كانت أوربا ميدانها الأول. من هنا كانت الفكرة التوتاليتارية الوجه الآخر والمقلوب للنزوع الكوني الأوربي. لكنه نزوع أيديولوجي. وذلك لأن الكونية الأوربية لم تكن في الواقع سوى الوجه الآخر "للأوربية" القومية. وهي مرحلة تاريخية لها جذورها الخاصة في التاريخ والثقافة الأوربيين. وليس مصادفة أن تنشأ فيها ظاهرة التوتاليتارية "الكونية"، مع أن حقيقتها محكومة بالنزوع القومي الذي يشكل جوهر وغاية النزوع الأوربي "الكوني". إذ لم تكن التوتاليتارية الفاشية والنازية سوى الوجه الباهت للتوتاليتارية الشيوعية، أو الصيغة الأشد تشويها عنها. من هنا نزوعهما صوب السيطرة العالمية، ومحاولة فرض "نموذجهما" بالقوة. الفاشية والنازية باسم القومية، والشيوعية باسم الأممية المزيفة، وذلك لأن حقيقتها هي قومية الأقليات (العرقية والدينية). والتناقض الظاهري بينهما هو تناقض مهانة القومية الكبرى وصعود الأقلية. وكلاهما ظواهر مختلفة لما أسميته بالخطأ التاريخي الذي ترتبت عليه خطيئة سياسية كبرى. وليس مصادفة أن يكون صعودهما واندثارهما في القرن العشرين، بوصفه ذروة الصعود القومي (الأوربي) والعالمي أيضا.

لقد كان القرن العشرين ذروة الصعود القومي الأوربي. لكنه كان أيضا قرن المنافسة الكونية الجديدة. بمعنى صعود المركز الأمريكي العالمي، مع ما ترتب عليه من انتقال "المركز" أو بصورة أدق توزعه (بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة). وكمون الصراع الإمبراطوري فيهما. وإذا كانت التوتاليتارية السوفيتية جلية المظهر فأن الكمون الذائب في صعود "المركز" الأمريكي "العالمي" ليس إلا إحدى الصيغ الملطفة للنزعة القومية. الأمر الذي كان يحتوي في أعماقه على نزوع توتاليتاري يمكن رؤية نموذجه في أيديولوجية المحافظين الجدد وفكرة "الرسالة العالمية" و"القرن الأمريكي" وما شابه ذلك. لكنها توتاليتارية خارجية، بمعنى جرى توظيفها نحو الخارج، كما نرى صورتها المقلوبة في عملها المثابر على غسل مخ ومخيخ الوعي الأمريكي بعد أحداث "الحادي عشر من أيلول". وهي قضية بحاجة إلى التأمل والبحث. وذلك لخصوصيتها ونتائجها المستقبلية الكامنة في طي "الغيب". لكنها لا تتعدى النتيجة التي أدت إليها كل محاولات ونماذج الإمبراطوريات الحديثة، والنظم التوتاليتارية، بوصفها إحدى الصيغة المشوهة للنزوع الإمبراطوري في العالم الحديث والمعاصر.

فقد كان انحلال القوة الأوربية واضمحلال فكرة الإمبراطورية وراء صعود التوتاليتارية الشيوعية والنازية والفاشية. كما أن زوالهم يتضمن زوال الإمبراطورية والتوتاليتارية. وفي هذه الظاهرة ينبغي البحث عن سرّ صعود وانهيار التوتاليتارية في أوربا القرن العشرين. أما البيروقراطية، فأنها مجرد أداة إضافية. وذلك لأن البيروقراطية تتسم من حيث الجوهر بطابع محايد بهذا الصدد. بمعنى أنها يمكن أن تعرقل أيضا النزوع التوتاليتاري. كما أنها يمكن أن تخدم التفتح الديمقراطي وتقنين فكر الحقوق والواجبات والحرية. إذ لا توجد دولة ولا يمكنها الوجود والعمل بدون بيروقراطية.

إن جوهر القضية ليس في البيروقراطية، بل نمط إدارة الدولة والمجتمع. والتوتاليتارية تعمل وتفعل بمعايير ومقاييس القيادة السياسية الحزبية الأيديولوجية. إنها لا تعرف الإدارة، بما في ذلك البيروقراطية. أنها تعرف "الإرادة الفاعلة" و"التخطيط" غير العقلاني! وفي هذا تكمن المفارقة الكبرى للتوتاليتارية. لهذا فهي لا تخترق الجميع وذلك، بسبب ما تصنعه من قطيع محكوم بإرادة القوة والقهر، وقيم شرطية (خارجية) مفروضة أيضا بالقوة والدعاية المكثفة، ومحاصرة العقل والضمير الفردي والاجتماعي. لهذا من الصواب الحديث عن تحكمها بالفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة والثقافة من خلال منظومة "متجانسة" للقهر والإذلال والتوزيع والتحكم، باختصار إنها تتحكم بالروح والجسد والعقل، منذ الولادة حتى الموت. وتختلف مظاهر وصور هذه الحالة، لكننا نستطيع العثور عليها في كافة النماذج التوتاليتارية الشيوعية والفاشية والنازية وغيرها.

أما ما يخص طبيعة الأزمات القائمة وراء ظهور وصعود التوتاليتارية، فإنها متنوعة. والجامع بينها يعود إلى أزمة الدولة والأمة والثقافة و"حلها" من خلال صعود الراديكالية والعوام، أي حالما تصبح العوام "النخبة القائدة". ففي روسيا كانت الأزمة البنيوية الشاملة تتجسد في كونها "الحلقة الأضعف" في صراع البدائل. وفي ألمانيا في كونها "الحلقة الأضعف" في منظومة الهيمنة الكولونيالية، وفي ايطاليا في كونها "الحلقة الأضعف" في منظومة الاحتلال. وبالتالي، فأن لكلّ منها خصوصيته في الأزمة. وجميعها محكوم بنزوع إمبراطوري متشنج. فالإمبراطورية الروسية لم تعرف الحدود. إذ كانت واسعة الاستعمار ولم تعرف حدود إمكاناتها الفعلية. انه توسع أفقي (جغرافي) فقط، رافقه إهمال للتكامل. أما ألمانيا وايطاليا، فأنهما كان يعانيان مما يمكن دعوته بالنقص الإمبراطوري والمهانة القومية اللتين تعرضتا لهما. فقد كان تاريخ ألمانيا الحديث محاولات حثيثة من اجل إلغاء التجزئة والقضاء على مهانتها التاريخية القومية بأثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. أما ايطاليا، فإنها كانت تعاني من أزمة العقدة القومية المترتبة على تجزئتها وخضوعها المتنوع للإمبراطوريات الأوربية الصغيرة، واستجماعها المتأخر، شأن ألمانيا (نهاية القرن التاسع عشر). وهي وريثة اقوي وأطول العهود الإمبراطورية في التاريخ الأوربي. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأثر "الجرماني" في تاريخ القوة الأوربية. من هنا طغيان الأبعاد القومية في الفكرة التوتاليتارية. طبعا أن التوتاليتارية لم تكن نتيجة حتمية بالنسبة لأي من هذه الدول والقوميات، بقدر ما أنها تراكمت في "انغلاق" تاريخهم السياسي الحديث في أعين النخب السياسية. وهو انغلاق عادة ما تساهم به القوى السياسية جميعا، والسلطة بشكل خاص، من خلال عدم قدرتها على إيجاد بدائل واقعية محكومة بفكرة المصالح الكبرى للفرد والمجتمع والدولة استنادا إلى قواها الخاصة وضمن حدودها الذاتية. بينما يؤدي الخروج على هذا المنطق البسيط للتاريخ إلى خطيئة سياسية كبرى تجعل من وهم التوتاليتارية بديلا فاضلا لما هو موجود، وحلا معقولا وضروريا وحتميا للازمة. أما في الواقع، فإنه مجرد مؤشر على وجود واستمرار ما أسميته بأزمة الأمة والوعي التاريخي الثقافي والأزمة البنيوية لنظام الدولة السياسي.

• تقول حنة اريندت: النظام التوتاليتاري ليس أحادي البنية قط، بل هو نظام قائم عن سابق وعي وتصميم على وظائف تتقاطع أو تتوازى وتتضاعف. وأن بقاء هذه البنية محكوم بأذرعه الرئيسية وهي الجهاز البوليسي وليس الحزب أو الأيديولوجية. إذ تتحول هذه الأجهزة البوليسية المتعددة إلى جهاز عصبي يربط جميع مؤسسات السلطة وتنظيماتها (التشريعية والتنفيذية والقضائية ). أذن ما هي وظيفة الأيديولوجية الخاصة في هذا الفضاء التوتاليتاري؟ ألم تكن الأيديولوجية تمثل المادة الأسمنتية التي تضبط حركة الأفراد والجماعات؟

ليس هناك من تناقض بين أحادية البنية السياسية للنظام التوتاليتاري وتعدد الوظائف وتقاطعها. إن النظام التوتاليتاري متناقض بحد ذاته ومن حيث إمكانياته الداخلية. ولعل احد أهم تناقضاته بهذا الصدد تقوم في قدرته على استعمال كل الوسائل والأدوات والقيم والمفاهيم والمبادئ من اجل صنع واحدية. أما النتيجة فهي تهشيم وتدمير فكرة الواحد. وذلك لأن مضمون الواحدية التوتاليتارية محكوم بشعارات أيديولوجية "متسامية" لكنها بدائية في نفعيتها المباشرة وغير المباشرة.

بعبارة أخرى، إن النظام التوتاليتاري أحادي البنية وليس كما تقول اريندت. انه محكوم بفكرة الواحد والوحدانية والواحدية في كل شيء، لكنها واحدية أيديولوجية وليست ثقافية. من هنا عدم تعارضها مع تنوع الوسائل والوظائف، وذلك لأن مهمتها تقوم في "تنسيق هذه الوحدة" وتوسيع مداها وعمقها بحيث تشمل كل شيء وميدان، بما في ذلك عقل الإنسان وروحه، أي ليس عالمه الخارجي بل والباطني أيضا. الأمر الذي يجعل من الممكن تطابق وتمازج وتناسق الحزب والجهاز البوليسي، وشعار الطبقة وإلغائها، والأممية والعرقية، والإنسانية والهمجية. ولكل تنسيق مذاقه وتبريره الخاص. ولا تناقض بالنسبة للتوتاليتارية، وذلك لأنها تنظر وتفعل بمعايير أيديولوجية "مقدسة". أنها تجعل من نفسها إلها قادر على أن يجعل الملاك شيطانا والشيطان ملاكا. ولكل منها مهمته في امتحان الإنسان ومصيره بوصفه جزء من العلم والإرادة التي يتمتع بها القائد والحزب. بمعنى أنها تستعيد نفس مضمون التقاليد اللاهوتية التي تجعل من العلم والإرادة والحياة والسمع والبصر صفات جوهرية للذات الإلهية.

والشيء نفسه تتمثله النفسية والذهنية التوتاليتارية التي تجعل من نفسها "ذات مقدسة" قادرة على معرفة وسماع ومشاهدة كل شيء. عندها لا مكان للتناقض في سلوكها. إن التناقض المحتمل يقوم في ذهن الآخرين، أو "عدم قدرتهم" على إدراك "الحقائق الغامضة" و"الأسرار" الكامنة فيما يسعى إليه الحزب والقائد. لهذا ليس غريبا أن يكون الحزب والجهاز البوليسي شيئا واحدا. إنهما بالفعل شيء واحد بالنسبة للتوتاليتارية، لأنهما يؤديان وظيفة واحدة ضمن واحديتها الخاصة. بل أن كل شيء في النظام التوتاليتاري هو مجرد وظيفة. مما يجعل من الحزب والجهاز البوليسي شيئا واحدا أو مظاهر متنوعة لروح توتاليتاري واحد. فالحزب هو الغطاء السياسي والمنظم والدعائي أو بصورة أدق انه الأداة الظاهرية، أما الجهاز البوليسي فهو أداته الضاربة (الباطنية). من هنا تطابقهما وتناسقهما.

فعندما تقول "حزب" (في النظام التوتاليتاري) فانك تعني جهازا بوليسيا، وعندما تقول "جهاز بوليسي" فانك تعني حزبا. أما الاختلاف الجوهري بينهما فهو جزء من تراث الدولة الليبرالية وتقاليدها الشرعية. بينما التوتاليتارية تحتقر فكرة الشرعية. ويستمد هذا الاحتقار قوته وتأسيسه "النظري" من القيم والمفاهيم الأيديولوجية. وضمن هذا السياق فقط يمكن الحديث عن أولوية الأيديولوجية والحزب، وليس الجهاز البوليسي. وهي أولوية مرتبطة بطبيعة التحول الذي تجريه التوتاليتارية على الجهاز البوليسي، بوصفه جهازا وأداة ضرورية بالنسبة للدولة بغض النظر عن طبيعتها. أما المتغير فهو وظيفته. ووظيفة الجهاز البوليسي في التوتاليتارية تقوم في نزوله إلى مستوى الوظيفة "العادية"، أي المدموجة في منظومة القمع الشامل. إذ لا يمكن للجهاز البوليسي أن يؤدي وظيفته ضمن النسق العام لواحدية النظام التوتاليتاري دون السبيكة الخاصة المصنوعة من الحزب وأيديولوجيته. وذلك لأن بوليس بدون حزب وأيديولوجية لا يمكنه أن يؤدي وينسق ويجعل من الوظائف الكثيرة (التي بدونها لا تعقل التوتاليتارية) قادرة على تجسيد نموذجها في "البدائل الكبرى" وبلوغ غايتها العملية.

فالتوتاليتارية ليست قهرا فقط، بل وإقناع وغسل أدمغة ويقين وإيمان. بل يمكنني القول أن الحزب بالنسبة للتوتاليتارية هو كنيسة "دنيوية"، أما الأيديولوجية فهي تفسير شرعي لكتب مقدسة (مؤلفات ماركس ولينين) و(كفاحي) و(خطب موسوليني). وضمن هذا السياق يمكن الحديث عن الدور الذي يلعبه الجهاز البوليسي في ربط "السلطات".

ومن الممكن الإقرار الجزئي بعبارة أن "الجهاز البوليسي هو الجهاز العصبي الذي يربط ويفصل السلطات" (التشريعية والتنفيذية والقضائية). رغم عدم دقتها العلمية والفعلية. والسبب يقوم في أن التوتاليتارية لا تعترف بفكرة ومبدأ وفلسفة فصل السلطات. فالتوتاليتارية واحدية المبدأ والغاية. الأمر الذي حدد ويحدد فيها وحدة الشرعية المقدسة للعقيدة والحزب، ومن ثم "حكمة" القائد "المعصوم" وقدرته على جمع السلطات كلها في يد قوية واحدة. وليس مصادفة أن تنتشر كلمة "القبضة الضاربة" و"الأيادي القوية" وصورها المتنوعة في الرسم والنحت والرمز في ظل التوتاليتارية.

وليس لهذه القضية علاقة بالجهاز البوليسي كما هو. كما أن ذلك ليس افتعالا من جانب النظام التوتاليتاري، بقدر ما انه مرتبط بصورة عضوية بطبيعة النظام التوتاليتاري. فالعقيدة الواحدية وفكرة البديل الشامل المميزة للتوتاليتارية تتنافى مع تقاليد الليبرالية عن فصل السلطات.

إن الجوهري بالنسبة للتوتاليتارية هو "الشرعية الثورية" و"إرادة القائد" وتنوعاتها المتباينة والمختلفة التي تعمل "الأيديولوجية المقدسة" وسدنتها على سبكها بالصيغة والشكل المطلوبين. وبالتالي قدرتها على تطويع كل شيء من اجل البرهنة على صحة ما تقوله القيادة والحزب. وهما شيء واحد. أما في الواقع، فإنه لا وجود لحزب سياسي اجتماعي بالمعنى الدقيق للكلمة. إذ ليس الحزب التوتاليتاري سوى عصابة عصبية من طراز خاص مبنية على العبودية والرياء ومحكومة بصورة تامة وشاملة بحب الجاه والهلع البليد للعقل المستلب. وهي نتيجة ليست معزولة عما للأيديولوجية من دور حاسم في تصنيع شكل ومضمون الحزب وآلية عمله وتوظيفه الدائم. من هنا الدور الفعال والهائل للأيديولوجية الحزبية.

فالأيديولوجية الحزبية هي منظومة قيم مبسطة وقابلة للهضم من جانب العوام، شأن كل القيم الإيمانية. ومن ثم لا علاقة لها بالعلم. فعندما تعتبر الشيوعية (الماركسية) بأنها أيديولوجية العمال والفلاحين، فأنها تتضمن بالضرورة انعدام أو ضعف علاقتها بالعلم. إنها عقيدة العوام والجهلة وكارهي القراءة والمعرفة والأدب والمتلذذين بالأساطير والحكايات والثقافة الشفهية. وفي هذه الحالة المتناقضة تتحول الأيديولوجية وشعاراتها البراقة إلى فصوص ذهبية لامعة أمام الأعين الباهتة للاميين والجهلة وأنصاف المتعلمين. وفي هذا تكمن قوتها الفاعلة وتأثيرها السحري. بعبارة أخرى، إن قوة الأيديولوجية بالنسبة للتوتاليتارية تقوم في استجابتها لذوق العوام ومستوى إدراكها البسيط والمسطح. من هنا فاعلية الواحدية التي تستجيب للذوق العام، والفهم العام، وأولوية العام في كل شيء. بمعنى انعدام التخصص والاحتراف. بينما هي الصفة الضرورية لكل علم. وفي هذا تكمن وظيفتها ودورها وفاعليتها وضرورتها في تجنيد وتجييش الوعي والقطيع الاجتماعي. إذ لا يمكن للواحدية أن تحيى وتعلم وتفعل وتسمع وترى دون الأيديولوجية وسدنتها (الحزب). من هنا وحدتهما وتوحدهما الضروري وأولويتهما وجوهريتهما بالنسبة للنظام التوتاليتاري.

• تتميز التجارب الفاشية والنازية والسوفيتية (الشيوعية) كلها بنزعة (الاشتراكية الوطنية). ما هو سرّ العلاقة بين النسق التوتاليتاري والنزعة الاشتراكية الوطنية؟ ورأسمالية الدولة؟

من الأدق القول، بأن التجارب السوفيتية والفاشية والنازية تشترك بنزوعها الاشتراكي (الاجتماعي). بمعنى أنها جميعا تنحدر من أصل واحد ألا وهو تزاوج الفكرة الاشتراكية الأوربية والحركة العمالية. أما "الاشتراكية الوطنية" أو القومية، فإنها اسم للحركة النازية (الألمانية) ومرتبط بها من حيث الأصل والشهرة. أما الفاشية فاسم مرتبط بالحركة الاشتراكية العمالية الايطالية التي قادها موسوليني. والشيء نفسه يمكن قوله عن السوفيتية، باعتباره الاسم الذي جسّد النزوع العمالي للاشتراكية الديمقراطية الروسية (البلاشفة، أو الماركسية اللينينية) عندما جرى ابتداع فكرة المجالس الشعبية العمالية (السوفيتية).

إننا نقف هنا أمام تجارب مختلفة ومتباينة وأحيانا متعارضة ومتناقضة بصورة حادة فيما بينها، لكنها تعكس نماذج مختلفة للنزوع الأيديولوجي المتمثل للعوام والهامشية في مراحل الانكسار التاريخي للأمم والدول والثقافة. وضمن هذا السياق يمكن الحديث عن الوحدة والاختلاف في التجربة السوفيتية والفاشية والنازية. بمعنى اشتراكهم في الانتماء للحركة العمالية والاشتراكية واختلاف نماذجهم التوتاليتارية بسبب اختلاف الصيرورة التاريخية للدولة والقومية والثقافة. غير أن مفارقة الظاهرة تقوم في تلاقي هذه التجارب واقترابها من بعضها البعض فيما يتعلق بمسخ الشخصية الإنسانية وفكرة الحرية، رغم شعاراتها "المتسامية" المعلنة بهذا الصدد. والسبب يكمن في الخطيئة التاريخية النابعة من الوهم الأيديولوجي القائل ليس فقط بإمكانية بل وبضرورة وحتمية السيادة التامة للطبقات والفئات الاجتماعية الأقل تطورا في المجتمع! وجعلها نموذجا ينبغي سحب الجميع صوبه. ومن ثم جعل إلغاء التمايز الضروري والطبيعي لوجود الأشياء نموذجا "للحق والحقيقة". بينما هو في الواقع ابتذال أيديولوجي لا ينتج في نهاية المطاف غير نفسية وذهنية القطيع وخلخلة الكينونة الروحية للإنسان. والاختلاف الظاهري بين الشيوعية والفاشية والنازية بهذا الصدد يقوم في مظاهر الأولوية وليس في مضمون الفكرة الأيديولوجية. بمعنى اشتراكهم جميعا في النزوع الراديكالي والتوتاليتاري. والاختلاف في الأولوية (عمالية فلاحية، أو عمالية، أو قومية). وتعكس هذه الأولويات مظاهر الاختلاف، الذي يصل أحيانا حد التعارض الشديد، بل والتناقض العصي على الحل، إلا أن كل منهم يؤدي بطريقته الخاصة مهمته في تصنيع وفرض "البديل الشامل"، أي في تصنيع التوتاليتارية "الأمثل".

مما سبق استطيع القول، بأن سرّ العلاقة ليس بين النسق التوتاليتاري والاشتراكية الوطنية، بقدر ما يقوم في الترابط بين البدائل الأيديولوجية الكونية للراديكالية السياسية ونمط الحكم الذي قدمته البلشفية (الشيوعية). أما الاشتراكية الوطنية فإنها مجرد احد نماذج البديل القومي السياسي المميز لألمانيا بسبب ازمة الدولة والأمة والثقافة، كما أشرت إليه وتكلمت سابقا. بمعنى أن الترابط بين النظام التوتاليتاري والاشتراكية الوطنية في ألمانيا لم يكن محكوما بفكرة الثورة الاجتماعية، كما هو الحال بالنسبة للتجربة السوفيتية (ولحد ما الفاشية الموسولونية)، بل بفكرة الهيمنة القومية بسبب الأزمة التاريخية للدولة الألمانية وتعرضها للهزيمة والمهانة الكبرى بأثر الحرب العالمية الأولى. أما رأسمالية الدولة، فإنها ظاهرة مرتبطة بالتجربة السوفيتية وتتطابق معها. إنها محكومة بخصوصية الاشتراكية الشيوعية السوفيتية وفكرتها الأيديولوجية عن جوهرية الاقتصاد. وبالتالي، فهي رأسمالية مقلوبة، تعكس بصورة أيديولوجية جديدة شبح القيصرية وفكرة الإمبراطورية. أما ألمانيا فإنها لم تكن إمبراطورية. وفشلت جميع تجاربها بهذا الصدد. من هنا عنفوان النزعة القومية فيها.

***  

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم