قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (5)

ميثم الجنابيالمحور الثاني: جذور التوتاليتارية في العراق (1)

• ما هي الأسباب التي جعلت الطبقة الوسطى العراقية تقطع جميع الصلات والروابط بالفكر الليبرالي العراقي، الذي كان من المفترض أن يوصلها بفكر التنوير وتجارب الإصلاح الديني والسياسي خلال حقبة الستينيات من القرن العشرين؟

إن الانقطاع الفعلي بين الطبقة الوسطى والفكرة الليبرالية هو نتاج حالة معقدة لازمت كيفية الانقطاع التاريخي للتطور الاجتماعي. فالطبقة الوسطى هي صانعة التاريخ الحديث والمستقبل بقدر واحد. إنها القوة الفاعلة والفعالة على كافة المستويات وفي كافة الميادين. وبالتالي لم يكن إبعادها عن لعب دورها الخاص سوى الانحراف التاريخي الهائل للمجرى الطبيعي لارتقاء المجتمع والدولة. فقد لازم هذا الانحراف صعود الراديكاليات الرثة لما يسمى بالحركات الثورية.

فمن الناحية التاريخية ارتبط هذا الانحراف بالكيفية التي تهشمت بها السلطنة العثمانية. بمعنى تحللها الداخلي دون أن تنشأ بدائل سياسية قومية لمكوناتها في العالم العربي. بينما جرت تجزئته تحت وطأة الاحتلال الكولونيالي الأوربي (البريطاني والفرنسي)، مما أدى بدوره إلى بعثرة ما تبقى من إرث مرحلة النهضة بمختلف تياراتها الدينية والدنيوية. مما أدى بدوره إلى أن يصبح التاريخ الذاتي زمنا فقط، وذلك لدورانه في فلك الهيمنة الأوربية الكولونيالية ومشاكلها. ومنه أيضا وبأثره نشأت القيم والمفاهيم واستيراد النظريات، أي كل أشكال ومضامين التقليد الظاهرية والباطنية. ومن بين أكثرها تشوها بهذا الصدد هو انتشار الفكرة الراديكالية السهلة والمسطحة. فإذا كانت الفكرة الراديكالية الأوربية تسير على ضفاف التيار العقلاني العام، فإن انتقالها إلى عالم (عربي) ضعيف ومنهك وخارج للتو من رحم العثمانية المتهرئ، قد جعل من الفكرة الراديكالية عروة وثقى. مع ما ترتب عليه لاحقا من قلب الأمور جميعا رأسا على عقب.

فقد أدى ذلك في البداية إلى صعود الفكرة "السياسية" وأولوية الأحزاب ورجل السياسة على المجتمع والنخبة الثقافية العامة. وبلغت هذه العملية ذروتها بصعود الراديكاليات الثورية، أي تلك التي جعلت من الفئات الرثة وغير الناضجة "طبقات" محتوم عليها قيادة الدولة والأمة! ثم تجّسد ذلك في تيارات متنوعة "قومية" محلية قبلية وعائلية هي النتيجة الحتمية لهذه العملية المقلوبة التي جعلت الأطراف مركزا والفئات الرثة نخبة. وهي إحدى المفارقات الغريبة التي جعلت أيضا من الغباء السياسي عقيدة عصماء! لقد أدى ذلك إلى أول انقطاع تاريخي بنيوي عنيف مازالت آثاره القوية سارية لحد الآن في الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة. بمعنى بقاء وسيادة وإعادة إنتاج البنية التقليدية. وفي هذا يكمن سرّ الانقطاع عن تراث النهضة.

فالفئات الرثة ومركزيتها الجديدة في السلطة والدولة جعلت من تدمير الطبقة الوسطى هدفها الأساسي، أو أن ذلك لازم بالضرورة نشاطها وفعلها. فالفئات الرثة لا تعاني ولا تنتج لا في المجال المادي ولا الروحي. إنها مجرد نقّال وحمّال. وهي مهام كانت وما زالت باقية بوصفها جزء من تاريخ البحث عن عدالة معقولة هي بدورها جزء من لغز الحياة والوجود. غير انه حالما يتحول الحمال إلى "قائد" فإنه يجعل من كل ما حوله مجرد بضاعة أو أشياء تجثم بثقلها على كاهله! وليس هناك من ثقل بالنسبة له أكبر من الفكر وتعقيداته. أما الفكرة الراديكالية المبنية على مجموعة شعارات وقيم وجدانية كاذبة فإنها مجرد تقليد أجوف. أما "الفكر" فيها فأنه مجرد غلاف خارجي، فارغ، بلا معاناة. إنه "فكر" بلا تلقائية. من هنا هجوم الأيديولوجية، بوصفها "عقلا" بلا تفّكر، و"فكر" بلا معاناة، ومعاناة مغتربة عن التاريخ الذاتي والواقع ومن ثم بلا ماض ولا مستقبل. مما يجعل منها اجترارا للحاضر فقط أي لزمن وجود الأشياء.

مما سبق يتضح بأن سبب الانقطاع لا يكمن في سلوك الطبقة الوسطى، بقدر ما انه جرى فطمها قبل أن تنمو. ومن ثم سحقها وتحويلها إلى ذرات متناثرة في الكتلة البشرية الرثة التابعة للسلطة التوتاليتارية. وقد ترتب على ذلك اضمحلال واندثار المقدمات الاجتماعية الضرورية للفكرة الليبرالية.

فالفكرة الليبرالية بوصفها بحثا عن الحرية والعقلانية والاعتدال، عادة ما تتجذر في الوعي السياسي للطبقات الوسطى. بل أن الفكرة الليبرالية من الناحية التاريخية والاجتماعية والنفسية هي من صنع الطبقة الوسطى. وليس اعتباطا أن تشترك مختلف التوتاليتاريات السياسية والعقائدية (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) بمحاربة الطبقة الوسطى وتصويرها على أنها مرتع "القلق" و"انعدام الثبات" في المواقف! أما في الواقع فإن حقيقة "القلق" تعادل نفسية وذهنية البحث الدائم عن الجديد أو ما يمكن دعوته بالثبات الديناميكي. أما اتهامها "بانعدام الثبات" فهي مجرد صيغة أيديولوجية مقلوبة للرؤية التوتاليتارية التي عادة ما تجد في الثبات أسلوبا لوجودها، مع ما يترتب على ذلك من استبداد وقمع لكل اختلاف وتباين وحركة تؤمي بإمكانية خلخلة الوضع القائم. من هنا عدائها السافر والمستتر لكل"خروج" على "ثوابتها" الوطنية والقومية والاجتماعية والفكرية وما شابه ذلك. وليس مصادفة أن تكون الطبقة الوسطى هي الأكثر تضررا ضمن سياق السيطرة التوتاليتارية. وذلك لأن الطبقة الوسطى هي الأكثر "ثباتا" بمعايير الديناميكية التاريخية والاجتماعية. وينبع هذا الثبات من موقعها الاجتماعي التاريخي بوصفها الطبقة الأكثر ارتباطا بفكرة الحرية والنظام الاجتماعي الديمقراطي.

فالطبقات جميعا عرضة للتغير والتبدل من حيث موقعها الاجتماعي وأيديولوجياتها وأفكارها المتعلقة بماهية الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحق والحقوق، بينما تبقى الطبقة الوسطى من حيث الإمكانية والواقع الممثل الفعلي لتيار البحث الدائم عن نسب الاعتدال والعقلانية والحرية الفردية والاجتماعية. الأمر الذي يجعلها اشد القوى الاجتماعية معارضة للتوتاليتارية. كما أنه السبب الذي يجعلها هدفا مباشرا وغير مباشر لسياسة التفكيك الواعية وغير الواعية من جانب السلطة التوتاليتارية. وليس مصادفة أن تكون فترة الستينيات وما تبعها مرحلة التدمير الشامل للطبقة الوسطى، كما أنها مرحلة الصعود العنيف للنزعات الراديكالية والتوتاليتارية.

• إن الوجود السياسي الاقتصادي يحتوي على قيم وتوازنات وأنماط إنتاج يسمح بخيارات معينة ويعوق أخرى. وهذه بدورها نتاج تفاعل عوامل مختلفة. ما هو دور هذا الوجود السياسي الاقتصادي بنمو وظهور التوتاليتارية بشكل عام والسياسية بشكل خاص في المجتمع العراقي؟ وهل يمكن لمفهوم الوجود الاقتصادي السياسي أن يكون أداة منهجية لتفسير هذه الظاهرة؟

إن الظاهرة التوتاليتارية هي نتاج أزمة بنيوية عامة تشمل الدولة والأمة والثقافة في التاريخ الحديث والمعاصر. وتصبح "خيارا معقولا" حالما تقود مهمة تجسيد "البدائل الكبرى" قوى راديكالية. والمادة الاجتماعية لهذه القوى الراديكالية هي الحثالة الاجتماعية والفئات الرثة والطبقات المنهكة، أي تلك التي تعاني أكثر من غيرها زمن الأزمات البنيوية الحادة. مما يجعلها فريسة الأوهام السياسية والأيديولوجية. ذلك يعني أن الجذور الاقتصادية للنزعة الراديكالية بشكل عام والتوتاليتارية بشكل خاص، شيء اقرب إلى البديهة. غير أن الحلقة الرابطة لهذا التلازم تقوم في ميدان السياسة والحياة السياسية للدولة.

فالأزمة الاقتصادية في الدولة عادة ما تؤدي إلى تنشيط الطاقة الراديكالية، وبالأخص في تلك المراحل والدول التي تشكل فيها نسبة الفئات الاجتماعية الرثة والهامشية والفقيرة أغلبية مطلقة، أو تلك المراحل التي يجري فيها خلخلة الأسس الاقتصادية للمجتمع والدولة. لكن "ارتقاء" الراديكالية إلى مصاف التوتاليتارية يستلزم "تكامل" الأزمة الاقتصادية بأخرى سياسية وثقافية عامة. ومن الممكن رؤية هذه الحالة والآلية على مثال تجارب التوتاليتاريات "الكلاسيكية" الكبرى. كما تجد طريقها الأكثر تشوها في البلدان والدول المتخلفة، كما هو الحال بالنسبة للعراق.

فقد كان ظهور التوتاليتارية وسيادتها شبه التام في تاريخ العراق الحديث يعكس طبيعة الأزمة البنيوية الاقتصادية والسياسية والثقافية. بمعنى أن تجربة العراق هي إحدى الصيغ النموذجية لتداخل الأسباب الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن الصعب الآن الاستفاضة في تحليل هذه الجوانب وخصوصية تمظهرها في تاريخه الحديث، وذلك لأنها بحاجة إلى دراسة ميدانية تاريخية سوسيولوجية وكيفية انعكاسها في الفكر السياسي والثقافة السياسية. بمعنى أنها بحاجة إلى دراسة متخصصة. وهي مهمة يمكن تركها لأجيال لاحقة بوصفها جزء من وعي الذات التاريخي والسياسي. واكتفي هنا بالقول، بأن الصيغة العامة لتلاقي وتفاعل المكونات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي أدت في تاريخ العراق الحديث إلى صعود التوتاليتارية تقوم في عدم قدرته على حل مشكلة الحداثة أو المعاصرة بطريقة عقلانية وواقعية. وقد كان بإمكان العراق حل هذه المهمة بطريقة سريعة وفعالة ونموذجية لحد ما فيما لو لم تسيطر الفكرة الراديكالية السياسية. وهي مفارقة القرن العشرين التي أنتجت بدورها أشنع أنواع التوتاليتاريات تخلفا! بمعنى المزاوجة بين راديكالية متطرفة في ميدان الأيديولوجية السياسية ومتخلفة من حيث مكوناتها وأصولها الاجتماعية! قوى سياسية راديكالية ذات أصول اجتماعية تقليدية ومتخلفة! ومن هذه المزاوجة ولد مسخ التوتاليتارية العراقية! وليس مصادفة أن يعود العراق بعد قرن من الزمن إلى البداية، أي انه استهلك قرنا من الزمن (القرن العشرين) لكي يبدأ في القرن الحادي والعشرين من ابسط متطلبات بناء الدولة والمجتمع والثقافة! أي البدء من الصفر ولكن على كمية هائلة من ركام الخراب المعنوي والأخلاقي! بحيث يشبه العراق الحالي وبشره بأهل الكهف بين عالم علمي تكنولوجي ديناميكي يعيش ويعمل بمعايير المستقبل. غير أن هذه الحالة المزرية تحتوي في أعماقها أيضا على إدراك الطريق المسدود والمغلق للنموذج التوتاليتاري. الأمر الذي يجعل من الصعب، بل شبه المستحيل تكرار النموذج البعثي الصدامي. فقد كان هذا النموذج نتاج مرحلة انكسار خطرة في تاريخ العراق السياسي والعالم العربي والعالمي. إذ كان من الممكن تعايش التوتاليتارية والدكتاتورية في مسخ من "الثورية" المقبولة ضمن توازن الصراعات الدولية آنذاك. طبعا إن التخلف السياسي والاقتصادي المريع والمنتعش ضمن بنية اجتماعية تقليدية شديدة التخلف يمكنه أن يغذي صعود الراديكاليات الطائفية المغلقة، لكنه لا يوفر لها تلك الإمكانية المادية والمعنوية التي توفرت للراديكاليات السياسية العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين.

• تمثل حقبة منتصف الستينيات مرحلة حاسمة في تطور أجهزة الدولة التوتاليتارية العراقية عبر مجموعة من التشريعات والقوانين والإجراءات، التي سمحت للدولة بالتوسع على حساب المجتمع والتدخل الشامل والسافر في مجال الاقتصاد والسياسة. هل يمكننا ربط ظهور النزعة التوتاليتارية بهذه الحقبة من تاريخ العراق، أم أن جذورها أعمق من ذلك؟

إن صعود التوتاليتارية مرتبط من الناحية الفكرية والسياسية بصعود الفكرة الراديكالية في العراق، أي بصعود ما يسمى بالأيديولوجية واستحواذها على النفسية الاجتماعية للجمهور والعوام، والذهنية السياسية للأحزاب. والنتيجة هي تكوين سبيكة خطرة من نفسية العوام وذهنية الأحزاب الراديكالية. وفي هذه السبيكة كانت تكمن البذرة المميتة لأيديولوجية النزعة التوتاليتارية. وليس مصادفة أن تعدي هذه البذرة كل ما حولها أو تنتج مختلف نماذجها في قوى سياسية متصارعة ومستقتلة حتى الموت ومتضادة في المظاهر، كما نراه على سبيل المثال في التيارات الشيوعية والبعثية والإسلامية. إذ جّسد كل منهم بطريقته الخاصة هذا الكمون. بمعنى اشتراكهم جميعا في سيادة الرؤية الأيديولوجية والعصمة الأبدية واحتقار التاريخ والمستقبل والمجتمع والحرية الفردية والاجتماعية والشرعية والقانون.

وإذا كان النزوع التوتاليتاري جزء من حالة الكمون النسبية القائمة في ثنايا الأزمة المتنقلة التي لازمت النظام الملكي، فإن تفجيرها عبر انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 قد أدى إلى نشر الأزمة في كل ثنايا الوجود والوعي التاريخي العراقي المعاصر. كما انه أعطى للراديكالية صفة الصيغة المثلى لوجود الدولة والمجتمع والنظام السياسي والثقافة. بمعنى جعله من التيار الجزئي القائم على ضفاف التيار التاريخي لصيرورة الدولة والأمة والثقافة تيارا عارما ووحيدا. من هنا إشراكه الجميع في هوس "الثورة" وأوهامها التي لم تكن في ظروف العراق آنذاك أكثر من مجرد انقلابات صغيرة ومؤامرات حزبية لقوى هامشية بالمعنى الاجتماعي والفكري والسياسي والجهوي والفئوي.

إن انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 هو بداية الزمن التوتاليتاري في العراق. ومن ثم انعدام التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع. الأمر الذي يستلزم إعادة النظر بالتجربة المريرة لهذا الانقلاب التعيس في تاريخ العراق الحديث. والمهمة لا تقوم هنا في تأسيس الإدانة أو الدفاع عن الملكية. فكلاهما جزء من تاريخ ماض. بل تقوم أساسا في إرساء أسس الرؤية المستقبلية. مما يفترض بدوره تحرير الفكر السياسي والرؤية المستقبلية من هواجس الخواطر الأيديولوجية وأوهام الأحلام الحلوة للطفولة.

فالتاريخ يكشف عن أن أنبل الأهواء أشدها تدميرا وتخريبا للنبل! بينما الموقف السليم والصحيح يفترض السير مع منطق الحق والإخلاص له، أي مع منطق الحقيقة. مما يفترض بدوره تطهير العقل من ثقل الأهواء (الأيديولوجية). فالعاقل يحب أخاه وأباه وأمه وأخته وفي الوقت نفسه يمقت سلوكهم في حال خروجهم على الحق. والشيء نفسه يمكن قوله عن انقلاب الرابع عشر من تموز. فنحن جميعا "جيل الثورة". كما أن أثرها عميقا في كل هذا الكم الهائل من ثقل الأوهام الجميلة المرتسمة في خيال الطفولة عن "الزعماء" و"الأبطال". لكن الأمر يختلف حالما يجري النظر إلى التاريخ بمعايير العبرة التاريخية والمستقبل. فزلات الصغار محببة للقلوب، بينما أخطاء الكبار قد تصل حد الإجرام. كما أن أخطاء الكبار قد تصبح خطيئة تاريخية كبرى. والخطيئة الكبرى لانقلاب الرابع عشر من تموز تقوم في تحوله إلى "ثورة". وفي هذا التحول كانت تكمن بداية ما يمكن دعوته بسيادة زمن الغريزة.

لقد كان انقلاب الرابع عشر من تموز المقصلة التي حّزت رقبة التاريخ الطبيعي للعراق الحديث. لقد تحول هذا الانقلاب العسكري، بفعل احتقان الحياة السياسية وضغط الأيديولوجيات الراديكالية إلى "ثورة". بعبارة أخرى، أنها "ثورة مصطنعة". من هنا سيادة الطابع المصطنع لكل ما جاء بعدها وحتى الآن. وهي الصفة التي تلازم وجود التوتاليتارية. بمعنى أن العراق لم يفلح في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على أي تأسيس جدي لكافة مقومات الوجود الطبيعي للدولة والسلطة والمجتمع والثقافة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا. بل إننا نقف الآن أمام انهيار شبه تام لبنية الدولة في جميع مكوناتها وعلى كافة المستويات. إضافة إلى وطن ودولة ومجتمع تحت الاحتلال، مسلوب الإرادة شأن الحالات الشاذة لقرون الاستعمار والكولونيالية قبل بضعة قرون خلت!! واحتراب شامل يفتقد لأبسط مقومات الرؤية الاجتماعية والوطنية والعقلانية. إننا نقف أمام حالة انحطاط شامل. وعندما نتأمل تاريخ الثورات الفعلية الكبرى، فإننا نستطيع العثور على "مراحل تراجع"، لكنها جزئية بوصفها مقاطع التوقف الضرورية في معزوفة المستقبل. بينما لا يمكننا قول ذلك عن العراق لا بالمعنى السياسي ولا التاريخي ولا المجازي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن من الضروري البحث عن المقدمات الفعلية التي أدت إلى هذا الواقع المزري، أي التحولات التي مست بنية التطور الطبيعي للدولة، بحيث جعلت من مسارها اللاحق مجرد اجترار للزمن.

فقد كان المسار التاريخي للعراق حتى الرابع عشر من تموز عام 1958 مسارا طبيعيا. بمعنى انه كان يحتوي على مراحل التوقف والتراجع، لكنه كان في مجراه العام تقدما وتراكما بالمعنى التاريخي. لقد كان يحتوي على تراكم طبيعي في المؤسسات والبنية الذاتية للدولة والسلطة والمجتمع والفكر والثقافة والاقتصاد. وما بعد الرابع عشر من تموز عام 1958 تحول تاريخ العراق إلى زمن الراديكالية السياسية، أي زمن التجريب الخشن والاجترار الأجوف للأوهام. أما رفع الانقلاب العسكري إلى مصاف "الثورة" فهو انقلاب في المفاهيم يعكس استعداد الوعي السياسي لقبول كل ما يفرض عليه. وتشير هذه الحالة إلى أن المفاهيم السياسية ليست نتاج معاناة علمية ونقدية دقيقة، بل اقرب ما تكون إلى تأييد إعلان أو شعار سياسي. وهو خلل صنعته "ثورة" الرابع عشر من تموز.

إن الخطأ التاريخي لانقلاب الرابع عشر من تموز هو عين خطيئته السياسية. وسبب ذلك يقوم في أنه أسبغ الشرعية على إمكانية الانقلاب العسكري وتدخل الجيش المباشر في شئون الحياة السياسية والمدنية وتحكمه فيهما! وهو مؤشر على ضعف الدولة والمجتمع والنخب السياسية. وحالما جرى رفعه إلى مصاف "المقدس"، فإن النتيجة الملازمة هي تقديس بواعث الخراب والتخريب. لقد أدى انقلاب الرابع عشر من تموز إلى جعل المؤامرة والمغامرة السياسية لحفنة من الحزبيين الجهلة ومحبي الجاه والسلطة ولاحقا الإجرام والسرقة، أمرا عاديا! وأصبح تاريخ العراق بعدها سلسلة متصلة من الانقلابات والجريمة السافرة والمستترة. والنتيجة انعدام الاستقرار والأمن والتراكم الضروري للمعرفة والاحتراف والكفاءة. أنها وضعت وأسست لإمكانية الخروج على كل شيء، ورفعته إلى مصاف الممارسة الشرعية. من هنا "شرعية الثورة" وما شابه ذلك من صيغ لا علاقة لها بالشرع والحقوق، باستثناء تحويل غريزة السلطة المتحكمة في نوعية الأحزاب السياسية العراقية إلى "حق شرعي". وقد أدت هذه الطريقة، كما تكشف عن نتائجها تجارب الأمم الحديثة جميعا والعراق بشكل خاص، إلى الغوص في أوحال الدكتاتورية والتخلف والانحطاط.

لقد كان تحول انقلاب الرابع عشر من تموز إلى "ثورة"، الصيغة الملازمة للتشوه التاريخي ولسطحية الوعي السياسي الحزبي. وهي حالة لم يجر بعد دراستها بصورة علمية معمقة، استنادا إلى معطيات التاريخ السياسي والأبحاث السوسيولوجية المتعلقة برؤية طبيعة وحجم الخلل الفعلي في العراق الجمهوري. أما النتيجة كما نراها الآن، فإنها لا تحتاج إلى تدليل كبير لرؤية التخلف المزري. بحيث يرتقي هذا التخلف إلى مصاف ما ادعوه بمنظومة الانحطاط، بوصفه الوجه الآخر، أو الاسترجاع المعكوس للانقلاب التاريخي الذي أحدثه انقلاب الرابع عشر من تموز.

فعندما نتأمل تاريخ التراكم الطبيعي في ثورات الأمم الناجحة، فإننا نرى ملامح الثورات الفعلية في الانتقال (على مستوى الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي وبنية الدولة والاقتصاد) من المستوى الديني إلى الليبرالي ثم إلى القومي ثم إلى الاشتراكي الديمقراطي (الاجتماعي). بمعنى الانتقال على مستوى الوعي والواقع من مرحلة الأمة الدينية إلى القومية العصرية ومنهما إلى المرحلة الاجتماعية. وقد تراكمت هذه العملية في تاريخ العراق الحديث قبل الرابع عشر من تموز، رغم التخلف المزري الذي ورثه من المرحلة العثمانية. بحيث كان بإمكاننا أيضا أن نرى ظهور حزب شيوعي بعد عقد ونيف من الزمن ممثلا "للبروليتاريا" الساعية للبناء الشيوعي!! أي في بلد كانت الأمية فيه تبلغ 90% وشبه انعدام للتصنيع ومستوى متخلف في الزراعة وعلاقات اجتماعية تقليدية وملك مستورد! وتعكس هذه الحالة بصورة مبطنة حالة التشوه الأولى للوعي الاجتماعي والسياسي، لكنها كانت تتعرض إلى عملية تهذيب وتشذيب ضمن السياق العام للتطور الطبيعي في انتقال الوعي السياسي من المرحلة الدينية والوعي الأسطوري واللاهوتي إلى الفكرة اللبرالية والوطنية. وكانت تتراكم في هذا المسار عناصر الفكرة القومية والاجتماعية. وهو مسار طبيعي. غير أن التحول الجذري (الراديكالي) الذي أحدثه انقلاب الرابع عشر من تموز قد قلب الأمور رأسا على عقب. بحيث تحولت الشيوعية إلى الفكرة السائدة (بعد 1958)، ثم تلتها الفكرة القومية (بعد 1963) ثم الفكرة الدينية (بعد 2003). وهو خط بياني يعكس ما يمكن دعوته بالانقلاب التاريخي للتاريخ مازال العراق يعاني من نتائجه المريرة، لكنه يسير الآن ضمن السياق التاريخي الطبيعي. وهي التعزية الوحيدة الكبرى لما يجري الآن! بمعنى أن رجوع العراق إلى "المرحلة الدينية" هو مقدمة صعود الفكرة الليبرالية اللاحقة، فالقومية، فالاجتماعية.

إن الرؤية المطروحة أعلاه تتضمن موقفي من طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثها انقلاب الرابع عشر من تموز، الذي جعل من كل انجازاته اللاحقة أشياء اقرب ما تكون إلى وليمة سرقة! كبيرة ومبهرجة وسريعة الزوال! وليست التوتاليتارية سوى ذروتها الكبرى.

إن نقد المرحلة التوتاليتارية في العراق ينبغي أن تبدأ من نقد انقلاب الرابع عشر من تموز الذي مازال يخيم بأوهامه على صدأ الذاكرة والفكر السياسي. ومن ثم يمنعهما من التفكر بمعايير المستقبل. إن مهمة هذا النقد تقوم في تحرير العقل السياسي من قيود الأوهام الأيديولوجية. فالعراق بحاجة إلى منظومة إصلاح عقلانية وإنسانية وواقعية، أي منظومة إصلاح شاملة تعمل بمعايير المعاصرة والمستقبل. انه ليس بحاجة إلى انقلابات يجري تجليلها لاحقا بمسوح "الثورة" وما شابه ذلك لكي لا تتكرر مأساته من جديد. والخطوة الأولى تقوم عبر تأسيس الوعي السياسي بالشكل الذي يحّصنه من الوقوع في شبكة الأوهام العنكبوتية للراديكالية الدنيوية منها أو الدينية. وذلك لأنهما كلاهما يؤديان بالضرورة إلى مختلف أشكال ومظاهر ومستويات التوتاليتارية، أي الاستبداد والإرهاب الشامل.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم