قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (4)

ميثم الجنابيالمحور الأول : مفهوم التوتاليتارية وحدوده الفعلية (4)

• الدولة التوتاليتارية تقوم على تفكيك بنية المجتمع عبر إعادته إلى مكوناته التقليدية (العرقية والدينية والطائفية) مع تفكيك يعزلها بعضها عن بعض. كما تستخدم في سلوكها أيضا قاعدة "فرّق تسد" في كافة ميادين الحياة. كيف تستطيع هذه الدولة التوتاليتارية (كما رأيناه ونراه في العراق) تشكيل هذه الهوية الغامضة للجماعات المكونة للأمة وتختزل المجتمع في الوقت نفسه إلى هذا الرهط البدائي؟

تستند الفكرة التوتاليتارية إلى أيديولوجية الوحدة الواحدية، أي تلك التي لا تقرّ بالانفتاح والتعدد والاحتمال. من هنا سيادة وهيمنة اليقين والمقدس وما شابه ذلك من مفاهيم وقيم أيديولوجية بحتة. بمعنى أن همومها الظاهرية والباطنية محددة من ألفها إلى يائها بنفسية القطيع. فالواحدية التوتاليتارية هي واحدية القطيع، أو الكلّ المبعثر! وفي هذا يكمن تناقضها الذاتي.

فالتوتاليتارية من حيث الفكرة والنزوة والهاجس والرغبة والمساعي والأهداف لا تدعو إلى التفكيك. على العكس. إنها تدعو للوحدة والكلّ، للجمعية والجماعية الشاملة. بل أن غايتها المعلنة والمستترة تقوم في إلغاء الفردية والفردانية والخصوصية. ومفارقة الظاهرة تقوم في أن هذا الأسلوب بالذات هو الذي يعمل على تفكيك الغاية، أي يفعل في نخر فكرة الجماعة والمجتمع والكلّ، ومن ثم تفكيك الوجود في مختلف مظاهره. وقد تكون فكرة المنظومة من بين أكثرها تعرضا للتفكيك. فالتوتاليتارية تسعى لبناء منظومة في كل شيء. بينما المنظومة تراكم وديناميكية طبيعية. من هنا تصادمها في كل ما تقوم به مع متطلبات العقل والضرورة.

بعبارة أخرى، إن أساليب التوتاليتارية في تصنيع الكلّ هو سبب تفكيكها للكلّ. فالكلّ أو الجمعية الموحدة القادرة على الحياة بوصفها وحدة فعالة ونشطة وبنّاءة ومستقبلية لا يمكن تصنيعها بإرادة سياسية محكومة بقيم أيديولوجية، بل أنهما نتاج تراكم تاريخي طبيعي، يجري بأشكال وصيغ ومستويات ونوعيات مختلفة من أمة لأخرى. من هنا تباين المجتمعات والأمم والثقافات وتوحدها في المشاكل الإنسانية. وبالتالي، فإن خطأ أو خطيئة التوتاليتارية بهذا الصدد تقوم في نفيها للتاريخ الطبيعي. وليس مصادفة أن نراها أكثر من يفكك الماضي. وعندما نتأمل سلوك التوتاليتاريات في كل مكان بهذا الصدد، فإن ما يجمعها هو تفكيك الماضي، أي التاريخ أو احد أهم شروطه المتراكمة في الوعي والوجود. من هنا يمكنني القول، بأن التفكيك الوحيد والمنظم في سلوكها ومواقفها ورؤيتها العملية و"الإستراتيجية" يقوم في موقفها من الماضي. فتحليل الماضي بمعنى تفكيكه ورميه في "مزبلة التاريخ" (وكل شيء بالنسبة لها مزبلة باستثناء وساختها!) مبني على "فلسفة تفكيكية" خشنة يقوم فحواها في سيادة النزعة الانتقائية الأيديولوجية. وهي نزعة مبتورة وخشنة. وخشونتها المريعة تقوم في تمويتها للعقل والضمير والبصيرة مع اعتدادها الصلف بأنها الوحيدة التي تتمتع بصفات العقل والبصيرة والضمير. وما عداها ومن عداها هباء لا يستحق الالتفات! فهي تضع نفسها فوق كل شيء وأي شيء. مع تسخيرها الدائم والمتعنت لكل شيء! أي كل ما يشكل أسلوبها المذكور أعلاه، والذي يؤدي في موقفها من التاريخ (الماضي) إلى تفكيك الحاضر والمستقبل. أنها تريد بناء مستقبل بلا ماض. من هنا كمون التفكيك فيها. وذلك لأن حقيقة الوحدة تفترض مرونة التنوع والاختلاف، بوصفه أسلوب وجود الأشياء، بل وأحد طبائعها الضرورية.

وليس مصادفة أن تكون فكرة الطبيعة من بين أكثر الأشياء تعرضا للنقد العنيف من جانب الدولة التوتاليتارية وممارساتها. وليس ذلك نتاجا لمعارضتها للطبيعة، بقدر ما انه نتاج تناقضها الذاتي في كل شيء. فالطبيعة وحدة واحدة، ومنظومة حية. وبما أن الوحدة الواحدة والمنظومة هو الهاجس الجوهري في الفكرة التوتاليتارية، من هنا جوهرية المنظومة والطبيعة في تصوراتها وأحكامها ونظرتها ومن ثم ممارساتها العملية. بمعنى سعيها، بحكم سيادة العندية اللاعقلانية والنزعة الإرادية ومشروع البدائل الكبرى، إلى استبدال الطبيعة الحية (التاريخية والثقافية) بطبيعة أيديولوجية جديدة، أي اصطناعية أو مصطنعة. وهو السر القائم وراء مساعي وإرادة الدولة التوتاليتارية من أجل تصنيع طبيعة لا علاقة لها بالطبيعة! إنها تريد إعادة "خلق" كل شيء، لأنها لا ترى في الوجود غير اعوجاج مقارنة بفكرتها "المستقيمة". وهو الأسلوب الذي يؤدي بالضرورة إلى التحلل. ومع إفلاسه لسبب ما أو لآخر، يصبح الرجوع إلى الحالة البدائية الملجأ الأخير للاستمرار. وهي حالة "طبيعية" أيضا! بل يمكنني القول، بأنها الحالة الطبيعية الوحيدة المميزة للنزعة التوتاليتارية. من هنا بروزها الخرب في الدولة التوتاليتارية، بمعنى الرجوع إلى مختلف الأشكال التقليدية ما قبل الدولة الحديثة حالما تتعرض للإفلاس. وكان يمكن رؤية الملامح المشوهة لهذه الحالة في العراق بعد إفلاس التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بعد حرب الخليج الأولى. فقد أصيبت بالموت وهي على قيد الحياة! فإذا كانت الدولة التوتاليتارية الألمانية الهتلرية قد تناثرت في لحظة واحدة وكذلك الحال بالنسبة للفاشية الايطالية بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، فإن السوفيتية هي الأخرى قد تعرضت للاندثار والهزيمة بعد معركة "عسكرية" صغيرة داخلية. الأمر الذي عادة ما يجعل من انهزام التوتاليتارية بعد الحروب شيئا أشبه ما يكون بالحالة الطبيعية والحتمية. ويشكل هذا بحد ذاته مؤشرا على أن منظومة القوة والعنف (العسكرة) اصطناعية المحتوى. وهو شيء لا طبيعة فيه لغير الغريزة، ومن ثم تعارضها مع جوهرية الكينونة الثقافية (التاريخية الطبيعية) للدولة والمجتمع. أما البعثية الصدامية فأنها بقيت عليلة لمدة عقد من الزمن. والسبب يكمن في "مناورات" الصراع والغاية من وراء الحرب. أما الحرب الثانية (2003) فقد أدت إلى انهيار الدولة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في مجرى سويعات. بعبارة أخرى، إن عقدا من الزمن بين حرب الخليج الأولى (1991) والثانية (2003) قد كشف عن طبيعة الكمون الفعلي لحقيقة الدولة التوتاليتارية، وبالأخص ما يتعلق منه بما أسميته بالملجأ الأخير لها، ألا وهو استعمال مختلف الأشكال والأساليب المتخلفة للحفاظ على "وحدة" هي عين التفكك. مع ما ترتب عليه من تخريب ونخر لكل شيء في بنية الدولة والمجتمع والإنسان والروح والعقل والضمير.

فإذا كانت الدولة والأمة والثقافة تكشف عن معدنها زمن الأزمات الحادة، فإن الانهيار المريع للدولة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية يكشف عن طبيعة الخلل المتراكم في فكرة الوحدة والجماعة الوطنية العراقية. إذ لم تكن التوتاليتارية البعثية الصدامية قادرة على صنع هوية خاصة قومية أو وطنية. وفي عقد التحلل والخراب(1991-2003) رجعت إلى أصولها بوصفها هامشية بالمعنى الجغرافي والاجتماعي والطائفي. فقد كشف هذا العقد الزمني عن غياب التاريخ الفعلي في الفكرة التوتاليتارية وكونه الأسلوب الملازم لطبيعتها القائم في تحليل الكلّ من اجل صنع كلّها الخاص، أي سيطرتها وهيمنتها وتفرّدها في التحكم بكل شيء. وفي هذا يكمن سرّ تخريبها للكلّ. وذلك لأن كل سعي لفرض نموذج كلي سوف يؤدي بالضرورة إلى تدمير الكلّ. وذلك لأن فكرة الكلّ في الدولة التوتاليتارية تعادل فكرة القطيع، أي الوحدة المبعثرة التي لا يربطها شيئ غير الغريزة العمياء. فالمجتمع والإنسان بالنسبة للدولة التوتاليتارية كائنات بحاجة إلى "رعاية" و"قيادة" في كل شيء. ومن ثم يجري التعامل معها على هذا الأساس. حيث يتحول المجتمع، فيما لو جاز لنا الوصف "الفني"، إلى قطعان متنوعة من الحيوانات الناقصة. محصورة ضمن "حدود" مجزأة لمزرعة كبيرة. وهي حالة لا مجاز فيها بالنسبة للدولة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. من هنا حتى صعوبة إطلاق كلمة "هوية" عليها. إذ لا هوية فيها من حيث الجوهر لغير انعدام الهوية. فالجوهري في الدولة التوتاليتارية هو تشكيل الكلّ (القطيعي) من أجل التحكم به. لكنه كلّ مشوه ومهمش ومفكك، أو ما أطلقت عليه عبارة الكل المبعثر! انه مربوط بقوة العنف والإكراه والإجبار وغسل الأدمغة. من هنا سرعة تفككه واندثاره كما لو انه لم يكن شيئا. وما يبقى منه مجرد آثاره الخربة!

• أهم عامل لقيام الدولة التوتاليتارية هو الاستيلاء على ثروات المجتمع (السيطرة على الاقتصاد). كيف استطاعت الدولة التوتاليتارية السوفيتية والنازية تحويل المجتمع الروسي أو الألماني مثلا إلى مجتمع بلا طبقات وفئات اجتماعية، ومن ثم تفكيك النسيج الاجتماعي؟

ينطلق الاستيلاء على الثروة في الدولة التوتاليتارية من مسلمة أيديولوجية عن دورها في قيادة المجتمع. بمعنى إنها تنفي فكرة الإدارة. من هنا أهمية استحواذها على الثروة. وترتبط هذه النتيجة ارتباطا عضويا بالأيديولوجية التوتاليتارية. إن فكرة الكلّ والقيادة و"البدائل الكبرى" الأيديولوجية تفترض التوحيد والوحدة والمركزة على كافة المستويات، بوصفه الأسلوب الضروري لتوجيه القوى صوب الأهداف المعلنة والمستترة. من هنا يصبح التحكم بالثروة ومصادرتها فعلا "طبيعيا". بعبارة أخرى، إن التحكم بالثروة ومصادرتها باسم المجتمع وتركيزها بيد السلطة هي إحدى العقائد الجوهرية للفكرة التوتاليتارية. كما انه الأسلوب الملازم لوجودها من اجل الاستحكام التام بالفرد والجماعة والمجتمع من خلال تحويلهم إلى حملان صغيرة محكومة بغريزة الارتماء أمام اضرع الدولة. فالتحكم بالثروة يعني التحكم في الكلّ. وهما وجهان لعملية واحدة في الدولة التوتاليتارية. إذ لا تعقل الأخيرة بدون فكرة الكلّ الخاضع، كما أن أسلوب تصنيعه يفترض إرجاع الكلّ إلى قطيع محكوم بقيادة قائد أوحد أو راع واحد. وعندما تصبح الدولة هي راعية القطيع وفي أيديها الماء والكلأ، عندها تصبح السيطرة فعلا مرحا ومحببا للجميع!

ويعكس هذا النمط من الممارسة الإيمان الأيديولوجي بالقوة السحرية للإرادة السياسية (الحزبية) والإمكانية المطلق "للقائد" الغائص حتى أذنيه بالتلذذ السعيد بتجاربه وتجريبه. انه خارج القانون وفوق القانون. فإذا كانت النتيجة "ناجحة"، فإنها تضاف إلى "انجازات" الدولة وقادتها، وفي حال فشلها تتحول إلى جزء من تراث "المعاناة" والتجارب الضرورية لتصليب الإرادة! بمعنى تحويلها إلى ملح أو حلاوة "النقد الذاتي" من اجل الاستمرار بدون تحمل أي مسئولية شخصية أمام المجتمع والمستقبل. وتكمن هذه النتيجة في الفكرة التوتاليتارية نفسها بوصفها أيديولوجية العصمة والمعصومين! ومن الممكن تتبع مختلف مظاهرها على مثال التجربة السوفيتية والنازية، وأثرها بالنسبة لتصنيع مجتمع القطيع، رغم التراث الثقافي الهائل لهاتين الدولتين والأمتين. فقد استطاعت التوتاليتارية أن توّحد كل الوسائل والسبل في طريق تصنيع الوحدة المزيفة والكلّ النافي لجميع أشكال ومظاهر الفردية والفرادنية. من هنا جمع التوتاليتارية بين الاقتصاد والسياسة بمعايير الرؤية الأيديولوجية. وليس مصادفة أن تتحول عبارة "السياسة هي التعبير المكثف عن المصالح الاقتصادية" إلى "مرشد عمل" أو مسلمة عقائدية كبرى. ولا تخلو هذه الفكرة من الصحة بحد ذاتها، لكنها تتحول إلى شيء مضاد للعلم والحق حالما تصبح جزء من منظومة القيم الأيديولوجية، كما نراه في فكرة وممارسة حصر مصادر الثروة في يد الدولة. حينذاك يصبح من السهل التحكم بكل شيء. وليس مصادفة أن تكون عبارة "نحن" و"جميعنا" و"أنا كالجميع" الصيغة الأكثر انتشارا في الدولة التوتاليتارية. فهي الصيغة الأيديولوجية القادرة على نفي أية إمكانية للإنسان الفرد في منازعة القيادة والزعامة حق المشاركة في "النجاح" و"الفوز" و"المآثر"، بينما تحّمل الجميع ثمن الهزيمة. إذ ليس للفرد أي نصيب يذكر، وذلك لأنها تجعل من الإنسان نكرة نشيطة في خدمة الكلّ، أي في نفي الذات. وليس مصادفة أن يجري رفع "نكران النفس" إلى مصاف الفضيلة الكبرى. أما في الواقع، فأنه ليس إلا الوجه الآخر لتوكيد عظمة الزعامة وتقديسها المزيف!

• تقوم الدولة التوتاليتارية على أركان ثلاثة وهي: الأيديولوجية، والعنف، والإعلام. وعادة ما تتصف الأيديولوجية بالتطرف والعصمة واحتكار الحقيقة والانغلاق على النفس وتحويل الجماهير إلى قطيع. فما هي الأطر المعرفية للأيديولوجية التوتاليتارية؟

فيما لو طرحت جانبا تدقيق الفكرة القائلة، بأن الأيديولوجية والإعلام والعنف هي الأركان الثلاثة للدولة التوتاليتارية، كما هو شائع في الكتب والدراسات والأبحاث المتعلقة بهذا الصدد، فإن الشيء الأهم فيها يعود للأيديولوجية. فوسائل الإعلام ليست اقل أهمية في أكثر الأنظمة ديمقراطية وشرعية، كما أن الدولة التي تمارس العنف، بما في ذلك اشد أنواعه وأشكاله قسوة، ليست توتاليتارية بالضرورة. والشيء نفسه ينطبق على الدولة التي تستعين برؤية أيديولوجية قوية ومنظمة وواسعة الانتشار دون أن يلازم ذلك سيادة العنف والنظام التوتاليتاري.

إن خصوصية الدولة التوتاليتارية تقوم في سيادة نوع خاص من الأيديولوجية المتجوهرة في الوقت نفسه في صلب بنية الدولة وأجهزتها. إضافة إلى قابليتها واستعدادها وقدرتها على قبول كل الوسائل والأساليب من اجل تثبيت وتوسيع نظام الواحدية الصارم على كافة المستويات وفي كافة الميادين.

فإحدى خصائص الدولة التوتاليتارية تقوم في قدرتها عل تحويل اشد الأمور جزئية إلى "حالة مصيرية". ومن ثم تتمتع بالقدرة الغريبة على استقطاب كل شيء لتحويله إلى "عامل جوهري" و"حاسم" و"مصيري" و"أبدي". كما يمكنها التخلي عنه بعد لحظات أو ثواني، أو بصورة أدق بعد أن يؤدي وظيفته. فالجوهري بالنسبة للدولة التوتاليتارية هو تأدية الوظيفة على "أكمل وجه". الأمر الذي يجعل من كل شيء قادر على تأدية هذه المهمة "ركنا" من أركانها. غير أن هذه الخصوصية الفريدة التي تجعل من الدولة التوتاليتارية مستعدة للاستنساخ "غير المتناهي"، ترتبط بمصادر الوعي "المقدس" القائم في "مشكاة" وحيها الذاتي، أي في الأيديولوجية. لهذا السبب يتحول الإعلام والعنف إلى مجرد وسائل "تسترشد" بالأيديولوجية التوتاليتارية. كما يمكن لكل شيء آخر أن يكون أداة طيعة لها من جال "خدمة الأهداف الكبرى". أما أهمية الإعلام الأساسية فتقوم في كونها قادرة على تقديم الغطاء الضروري لكل ما تريد الدولة التوتاليتارية تمريره، أي لكل ما تؤسس له هذه الأيديولوجية. وهذا بدوره ليس إلا احد مظاهر العنف المعنوي. فهو الخط الذي يوازي فعالية العنف المادي المتنوع. فالإعلام يصنع نفسية وذهنية القطيع والعنف الجسدي المتنوع يصنع سوطها وعلفها! وما بينهما يجري "سيل العرم" اللاعقلاني.

ترتبط آلية توليد وإعادة إنتاج التوتاليتارية بثلاثة أسباب رئيسية وهي: فقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي – الأخلاقي، وأخيرا خلل التوازن الداخلي، الذي عادة ما يجد انعكاسه في سيادة الغلوّ والتطرف العملي. وهذه كلها لها أصولها "المعرفية" في الأيديولوجية، أي في ذلك النوع من المنظومات الفكرية العاملة بمعايير القيم السياسية المتحزبة والعقائدية الهادفة إلى صنع نظام واحدي "مقدس". الأمر الذي يجعل هذا النوع من الأيديولوجية بلا اطر معرفية حرة، إضافة إلى خلوّها بالمعنى الدقيق للكلمة من المعرفة العلمية. إنها قادرة على استغلال مختلف استنتاجات العلوم ولكن من خلال توظيفها للمهمات العملية (المتحزبة)، أي جعلها جزء من أدواتها الخاصة لبلوغ الغاية. بعبارة أخرى، إنها تجعل من كل شيء وسيلة تابعة وجزئية ضمن "منظومتها" الخاصة. وبالتالي، تعيش في عالم تحصد كل متغيراته من اجل تثبيت قواعدها وقيمها. ولا يمكن تنفيذ هذه المهمة دون أيديولوجية قادرة على تأدية هذا العمل.

إن الأيديولوجية التوتاليتارية تخرب اطر المعرفة، ومن خلال ذلك تؤسس "لمعرفتها" الخاصة، و"فلسفتها" الخاصة. وقد تكون الأيديولوجية الماركسية من بين أكثر "رقيا" بهذا الصدد. فقد كانت في بدايتها هيغلية يسارية، تعلمت أبجدية المفاهيم العقلانية والمنهجية الديالكتيكية. مما جعلها قريبة نسبيا من الحياة وإشكالاتها الكبرى والصغرى. وهو الباعث القائم أو الإغراء الكامن وراء صعود فكرة النشاط العملي (التجربة)، أي كل ما نجد جاذبيته في الاندفاع اللاحق صوب النزعة الإنسانية للفيورباخية ونزوعها الانتروبولوجي. ومن مجموعها تراكمت النزعة النقدية الإنسانية التي وجدت تعبيرها الأول في فكرة الاغتراب، التي حالما جرى وضعها في مفاهيم الفكر السياسي العملي، فإنها تكون قد مهدت لاحقا لتراكم عناصر الأيديولوجية العملية. بمعنى الاقتراب من التسييس المباشر للفكر والعمل من اجل تطويع تأملاته ونتائجها إلى خادم نشط للتحزب السياسي والمباشر. وفي مجراه تراكمت قواعد الرؤية الأيديولوجية، التي حولت التأملات النقدية والإنسانية الأولى لماركس إلى قواعد عقائد.

وحالما تبلورت الصيغة العملية الأيديولوجية في فكرة ماركس عن أن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بينما المهمة تقوم في تغييره، عندها أصبح من الممكن تحويل الأفكار الفلسفية المتناثرة إلى "منظومة" أيديولوجية. من هنا أصبح من الممكن تحويل أو قلب الهيغلية، عبر شعار "وضع الهيغلية على قدميها بعد أن كانت على رأسها". وفي هذا كان يكمن السرّ الذي جعل من كل انهماك متشدد لها بهذا الاتجاه اندفعا أهوجا صوب ترتيب قيم ومفاهيم الأيديولوجية الصرف كما نراه في استقرار الماركسية النهائي بهيئة أيديولوجية خالصة، أي هيغلية مفرغة من مضمونها الفلسفي الحقيقي. لكنها تلقفت مزاج المرحلة التاريخية القاسية للرأسمالية وتصنيعها السريع للعوام (العمال والفئات الرثة).

وليس مصادفة أن تتلذذ الماركسية مع مرور الزمن بالتأويل السياسي، وبالأخص بعد "احتقارها" للتفسير الفلسفي واعتباره مجرد رغبة في عالم لا علاقة له بالحياة. وهو تحوّل تنفر منه الفلسفة العميقة وتتقبله الأيديولوجية برحابة صدرها الضيق! الأمر الذي جعل الماركسية مع صدور "بيان الحزب الشيوعي" فكرة مسطحة وشعارات رنانة وقواعد عمل ويقين جازم، أي أيديولوجية صرف. من هنا إثارتها الهائلة لزوبعة الاندفاع العارم من جانب الشباب المراهق وأنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين ومحبي السلطة والجاه. أما النتيجة فقد كانت تجري في مصب فئة محبي السلطة والجاه من أنصاف المتعلمين والجهلة! ومع كل خطوة واسعة وواثقة بالنفس بهذا الاتجاه كان يمكن لكل عابر سبيل صوب "ملكوت الشيوعية" أن يكون "مفكرا" قديرا على قلب الأفكار كما يريد بوصفه "اكتشافا" جديدا و"ثورة" وما شابه ذلك. وليس مصادفة أن يكون "المنظرين" في ميدان "الفلسفة" الماركسية جهلة أو أنصاف متعلمين، أي كل أولئك الذين لم يقرأ اغلبهم كتابا فلسفيا واحدا ولو عن طريق المصادفة أو الخطأ!! أما النتيجة فهي سيادة التقليد وفقدان العقل النقدي الحر.

كل ذلك جعل ويجعل من الأيديولوجية حيوانا يأكل المعرفة والعلم وينتج شأن الخنازير مزاج الالتهام النهم للشعارات والمسلمات الفارغة وقواعد العقائد الميتة وتحويلها إلى شحوم التقليد الجاثم على الحس والعقل والضمير! وقد يكون احتكار الحقيقة والانغلاق من بين أكثرها تلازما وتدميرا. وكلما تكون الأيديولوجية أشد "تمثلا" لفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي - الأخلاقي، وخلل التوازن الداخلي، كلما يكون نزوعها اشد انغلاقا وغلوّا وتطرفا. وكلما تتشدد وتنهمك الأيديولوجية في هذا المضمار، كلما تزداد وتتوسع وتتعمق العناصر الكبرى للفكرة التوتاليتارية، مع ما يترتب عليه من تكامل منظومة ما ادعوه بتفاعل "مشروع بلا بدائل"، و"يقين بلا احتمالات"، و"إرادة بلا رادع"، و"واحدية عقائدية – سياسية بلا روح ثقافي" في كل ما تريد قوله وفعله. أما النتيجة الحتمية لكل ذلك فهي تخريب المجتمع والدولة والوعي.

• أين تكمن قوة هذا النمط من الدولة في إنتاج المعنى السياسي. وهل يكمنا الحديث عن معنى فلسفي كامن وراء طبيعة الدولة التوتاليتارية؟

لا يحتوي هذا النمط من الدولة على قوة. إنها قوة عابرة وعارضة. إذ تكمن قوتها الظاهرية والسريعة في قدرتها على امتصاص الطاقة التاريخية الصاعدة والمكبوتة بسبب طبيعة ونوعية الأزمة التي تتعرض لها الدولة والأمة والثقافة. وهو أمر جلي في التجربة السوفيتية التي كانت انجازاتها الكبرى في الأغلب مجرد امتصاص رهيب للطاقة الروسية المتراكمة في مجرى قرون من الصعود الإمبراطوري. والشيء نفسه يمكن قوله عن ألمانيا الهتلرية. فقد امتصت بقوة رحيق التجربة الألمانية في مجرى قرنين من مساعي الوحدة والتطور الديناميكي الهائل. والشيء نفسه يمكن لمحه في تجربة التوتاليتارية البعثية التي امتصت رحيق الطاقة الكامنة في العراق بعد ظهور الجديد في بداية القرن العشرين. أما النتيجة أو النهاية الفاجعة فقد كانت على الدوام تكشف عما في التوتاليتارية من قدرة عنيفة على رمي التاريخ وتجاربه إلى مزبلة الزمن الفارغ! بحيث تضطر الأمة والدولة للبدء من حالة "الصفر". وضمن هذا السياق لا يمكنني الحديث عن "معنى سياسي" فيها غير "عبرتها" السياسية القائلة، بأن التوتاليتارية هي خروج على منطق التاريخ الطبيعي والثقافي للدولة والأمة. وبالتالي، فإن معناها السياسي يقوم في انعدام حقيقة المعنى. إنها مجرد لاعقلانية جسدية بلا روح. مع ما يترتب عليه من تصنيع العبث والعيش بمعاييره الأيديولوجية. فهي تعيد تصنيع اشد الأشكال والقيم اللاهوتية تخريبا بعد إلباسها لباس "العقلانية" و"الدنيوية"، كما نراه على سبيل المثال في مختلف نماذج التأسيس الأيديولوجي لفكرة الحتمية والضرورة التاريخية وما شابه ذلك. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الفجة للفكرة اللاهوتية عن القضاء والقدر. وإذا كانت هذه المفاهيم اللاهوتية جزء من منظومة الثواب والعقاب "الإلهية"، فإنها تتحول في الدولة التوتاليتارية إلى تجسيد عملي مباشر لها، بمعنى العمل من اجل بناء "الجنة" على الأرض. مما يجعل من الدولة التوتاليتارية "قضاء وقدرا"، بل وتتعداه إلى ميدان رسم التاريخ والمستقبل. وإذا كان بالإمكان استعمال كلمة "المعنى الفلسفي" هنا فهو لا يتعدى مجاز طوباوية البدائل الكبرى الكونية. وبالتالي لا معنى فلسفيا يمكن استنباطه هنا غير معنى الطريق المسدود بالنسبة لهذا النمط من الدولة والفكر. إنها مرحلة انتهاء المشاريع الكونية و"الأصولية". بعبارة أخرى، إن المعنى الفلسفي الممكن هنا لا يقوم في فكرها، بل في نتائجها. لقد أرادت التوتاليتارية القضاء على الله والاستعاضة عنه بنفسها، لكنها صنعت شيطان أمرد! والمهمة تقوم في القضاء على الشيطان دون الوقوع في إغواء وإغراء تصنيع آلهة جديدة. وهي مهمة ما ادعوه بفلسفة البدائل الثقافية.

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم