قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (6)

ميثم الجنابيالمحور الثاني: جذور التوتاليتارية في العراق (2)

• نظرية (الاستبداد الشرقي) تربط بين الطغيان السياسي والبيئات النهرية. تعود هذه النظرية إلى كارل فيتفوغل (Karl wittfoggel) التي وضعها في عمله الضخم (الطغيان الشرقي: دراسة مقارنة في الحكم المطلق). إضافة لذلك هناك عامل آخر يرتبط بالحالة الجيوسياسية للمجتمعات المفتوحة، التي يسهل غزوها عسكريا وفكريا، كما هو الحال بالنسبة للعراق، حيث يمثل نقطة تقاطع هش للمشروع الإسلامي الصحراوي(الوهابي) والمشروع الرعوي التركي والمشروع القومي الإيراني. الأمر الذي يجعل من الضروري وجود دولة تقوم على المركزية السياسية والاقتصادية. ما هو مدى قوة هذه النظرية بالنسبة لتطبيقها على حالة العراق؟ خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار رؤية ملامح هذه المشاريع بعد تفكك الدولة التوتاليتارية؟

إن الظروف الجغرافية والمناخية تلعب ادوار متنوعة ومختلفة في تاريخ البشر والدول والأمم. وشأن كل عامل من هذا القبيل لا يمكنه أن يكون حاسما بمفرده أو جوهريا بحد ذاته. فحياة الأمم والدول والحضارات نتاج معقد لتداخل ظروف ومكونات وإرادة البشر و"منطق" التاريخ" سواء من خلال فعل شروطه الطبيعية والموضوعية والمصادفات وكثير مما يصعب أحيانا حصره. من هنا تنوع وتباين فلسفات التاريخ بهذا الصدد. وضمن هذا المسار المعقد والمختلف والمتباين لتجارب الأمم لا يمكن الحديث بصورة جدية عما هو سائد بعبارة "الاستبداد الشرقي". وذلك لأن "الغرب" ليس اقل استبدادا وطغيانا سواء ما يتعلق الأمر بالنظام السياسي أو الدور التاريخي.

إن "الاستبداد الشرقي" و"الديمقراطية الغربية" هي مجرد صيغ أيديولوجية بحتة لتفسير بعض مظاهر ومراحل التاريخ الكبرى. والشيء نفسه يمكن قوله عما يسمى بترابط الاستبداد بالبيئة النهرية. وذلك لانعدام أية علاقة طبيعية أو غير طبيعية بينهما. فالأنظمة الاستبدادية نشأت في بيئة نهرية وصحراوية ومختلطة. كما أنها انعدمت في ظروف أخرى نهرية وصحراوية ومختلطة.

"الاستبداد" القديم هو احد مظاهر مركزية الدولة الإمبراطورية. وكان يحمل في أعماقه احد مظاهر التاريخ الضرورية لارتقاء الأمم في مجرى التحول من مرحلة ما قبل الدولة والكينونة الاثنية إلى مصاف الدولة والصيرورة الثقافية للأمم. بينما يختلف الأمر في العصر الحديث. فالاستبداد في أغلبه هو نتاج صعود الراديكالية السياسية ومحاولاتها فرض بديلها الشامل بالقوة والعنف. وعلى قدر وطبيعة الأزمة البنيوية للدولة والأمة والثقافة (السياسية بشكل خاص) تتوقف نوعية الاستبداد وقوته. وليس مصادفة أن نراه يتوسع على مدار القرن العشرين بحيث يبدأ في أوربا (روسيا) ثم ايطاليا وألمانيا، ويتكاثر في آسيا وأمريكا اللاتينية بحيث يصبح الصفة السائدة لأغلب الدول. والسبب يكمن في أن القرن العشرين هو قرن التحول الراديكالي في مختلف ميادين الحياة. كما أنه القرن الذي خرج فيه الإنسان عن كافة أطواره بما في ذلك خروجه إلى الفضاء. وفي خروجه المتنوع هذا تكمن أيضا مقدمة رجوعه إلى النفس. بمعنى أن عصور التجارب الكبرى قد ولى، دون أن يلغي ذلك الإمكانية غير المتناهية للمغامرات الروحية الكبرى والصغرى. وهو السبب الذي يفسر السجود الهائل أمام صنم "الديمقراطية". ففي هذا الرمز تكمن معالم الإجماع العقلي والعقلاني على انتهاء قيمة الاستبداد وهوس الراديكالية السياسية. إنها عملية تاريخية جديدة، تنقل فكرة الديمقراطية بوصفها مناهضة للاستبداد التقليدي إلى ميدان ومستويات أخرى، تتعلق أساسا بهوية الإنسان والنزعة الإنسانية. ويواجه العراق هذه الحالة من خلال تداخل مكونات ليست تاريخية، بمعنى أنها ليست نتاج تطور تلقائي. وذلك بسبب سيطرة احد اشد الأشكال وأكثرها تفاهة للراديكالية السياسية الهامشية (التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية). لكن الأمر يختلف بالنسبة للماضي. فقد كان الاستبداد فيه الصيغة الملازمة لتاريخه الإمبراطوري. فتاريخ العراق في اغلبه هو تاريخ الإمبراطورية. وفي هذا يكمن سرّ إثارته القديمة والحديثة والمعاصرة.

طبعا أن لكل مرحلة خصوصيتها. لكن المشترك بينها جميعا يقوم في طبيعة تراكم تطوره التاريخي المدني. أما الجغرافيا فإنها لعبت وما تزال تلعب دورا مهما، لكنه ليس حاسما. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا الدور يتغير. وفي ظل التطور المعاصر للعلم والتكنولوجيا، لم يعد للجغرافيا دورها السابق، بحيث يمكننا الحديث عن دورها "الحيادي".

طبعا يمكننا الحديث عن الخصوصية الملازمة للجغرافيا العراقية وانبساطها وأنهارها التي كانت تكفل بقدر واحد إمكانية التطور والحضارة وكذلك غزوها. لكنها ظاهرة تميز كل الأراضي حالما تصبح جزء من "المعمورة" أي القابلة للعمران. إضافة لذلك أن الجغرافيا السهلة تختزن في أعماقها على تعقيد الإبداع التاريخي الذي يكفل لها إمكانية نمو القوة ونشوء المدنية. وضمن هذا السياق كان السبق التاريخي لقيمة الجغرافيا العراقية يقوم في تحولها إلى بؤرة الحضارة الإنسانية والإشعاع الثقافي، وليس إلى محل الغزو العسكري والفكري!!

إن حالة الجغرافيا العراقية تثبت العكس. فالعراق لم يكن محل الغزو العسكري والفكري، بل على العكس. لقد كان هو على امتداد آلاف السنين مصدر الأفكار الكونية والثقافة العالمية. وبالتالي، فإن جغرافيته السهلة قد أبدعت إحدى اعقد الأشكال تأثيرا عل الصعيد العالمي. وفي هذه المعادلة ينبغي البحث عن سرّ إثارته للغزو الخارجي. بمعنى أن قوته وكونه مصدر الحضارة والثروة والأبهة كان يكمن وراء المساعي المتعدد والمتتالية على امتداد التاريخ لاحتلاله. غير أن "احتلاله" كان يحتوي بالقدر ذاته على إمكانية تذويب من يدخل فيه. الأمر الذي صنع ما ادعوه بصيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. من هنا عدم دقة الفكرة القائلة، بأنه كان وما يزال محلا لشهية المشروع الصحراوي (الوهابي) والرعوي التركي والقومي الإيراني.

ذلك يعني أن الفكرة التي تحاول أن تجعل من تاريخ العراق مجرد ميدان لمشاريع صحراوية ورعوية وقومية أجنبية هو جهل بتاريخ العراق وبواعث مكوناته وتطوره التلقائي. إن كل هذه المظاهر التي يمكن أخذها بنظر الاعتبار حالما ننظر إلى تاريخ العراق القديم والحديث، تبقى مجرد أمور جزئية وعادية وعلى ضفاف تطوره التلقائي. أما من الناحية العلمية الدقيقة، فإن الفكرة المذكورة أعلاه، أي التي تنظر إلى تاريخ العراق على انه ميدان لمشاريع "خارجية" هي مجرد أحكام أيديولوجية ظاهرية ومسطحة، كما أنها تجمع بين مراحل مختلفة ومكونات متباينة. بعبارة أخرى، إنها صيغة أيديولوجية مفتعلة في النظر إلى التاريخ العراقي. وإذا كان بالإمكان الحديث عن هذه "المشاريع" فإنها مجرد نتاج لحالة الفراغ والانحطاط. ومن ثم فهي ليست "مشاريع" بل "مشاريع مضادة"! ومن ثم تبقى ذرات رملية متطايرة أو موجة رحلات عابرة.

لكننا حالما ننتقل إلى ميدان التاريخ الفعلي والتفسير العلمي الدقيق، فإن تاريخ العراق والمنطقة هو تاريخ مشترك وليس تاريخ الغزو. وإذا كان من الممكن الحديث عن "غزو" فيه، فإن "الغازي" الأكبر فيها هو العراق! بمعنى أنه صانع الكينونة الروحية للمنطقة. أما ما يسمى بالمشاريع الصحراوية والرعوية والقومية فهي رؤية تحاول وضع العراق بالضد من إقليمه الطبيعي. وهي رؤية تعكس إما الجهل بكيفية المسار التاريخي للمنطقة، أو أنها محكومة برؤية محلية ضيقة. فالجزيرة العربية هي جزء من العراق تماما بالقدر الذي كان وما يزال العراق جزء منها. والعلاقة العراقية الإيرانية هي عريقة التأريخ ومتوحدة الثقافة. كما أنها علاقة محكومة بتاريخ إمبراطوري وثقافي مشترك قد يكون الأطول والأعمق والأوسع. بمعنى أن التاريخ الإمبراطوري والثقافي المشرك اكبر من الوجود المستقل والمغترب لكليهما. أما المكون التركي فهو صنيعة العراق الكبرى على امتداد قرون الخلافة الأموية والعباسية. وتحوله اللاحق إلى عثمانية تركية هو احد مظاهر الانحلال الثقافي. أما الصيغة "الرعوية" فهو تأويل مؤدلج. وذلك لأنها مجرد مرحلة في ارتقاء الأمم والحضارات. والشيء نفسه يمكن قوله عن "الوهابية". فهي لم تكن مجرد صحراء، بقدر ما أنها جزء من تاريخ الصيرورة القومية التي لازمت أولى بوادر الصعود العربي بعد قرون من السبات التاريخي. ومأثرتها التاريخية الأولى لا ينبغي إرجاعها إلى كمية "الغزوات" والغارات على أطراف العراق "الرملية" ونهب المدن. فقد كانت تلك مجرد نتاجا لخصوصية السلفية العنيفة ودعوتها العملية.

مما سبق يتضح، بأن الهجوم "الخارجي" على المنطقة السهلة المنبسطة النهرية للعراق لم يكن نتاج "المشاريع" المذكرة أعلاه، وليست نتاج الجغرافيا، بقدر ما أنها كانت نتاج البنية الاجتماعية السياسية والثقافية للدولة في العراق، وبالأخص في مراحل انحطاطه. فسهولة غزوه ليس بسبب جغرافيته، بل بسبب الفراغ المحتمل فيه. وينطبق هذا بصورة كلاسيكية على حالة الغزو الأميركي للعراق.

إضافة لذلك، إن احتمال الغزو كان سائدا و"طبيعيا" في تاريخ الدول والأمم والحضارات فيما مضى. ولم ينته لحد الآن كما تبرهن تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق. فالاحتلال والغزو حالة مطلقة بالنسبة لتاريخ الدول والأمم جميعا دون استثناء. وبالأخص بالنسبة للدول التي تميز تاريخها بمساع إمبراطورية. إذ لا يعرف التاريخ منطقة جغرافية محصنة خصوصا حالما تكون مرتعا للحضارة والثروة. والسائد فيها هو مد وجزر التاريخ والقوة. فقد بنت الصين سورها العظيم لكنها انهارت أمام بريطانيا البعيدة واليابان البحرية الصغيرة. كما تحولت الإمبراطوريات القديمة جميعها إلى محميات. كما أن جميع الإمبراطوريات كانت في البداية مقاطعات في إمبراطوريات، كما هو الحال بالنسبة لاسبانيا وفرنسا والنمسا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة الأميركية. من كل ما سبق يمكن التوصل إلى أن الجغرافيا العراقية ليست قدر العراق المحتوم في أن يكون ميدانا لتجريب مشاريع الغزو والاحتلال. غير أن يضع فكرة المركزية السياسية والثقافية للدولة في أولوياتها من اجل تلافي إمكانية السقوط في أوحال التحلل والانحطاط وصعود الراديكاليات السياسية.

إن معضلة العراق الكبرى في القرن العشرين تقوم في عدم انجازه بناء الدولة المركزية المحكومة بشروط وجودها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بوصفها منظومة واحدة. وإذا كانت هذه المنظومة قد حصلت على تكاملها الأول الطبيعي في المرحة الملكية، رغم تعرجها وخللها الجزئي وأزماتها الدورية، فإن العرج أصبح أسلوب مسارها "الطبيعي" في ظل سيادة الراديكالية السياسية التي توجت بصعود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد جرى هنا تهشيم كل العناصر المتراكمة لمركزية الدولة العصرية والاستعاضة عنها بتوتاليتارية مشوهة. إذ أدت إلى إفراغ التاريخ العراقي وملئه بزمن التخريب الدائم. والنتيجة خواءه التام وسقوطه وتهشمه المريع أمام أول ضربات الاحتلال الخارجي. مع ما رافق ذلك من تطاير مكوناته الهشة (عرقية أقليات متخلفة وبدائية وشرسة، وطائفية مغلقة ودموية وعنيفة، وفئوية حزبية عدوانية، وانغلاق شبه كلي للعقل الاجتماعي)، التي أخذت تتلذذ بالتحلل والضعف لأنه يجعلها قوية بمعايير الأجزاء المتحاربة.

كل ذلك يكشف عن أهمية وقيمة الدولة المركزية ومركزية الدولة. إن مركزية الدولة الشرعية هي نفي للتوتاليتارية. وفي ظروف العراق الحالية والمستقبلية، فإنه ليس بحاجة إلى لا مركزية. اللامركزية معقولة ضمن دولة عربية كبرى (موحدة). عندها يمكن الحديث عن ولايات أو حكم لا مركزي في دوله الحالية. أما العراق فانه بحاجة إلى نظام مركزي قوي شرعي محكوم بالقانون. وهنا أود القول، بأن إحدى مفارقات التاريخ الكبرى تقوم في صنعه بديهيات عامة، رغم افتقاده لملكة التفكير! وهي مفارقة تحصل على تعبيرها النموذجي في اختلاف وتعارض الزمن والتاريخ. فالزمن عرضة للاندثار في هباء النسيان، بينما التاريخ هو تراكم التجارب العقلانية والأخلاقية وإدراك قيمة الاحتراف العلمي والحكمة العملية. وهو تراكم يتبلور في "بديهيات" متنوعة هي جزء من معاناة الأمم في كيفية حل إشكاليات وجودها الكبرى. لكنها شأن كل بديهيات التاريخ وحقائقه الكبرى عادة ما تتخذ في مسار الأمم وصراع قواها الاجتماعية والسياسية صيغا ملموسة. ونعثر على هذه الصيغة فيما تطلق عليه لغة السياسة عبارة "المهمات الملحة" و"القضايا الأكثر جوهرية" و"العامل الحاسم" و"المصيري" وما شابه ذلك. لكن جوهر القضية يبقى كما هو في حال اختيار العبارة المناسبة، بوصفها تعبيرا فعليا عن حقيقة ما هو موجود. فالحقيقة اختبار قاس، وذلك لأنها تلزم الجميع مع مرور الزمن بالرجوع إليها واختبار النفس والفكرة والآفاق.

وهي الحالة التي يجسدها واقع العراق الحالي. انه يكشف عن أن اجترار الزمن هو الوجه الآخر لتفريغ تجاربه التاريخية ووعيه الذاتي من قيم العقلانية والحكمة العملية. وترتبط هذه النتيجة أساسا بتحلل فكرة المركز الثقافي السياسي، أي كل ما نعثر عليه في تحلل فكرة الوطنية المثلى بوصفها المرجعية الجامعة لوحدة صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. ويمكن العثور على هذه البديهة في كل تاريخه الفعلي. ففي إحدى القصائد الكبرى التي قيلت بحق سرجون الثاني، ملك آشور (ت – 705 قبل الميلاد)، نقرأ الخطاب الموجه إلى نينيجيكو (اله الحكمة):

يا اله الحكمة!

فجّر ينابيعك لسرجون، ملك آشور،

وحاكم بابل،

وملك سومر وأكد،

ومشّيد هيكلك!

واجعل للعقلاء والعلماء قدرهم

ووفقهم بالتمام وبلوغ المرام!

يعكس هذا المقطع النموذجي فكرة وذهنية المركز السياسي، التي صنعت بدورها قيمة المركزية الثقافية. بمعنى التوكيد على أن الحكمة هي منبع الحكم، وأن العراق هو آشور وبابل وسومر (أي شماله ووسطه وجنوبه) وأن للحكم الرشيد (العقلاني والحكيم) قدره في بلوغ التمام والمرام. إذ تكشف هذه الفكرة بعد مرور حوالي 2700 سنة عن ضحالة الواقع العراقي الحالي و"نخبه السياسية"! لكننا حالما نضعها ضمن سياق الحاضر والمستقبل، فإنها ليست أكثر من مؤشر على بديهة التاريخ العراقي القائلة، بأن العراق هو صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية لا مكان فيها للتجزئة المفتعلة. بمعنى أن كل الصيغ المفتعلة التي جرى حشرها في وعيه السياسي على امتداد تاريخه الحديث (وبالأخص منذ ثلاثينيات القرن العشرين) لم تؤد في نهاية المطاف إلا إلى الزوال والاندثار دون أن تثير في الذاكرة غير مختلف نماذج الأسى والكراهية، كما هو جلي في ما آلت إليه الأيديولوجيات الكبرى كالشيوعية والبعثية، وما نراه ونسمعه من صداها الباهت في "الاستفحال" البليد للأحزاب العرقية الكردية، وهوس الحركات الطائفية، وهمجية الأصوليات الإرهابية، ومختلف أشكال ومستويات التجزئة والانحطاط. وسوف تكشف هذه الحصيلة بصورة سريعة عن وهم "القوة" المستأسدة بقوة الاحتلال، أي كل الحالة المتشابكة لزمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية وبقاياها الخربة في نسيج الواقع والوعي السياسي والأخلاقي الاجتماعي.

فقد كانت الصدامية التجسيد التام لنفسية وذهنية التخريب الفعلي لأسس الدولة والمجتمع والثقافة. بمعنى أنها مثلت واقع وخراب المؤسسات. بينما لا يتعدى واقع الدولة الحالية من وجهة نظر البدائل العقلانية أكثر من تمثلها لما يمكن دعوته بمؤسسة الخراب. لكنها خلافا للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية تعكس حالة الانتقال ومن ثم تحتوي في أعماقها على إمكانيات متنوعة، أي أنها إحدى الصيغ النموذجية لحالة الاحتمالات المختلفة. مع ما يترتب عليه من أنماط وأشكال ومستويات للصراع. وفيما يخص الفكرة الوطنية باعتبارها القضية الأكثر جوهرية، فإنها وثيقة الارتباط بغياب الإجماع السياسي حول ماهية وفكرة المركز والمركزية العراقية. ويمكن رؤية الملامح الدفينة لهذا الغياب في صعود نفسية وذهنية وفكرة "الداخل" و"الخارج"، بوصفها الحالة الوجودية والمعنوية والأيديولوجية لتيارات مصطنعة لكنها فعلية بسبب سيادة الزمن التوتاليتاري والدكتاتوري.

فقد صنع الزمن التوتاليتاري مقدمات التجزئة والانحطاط، بحيث جعل من سيادة الأطراف والهامشية والأقلية في تاريخ العراق الحديث والمعاصر أمرا ممكنا. ومن ثم إضعاف وإنهاك فكرة المركزية الدولتية والثقافية كما نرى ملامحهما الحالية بوضوح. ولا يمكن لهذه الحالة أن ترسي أسس الدولة والأمة بالمعنى الدقيق للكلمة. مع ما يترتب عليه من صعود الغرائز وأولوية الجسد والعائلة والقبيلة والجهة، أي كل أشكال البنية التقليدية. ومن ثم صعود مختلف أشكال الصراع الهمجي. ولعل "أعلى" نماذجها الحالية هو صعود صراع وتناقض "الداخل" و"الخارج" في الفكرة الوطنية. لكنه صراع واقعي وفعلي، وذلك بسبب طبيعة الانقطاع في الفكرة الوطنية وتهشم الفكرة العامة في ظل الإحكام المطبق للدكتاتورية ونظامها الكلي. وذلك لأن الجامع الفعلي للكلّ كان القهر والإجبار. وهو جامع لا يصنع في الواقع غير آلية التجزئة. وحالما تستحكم في بنية السلطة، فإنها تتحول إلى "سياسة" تشمل كل شيء. أما النتيجة فهي الغربة والاغتراب في وجود الأشياء كلها. وهي الحالة التي واجهها العراق بعد سقوط السلطة الصدامية. وإذا كان سقوطها قد جرى بفعل قوى خارجية لها إستراتيجيتها الخاصة ومصالحها الكونية، فمن الممكن توقع طبيعة الخروج الأهوج لمختلف نماذج وأشكال الصراع المحتملة. فقوى "الداخل" هي كمية من الاغتراب الاجتماعي الهائل، أما قوى "الخارج" فهي نوعية الاغتراب الشامل. من هنا ظهور أسماء (الاتفاق) و(الوفاق) و(الائتلاف) و(الاتحاد) و(التآخي) وما شابهها من أسماء هي الوجه الأيديولوجي للتعويض عن فقدان الاتفاق والوفاق والائتلاف والتآخي والاتحاد على المستوى الاجتماعي والسياسي الوطني. لكنها كانت وما تزال جزء من حالة فقدان التاريخ الفعلي في بناء الدولة الشرعية والمجتمع والمدني والنظام الديمقراطي والثقافة الحرة.  

وجعل هذا الواقع من الممكن أن يصبح العراق محلا لتجريب مختلف المقولات الأيديولوجية للمحافظين الجدد. بمعنى تحوله إلى ميدان التجريب الخشن للصيغة الأمريكية المتطرفة التي لازمت صعود أوهام "نهاية التاريخ" وبداية "القرن الأمريكي". وهي أوهام سرعان ما جفت قطراتها في صحراء العراق القاحلة! فقد كان العراق، قبيل سقوط الدكتاتورية الصدامية صحراء قاحلة بالمعنى الدولتي والوطني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والأخلاقي. من هنا لم تكن مقولة "الفوضى الخلاقة" أكثر من وجه آخر للفوضى الصدامية!

فقد كانت مقولة الأيديولوجية التجريبية للمحافظين الجدد من ناحية إمكانية تأثيرها الفعلي، مجرد انعكاس عنيف لحالة الفوضى والاستمرار فيها. إذ تعكس هذه المقولة مستوى الرؤية الخالية من ابسط مقومات الواقعية والنزعة الإنسانية. بمعنى اقترابها من نفسية الغطرسة وذهنيتها المتجردة عن رؤية آفاق الأحداث ونتائجها، التي ستدفع الولايات المتحدة ثمنها لاحقا.

فالتاريخ لا يرحم إلا بالقدر الذي تتراكم فيه فكرة الرحمة وقيمها العملية. وهي رحمة لا يمكن أن يصنعها بالنسبة للعراق غير العراق نفسه وقواه الاجتماعية والسياسية الوطنية العقلانية. وإذا كان العراق وما يزال جزء من اللعبة الأمريكية، وميدان تجريب مقولاتها الأيديولوجية، ومادة لتجريب مشاريعها الإستراتيجية العالمية، فإن تاريخه اللاحق هو جزء من الحالة المتناقضة لوجوده المعاصر. والقضية هنا ليست فقط في مستوى المهانة التاريخية التي تعرض لها بأثر الاحتلال، بل وبطبيعة الترتيب غير العقلاني الذي رافق طبيعة التحول الراديكالي في بنية الدولة والسلطة. وهي الحالة التي تمثلت في الواقع واقع الفوضى الخالية من معنى الإبداع.

لم تكن "الفوضى الخلاقة" سوى "منظومة" الفوضى غير العقلانية، التي تغلغلت في بنية النظام السياسي الحالي (من محاصصة عرقية ونزعة طائفية ونفسية جهوية وذهنية تقليدية) وأثرها في تحول الفساد إلى آلية تحكم شخصية الأفراد والأحزاب وتفعل فعلها في تخريب فكرة الوطنية ومركزية الدولة. وهي بنية دفع العراق في مجرى سنوات ما بعد الاحتلال وسوف يدفع ثمنها (البشري والمادي والمعنوي) عقودا من الزمن لكي يتسنى له إعادة بناء تاريخه الذاتي. إذ لا تاريخ ذاتي دون فكرة ومنظومة مركزية الدولة والأمة. وهي فكرة ومنظومة مجهولة بالنسبة لأغلب القوى السياسية المتحكمة في السلطة الحالية. كما أنها نتيجة مترتبة في اغلب مقدماتها السياسية على مقولة "الفوضى الخلاقة". إذ تعكس هذه المقولة الأيديولوجية البحت بقايا الذهنية المسطحة عن آلية وتقاليد السوق وبقايا التراكم البدائي للرأسمال، أي عن آلية "التطور الاجتماعي والاقتصادي للأمم". وإذا كان لهذه الرؤية ما يبررها من الناحية التاريخية والسياسية المجردة، فإنها لم تكن في ظروف العراق أكثر من صيغة متغطرسة انتهكت ابسط مقومات التاريخ الثقافي للعراق وأثره بالنسبة لبنية وعيه السياسي وآفاق تطوره الذاتي. وليس مصادفة أن تجد صداها "الفعال" والمتحمس بين الأقليات الهامشية وما أطلقت عليه مرة إحدى "الدراسات التحليلية الأمريكية المحترفة" عبارة "عجول الأحزاب المخصية"!!  

فهي القوى التي كانت مبعدة ومبتعدة عن تاريخ العراق الفعلي، ومنهمكة بقضاياها الجزئية الخاصة. بمعنى غربتها واغترابها السياسي والاجتماعي والوطني عن فكرة وذهنية مركزية الدولة والأمة. من هنا يمكن فهم سرورها وغرورها بما أحدثته "الفوضى الخلاقة"، وذلك لانعدام الإبداع فيها وسيادة الفوضى. لاسيما وأنها الحالة التي لا تتطلب الموهبة والاحتراف العالي والشعور بالمسئولية الكبرى تجاه القضايا الجوهرية والوطنية العامة، بوصفها قيما طبيعية واجتماعية وعلمية وتاريخية لا يمكن صنعها وتراكمها إلا عبر مركزية الدولة والأمة. وإذا كان تخريبها في تاريخ العراق الحديث والمعاصر هو الوجه الآخر لصعود الراديكالية السياسية، وبالأخص بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958، فإن تدميرها التام قد جرى في مجرى العقود الأربعة المظلمة للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وبالتالي، لم يكن بإمكان "الفوضى الخلاقة" الأمريكية أن تستقطب غير الأقليات الهامشية والمهمشة، وحثالة الأحزاب والنخب! من هنا شراستها العنيفة وعنفوانها المتقاتل في احتلال كل ما احتلته القوات الأمريكية في العراق! بحيث أصبح من الممكن أن يكون "رئيس" الدولة العراقية رئيس حزب عرقي محلي لأقلية قومية. وهي مفارقة مزدوجة وغريبة، شأن كل الانقلاب العنيف للشخصيات والأحزاب السياسية، التي تحولت بين ليلة وضحاها من "أعداء الامبريالية" إلى مؤيدين لها، ومن "إسلاميين أصلاء" إلى طائفيين "عقلاء"، ومن قوميين عرب إلى "عرب" بلا قومية، ومن "شيوعيين أمميين" إلى قوميين صغار، ومن "دعاة الثقافة" إلى تجار صغار باسم الثقافة. وهي قائمة يمكن تتبع جردها على كل ما يطفو الآن على سطح الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية!

لم تكن هذه الحالة الغريبة والشاذة معزولة عن حماقة الرؤية الأمريكية وصداها الأشد إثارة في شخصية الأحزاب السياسية وقياداتها. فقيمة وحقيقة النخب بشكل عام والسياسية بشكل خاص تبرز في مراحل الاختبار التاريخي. وهو اختبار كشف عن ضحالتها المريعة! من هنا سرّ انهماكها "الطبيعي" في اللعبة الأمريكية، بوصفه التعبير الفعلي عن طبعها وطبيعتها وتطبعها! بمعنى تلاقي الطرفين في مستنقع الفوضى والعيش بذوقه. الأمر الذي جعل ويجعل من كل ما تقوم به النخب الحالية مجرد اجترارا للزمن، أي اغترابا فعليا عن التاريخ العراقي. وهو اغتراب لا يصنع مستقبلا. والسبب جلي للغاية، وهو أن "الفوضى الخلاقة" لا يمكنها أن تصنع في العراق غير الفوضى فقط. وذلك لأن "الفوضى الخلاقة" بوصفها صيرورة للإبداع لا يمكنها الفعل إلا ضمن كينونة ثقافية وسياسية لها منظومتها الخاصة ومرجعياتها الكبرى.

فالفوضى تبدع ولكن في ظل وجود منظومة كبرى. بينما لم توجد في العراق بعد سقوط الصدامية منظومة كبرى باستثناء حالة الخراب الشامل للدكتاتورية وبقاياها الصدئة في كل مكان. من هنا استحالة عملها. ومن هنا أيضا الطابع المأساوي والمخجل لأغلب قوى "الخارج".

فحقيقة الإبداع ليست فوضى، بل رؤية منظومية متجانسة تتسم بقدر كبير من التعقيد. لكن الرؤية الأمريكية المتعالية التي جرى سحق انفها في تربة العراق الخربة، لم تتحرر بعد من نزعتها النفعية السقيمة. وهي نزعة لا يمكنها الفعل في العراق (والعالم العربي عموما)، بسبب تباين واختلاف منظومة القيم واثر التاريخ وآفاق المعاصرة والمستقبل. من هنا اعتمادها على نفسية وذهنية الأقلية. لكنه اعتماد وانهماك لا معنى له ولا قيمة غير الاستمرار في تقاليد الاغتراب عن مصالح العراق الجوهرية. وهي الحالة التي أكثر من جسّدها في ظروف العراق الراهنة الحركات القومية العرقية الكردية. غير أنها حالة طارئة وعابرة بسبب تمثلها لزمن التجزئة المفتعلة. وفي هذا يكمن سرّ تمسكها المستميت بفكرة التجزئة ومحاولة إدخالها إلى قاموس العراق السياسي (الفيدرالية العرقية)، بوصفه التعبير المبطن والمقلوب عن نفسية وذهنية الأقلية الطارئة بالمعنى التاريخي والثقافي. بينما حقيقة البدائل والبدائل الحقيقية تكمن في الدفاع عن فكرة المركز السياسي والمركزية الثقافية، خصوصا في مراحل الانتقال العاصفة. فهو الأسلوب الوحيد الذي يعصم الجميع من الغرق في تيار اللاعقلانية والاحتراب والدموي. فضعف المركز السياسي والمركزية الثقافية يحوّل القوى والأحزاب والتيارات "السياسية" إلى عصابات وتجمعات لا يربطها غير غريزة الخوف والغنيمة! وهي أمور لا علاقة لها بالدولة والأمة.

إن حقيقة البديل الوطني العراقي تكمن حاليا ولفترة عقود قليلة قادمة في تأسيس وترسيخ فكرة المركز السياسي والمركزية الثقافية. وهو بديل اقرب ما يكون إلى تيار سار في شرايين العراق، يضخ بدوره قوة الحياة الصاعدة في صيرورته التاريخية وكينونة الثقافية. وسوف يجرف هذا التيار في مجرى تطوره مختلف بقايا الأقلية والهامشية، كما هو جلي في ملامح "الصحوة" المتعددة الأوجه وتيارات "الداخل" الوطنية. بمعنى إننا نقف أمام ظاهرة أفول الأقلية والجهوية والتجزئة بوصفها زمنا، وصعود الكينونة العراقية الجامعة بوصفها تاريخا.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم