قضايا

ادوارد سعيد والمرويات الكبرى

محمد كريم الساعديعمل (سعيد) على دراسة الرواية الغربية التي رآها بأنها نشأت ضمن الخطاب الكولونيالي وكانت حاملة للثقافة الغربية وتوجهاتها في تفوقها ضد الآخر، كما حملت هذه المرويات عند الغرب ملامح السيطرة وإخضاع الآخر، لذلك قام (سعيد) من خلال دراساته بـرفع الأقنعة المزيفة من على وجه الثقافة الامبريالية وكشف مدى الزيف والمراوغة اللتين تنطوي عليها الثقافة الامبريالية تقديمها بوصفها الواجهة البراقة للوعي الجمعي الغربي وبشكل أكثر تحديداً، فان غاية تلك الدراسات هي تفكيك المرويات الشمولية الكبرى التي أنتجتها الثقافة الامبريالية وفضح جماليات تزييف الواقع وتنميطه.

لقد حفلت المرويات الكبرى في تقديم السكان الاصلانيين بصورة نمطية، وهي تقدم الرجل الأبيض الغربي على أساس انه الشخص المتفوق والذي سوف يحول حياة الآخرين إلى حالٍ حسنه من خلال بنائه العقلي الذي جعل منه أكثر تقدماً ووعياً منهم، ومن هذه المرويات الكبرى التي عبرت عن الخطاب الكولونيالي رواية (ربنسون كروزو) للروائي الانجليزي (دانييال ديفو) إذ عُدت أحد النماذج المبكرة للرواية الغربية التي قدمت تمثيلاً سردياً بارعاً للأخلاقيات الاستعمارية، فقد استنبطت في تضاعيفها مغامرة رجل ابيض في عالم غريب، ونجاحه في السيطرة على ذلك المكان وامتلاكه وبسط قيمه الأخلاقية عليه، ليس من قبيل المصادفة أن أحداث الرواية تدور حول أوربي خلق لنفسه مستعمرة على جزيرة نائية.

لقد أراد سعيد من وراء تحليل عدد من المرويات الكبرى أن يركز على التراث الامبريالي الثقافي من خلال النماذج التي عبرت عنه، فهذه المرويات تحكي وتسرد قصتين في آن واحد، قصة المستعِمر وما هدف إليه من تأكيد تفوقه، وفي الوقت نفسه تحكي قصة المستعَمر الذي وقع في دائرة الظلم الاستعماري وما نتج عنه، وبالتالي أراد من خلال تحليل عدد من المرويات والمرويات المقابلة تأكيد فعل الكشف والتفكيك للخطاب الكولونيالي.

إن قراءة (سعيد) للمرويات الكبرى جاءت على وفق قراءة استقاها من الموسيقى هي (القراءة الطباقية)، اي استخدام أكثر من موضوع موسيقي ممثل بأكثر من آلة موسيقية أو أكثر من خط لحني في بناء موسيقى متزامن يدخل في إنتاج قطعة موسيقية، إذ تدخل الموضوعات المعبر عنها بالآت موسيقية متنوعة في تداخل لحني تتميز فيه جملة لحنية في بعض الأحيان، وأخرى في أحيان ثانية من دون أن يكون لأي منهما تمييز على الأخرى سوى وقت الظهور في الإطار الموسيقي، الذي يكوّن الفضاء الصوتي عند المستمع. لذلك رأى سعيد بأهمية آلية عمل الطباق الموسيقي وتطبيقه في قراءة المرويات الكبرى بقوله : إننا بحاجة إلى منظور مقارن، أو بالأحرى، طباقي (بمعنى الطباق الموسيقي) كي نبصر علاقة بين طقوس التتويج في انكلترا وحفلات البيعة الهندية في أواخر القرن التاسع عشر، أي انه ينبغي علينا أن نملك القدرة على أن نتأمل بإمعان ونؤول تجارب متفاوتة معاً، لكل منهما برامج أهدافها وتسارع تطورها، وتشكيلاتها الداخلية الخاصة وتناسقها الداخلي ونظام علاقاتها الخارجية.

لقد عمل (سعيد) في قراءاته الطباقية في دراسته للروايات الغربية وجعل لها مقابل روايات من الدول المستِعمر، إذ طابق في هذه القراءة مثلا، بين رواية (الغريب) (لكامو) ورواية (نجمة) لـ( كاتب ياسين).

إن استخدام المنهج الطباقي في قراءة روايات من الشرق والغرب، من أجل الوصول إلى كشف المعاني الضمنية في هذه الأعمال وما تحويه ضمناً من أهداف امبريالية عميقة جداً ومن أساليب مقاومة ثقافية لها، جعلت من سعيد يبتعد عن مفهوم (القراءة الواحدية) التي عدها ناقصة وغير مكملة للمعنى الكولونيالي وما خلفه من تركة ثقافية مشوهه للشعوب، فمن أجل كشف ما تم فرضه على جسد الثقافات الأخرى، كان لابد من استخدام منهج طباقي الذي يرى فيه (سعيد) بأنه الأمثل لذلك إذ يقول : حين تعود بالنظر إلى سجل المحفوظات الامبريالي، نأخذ بقراءته لا واحدياً، بل طباقياً بوعي متأين للتاريخ الحواضري الذي يتم سرده، ولتلك التواريخ الأخرى التي يعمل ضدها (ومعها أيضاً) الإنشاء المسيطر، في النقطة الطباقية للموسيقى العريقة (الكلاسيكية) الغربية، تتبارى وتتصادم موضوعات متنوعة، احدها مع الأخرى، دون أن يكون لأي منها دور امتيازي إلا بصورة مشروطة مؤقتة.

 

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم