قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (7)

ميثم الجنابيالمحور الثالث: النزوع التوتاليتاري في الدولة العراقية الحديثة (1)

• يشكل مفهوم (الدولة الريعية) من المفاهيم الحديثة عن الدولة الأحادية الاقتصاد وهو احد الإسهامات المهمة في حقل العلوم السياسية. ما هي الأسس الفكرية لمفهوم الدولة الريعية؟

إن مفهوم "الدولة الريعية" في محاولاته تفسير خصوصية الدولة في إيران ودول الخليج العربية، طوّع المواقف السياسية والأيديولوجية عبر هالة الرؤية الاقتصادية. وبهذا فهو يشبه في الكثير من جوانبه اغلب ما ظهر في بداية النصف الثاني من القرن العشرين من مفاهيم ومقولات ونظريات بهذا الصدد. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ماركسية مقلوبة! وكلاهما يصبان في منحى واحد، ألا وهو تغليب الرؤية المسبقة والقيم الأيديولوجية والسياسية على تعقيد الواقع، أو من خلال سحب الواقع المتحرك والحركة التاريخية المتراكمة وتنوع الأشكال المتناقضة في كمون البدائل تحت خيمة التعميم السياسي. غير أن ذلك لا ينفي ما في هذا التحديد الاقتصادي السياسي من قيمة علمية وعملية في إدراك خصوصية النظام السياسي، على الأقل في ستينيات القرن الماضي (العشرين). لكنه لم يعد يمتلك قيمة علمية دقيقة في تفسير ظاهرة الدولة الحديثة والنظام السياسي في منطقة الخليج. كما انه يعجز عن تفسير وإدراك خصوصية الدولة والنظام السياسي الذي تبلور في العراق في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين، وسقوطه المريع تحت ضربات الغزو الأمريكي عام2003.

فنظرية "الدولة الريعية" كانت من حيث مادتها المباشرة مهتمة بالدولة الإيرانية ودول الخليج العربية. بمعنى أن العراق لم يكن موضوع اهتمامها المباشر آنذاك. وقد تبلورت هي سوية إلى جانب النظرية القبلية الخلدونية والنظرية الميراثية الفيبرية والطبقية الماركسية وغيرها تحت ثقل الهيمنة "التاريخية" للأيديولوجية السياسية التي حكمت نفسية وذهنية الباحثين آنذاك. فهو العقد الذي أمات العلم وأنعش الأيديولوجية. من هنا سيطرة رجال الأحزاب في تفسير التاريخ والدولة والنظام السياسي والمستقبل، رغم جهلهم الشديد بهذه الأمور المعقدة. لكن مفارقة الظاهرة تقوم في أن الأحزاب أو الأصنام الجديدة حالما جعلت من وساوسها وهواجسها ورغباتها "وحيا"، فإنها سرعان ما استسهلت الرؤية السياسية والمواقف الحزبية في النظر إلى ظاهرة الدولة والسلطة والنظام السياسي وصيرورة الطبقات والفئات الاجتماعية. طبعا أن ذلك لا ينطبق على نظرية "الدولة الريعية" بصورة مباشرة، لكنه ينطبق على استنتاجاتها السياسية بشكل عام وعلى تغلغلها في الوعي "المنهجي" بشكل خاص، بعد أن عجزت أو وقفت نظرية القبيلة والميراث والطبقات عن "العمل" بصورة جدية على خلفية التحولات البنيوية الكبيرة في دول الخليج العربية.

فمن الناحية النظرية الاقتصادية ليس بإمكان نظرية "الدولة الريعية" الصمود أمام النقد العلمي الصارم. لكنها مقبولة نسبيا عند تخوم ستينيات القرن الماضي، عندما كان "الريع" والإيجار الصفة السائدة في الموقف من السلعة السحرية الجديدة: النفط! ولكن حتى هذه الحالة لا تشكل في الواقع أساسا لاستنتاجات نظرية عميقة. والسبب يقوم في أن تلك المرحلة كانت إحدى مراحل الانتقال العاصفة على النطاق العالمي ودول الخليج العربية بشكل خاص. كما إنها كانت تحتوي في طياتها على كمون التحول العنيف في تاريخ العراق الحديث.

مما لاشك فيه أن لاقتصاد السلعة الواحدة اثر تخريبي هائل على بنية الدولة. وهي حالة مختلفة المظاهر والنتائج في تاريخ الدول. الأمر الذي يجعل من الضروري دراستها دوما بصورة ملموسة. فجمهورية النفط والغاز ليست كجمهورية الموز والقهوة. كما أن تأثيرهم في الأنظمة الجمهورية والملكية ليس سواء. بل ويختلف بين الأنظمة الجمهورية نفسها، كما يختلف بين الأنظمة الملكية. والقانون "الحديدي" الوحيد القائم في جعل الدولة التي يعتمد اقتصادها على هيمنة مادة طبيعية واحدة قابلة للتصدير يقوم بالطبيعة الاجتماعية للقوى الحاكمة وأيديولوجيتها السياسية. وعموما يمكنني القول، بأن اقتصاد السلعة "الجمهورية" أو "الملكية" الذهبية الواحدة هو تعبير أما عن بقاء وسيادة وهيمنة وتأقلم القوى التقليدية ضمن تصوراتها ومفاهيمها وقيمها ومصالحها الخاصة، أو ترسخ دكتاتورية الهامشية والقوى الرثة وأيديولوجياتها الراديكالية السياسية. وقد كان العراق البعثي الصدامي الصيغة "الكلاسيكية" لهذا القانون!

بعبارة أخرى، إن نظرية "الدولة الريعية" لا يمكنها أن تكون منظومة منهجية في دراسة الدولة العراقية الحديثة. إنها قادرة على تسليط الضوء على بعض جوانبها، أو رسم معالم الممارسة التي قامت بها السلطة في مجرى تحولها من "ثورية" إلى دكتاتورية، ومن دكتاتورية إلى توتاليتارية، مع ما ترتب عليه من مزج بينهما وصنع سبيكة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وذلك لأن صيرورة الدولة العراقية لم ترتبط بتاريخ "السلعة الذهبية"، بل على العكس، إن هذه "السلعة الذهبية" قد قطعت مساره الطبيعي عبر هيمنة وسيطرة الراديكالية السياسية. بحيث أدى في نهاية المطاف إلى صنع ما يمكن دعوته بالدولة الرخوية التوتاليتارية! ويعكس هذا الإخطبوط المسخ مستوى الانحراف عن ماهية الدولة والمجتمع والتاريخ الثقافي للأمة.

• كيف يمكن تحديد طبيعة العلاقة بين "الدولة الريعية" والنزعة الكليانية (التوتاليتارية)، وبالأخص ما يتعلق منه بأثرهما المتداخل على تغذية الخمول والكسل الاجتماعي والسياسي عبر استعمال وسائل الإغراء والإكراه؟

إن طبيعة وحجم الترابط بين استغلال "الريع" والنزعة الكليانية (الشمولية أو التوتاليتارية) محكوم أولا وقبل كل شيء بنوعية الأيديولوجية السياسية السائدة ونظام الحكم السياسي. أما أشكالها ومظاهرها فترتبط أيضا بمستوى تطور العلاقات الاجتماعية والتطور العلمي والتكنولوجي والثقافة العامة.

فالمؤثرات "الريعية" لا تشكل بحد ذاتها مقدمة ضرورية أو ملازمة للنزعة الكليانية، بما في ذلك حالما يجري توظيف "الريع" في مجال الحياة المدنية والاجتماعية. إذ أن احد مظاهر ومعالم الدولة الحديثة والمتطورة تقوم في مدى اقتراب الدولة ومؤسساتها من المجتمع. بل إن احد مظاهر الدولة المتقدمة هو أن تكون "دولة اجتماعية". غير انه حالما تتحول الدولة إلى محتكر وحيد لتوزيع الثروة والتحكم بها، فإن ذلك يشكل بحد ذاته احد مصادر الاغتراب الفعلي بينها وبين الفرد والمجتمع. خصوصا حالما يكون احتكارها مبنيا على أساس استغلال الثروات الطبيعية فقط. ففي هذا "الريع" يكمن احد مصادر الخلل البنيوي للخمول الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وذلك لأنه يحتوي بالضرورة على إهمال متعمد أو غير مدرك من جانب النخبة الحاكمة (التقليدية بالضرورة) لأهمية العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المنتج والضريبة بالنسبة للتطور والتقدم والازدهار والعدالة. ومع ذلك لا يشكل هذا العامل بحد ذاته منتجا بالضرورة للنزعة الكليانية، كما نراه على سبيل المثال في دول الخليج العربية وغيرها. لكن الأمر يختلف حالما يكون "الريع" أداة السلطة التي تعمل وتفعل بمعايير الأيديولوجية التوتاليتارية. حينذاك يصبح التأثير المتبادل بين الريعية والكليانية مكونات مترابطة وفعالة وفاعلة ضمن سياق القيم والمبادئ الملازمة للأيديولوجية الراديكالية السياسية.

بعبارة أخرى، إن طبيعة الأيديولوجية السياسية السائد هي التي تحدد من حيث الجوهر كمية ونوعية وكيفية سيادة واستغلال وتوظيف "الريع" في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية. فالنزعة التوتاليتارية هي نتاج الرؤية المحكومة بقيم ومفاهيم ومبادئ أيديولوجية راديكالية عن "مشاريع البدائل الكبرى". ومنها، وفي مجرى تجسيدها في بنية النظام السياسي تنشأ وتتراكم أجهزة وفاعلية الدولة التوتاليتارية، بما في ذلك في كيفية وكمية ونوعية استغلال "الريع" في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية.

فاستغلال الريع في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية من جانب الدولة فضيلة. لكنه يتحول في ظل السيرة الدولة التوتاليتارية إلى رذيلة. أما حجم ونوعية ونتائج هذا التوظيف فيتوقف على مستوى تطور العلاقات الاجتماعية، والتطور العلمي والتكنولوجي، والثقافة العامة. من هنا اختلاف نتائجها في الدولة السوفيتية والألمانية الهتلرية عما جرى في العراق. فقد كان احتكار الدولة للثروة وتوظيفها محكوم بفكرة الدولة القوية والقومية الكبرى. ونتائجه العلمية (العسكرية في الأغلب) تعكس نوعية وكمية هذا الاستغلال. وهذا بدوره ليس معزولا عن كون مشروع التوتاليتارية ونتائجه محكوم أيضا بمستوى تطور العلاقات الاجتماعية والثقافية والعلم التكنولوجيا. وهي مقدمات كانت متطورة في روسيا وألمانيا. والشيء نفسه يمكن قوله عن قواهما الاجتماعية.

لكن الحالة تختلف اختلافا هائلا عما حدث في العراق منذ ستينيات القرن العشرين. فقد كانت النزعة الكليانية في العراق نسخة "ناصعة" لعالم متخلف. إضافة إلى ضعف وتشوش الأيديولوجية البعثية وراديكاليتها السياسية من جهة، وهامشية قواها الاجتماعية وحثالة "نخبتها" السياسية من جهة أخرى. غير أن هذا الاختلاف الكبير لا ينفي اشتراكهما بهذا الصدد كما لا يعني خلافهما الجوهري. واشتراكهما بصدد القضية التي يجري الحديث عنها يقوم ليس في تصنيع "الخمول السياسي" من خلال توظيف الثروة والتحكم بها، على العكس! انه يجري من خلال تنشيط "الفعل السياسي" عبر حصره في ميدان تنفيذ ما تسعى إليه السلطة التوتاليتارية. وهو حصر اقرب ما يكون إلى محاصرة العقل والضمير، والروح والجسد الفردي والاجتماعي والقومي بالشكل الذي يخدم "أهداف" الدولة وينتفخ في شعاراتها! انه تنشيط يعادل خمول الحرية أو إخمادها وتدمير معناها الذاتي. وذلك لما في هذا الخمول من قوة فعالة وقاتلة وشرسة في تحديدها وتقنينها للحرية الفردية والاجتماعية. ومن ثم قدرته على قتل روح المعارضة والنزعة النقدية، أي جوهر الوجود الإنساني. وليس مصادفة أن تتحول فكرة الحرية الاجتماعية (الطبقية) والقومية إلى قمع سافر وعبودية فجة أو عنصرية شاملة. ولم تكن هذه النتيجة معزولة عن تحكم السلطة بالثروة، ومن خلالها بالإنسان عبر تحويله إلى مجرد مسمار يخترق الوجود والحاضر تحت طرقات معاولها في تشكيل هياكل "المستقبل".

أما الإغراء والإكراه فهما مجرد إحدى الثنائيات العملية التي تفعل إلى جانب أمثالها على تمّثل مضمون التوتاليتارية من جهة وامتثال ما فيها من توحيد خشن لتوظيف الثروة وغسل الأدمغة ومحو الضمير وتدمير العقل النقدي، أي كل ما يساهم بتعميم العبودية. فهي الوسيلة الملازمة للنزعة التوتاليتارية. بمعنى استعمال كل الثنائيات الممكنة والمحتملة من اجل جعل العبودية نموذجا امثل للحرية! أي قلب كل القيم والمفاهيم رأسا على عقب. من هنا وحدة الإغراء والإكراه الفاعلة في تنشيط الخضوع السياسي للسلطة. ومن هنا أيضا تماسك الإغراء والإكراه، أي إغراء النخبة الخربة وإكراه المجتمع.

• تقوم الدولة التوتاليتارية من الناحية البنيوية على الدمج بين السياسة والاقتصاد. وتسعى للهيمنة التام على الاقتصاد، عندما تجعل من نفسها المالك الأكبر والأوحد. هل هناك علاقة بين الريع النفطي والاقتصاد السياسي للدولة التوتاليتارية العراقية؟

لقد أشرت أعلاه إلى أن التمازج والتداخل والتوازي والترابط بين المجال الاقتصادي والسياسي في الدولة التوتاليتارية يحمل طابعا عضويا. وهو أمر طبيعي بالنسبة لها. فالدولة التوتاليتارية على اسمها، أي أنها تتصف بهيمنة فكرة الكلّ والسيطرة التامة والتحكم المطلق والقيادة الشاملة، في ظل غياب شبه تام لفكرة الإدارة الاجتماعية والمدنية. بمعنى احتلال الحزب لكل مفاصل الدولة وأجهزتها، وتحوله إلى ثكنة عسكرية بمظهر هيكل مقدس! حزب يحمل كل مكونات اللاهوت المصطنع من كتب وخطابات "مقدسة" وأجهزة مسترشدة بأوامر القائد، وقيم أيديولوجية خالصة، أي كل ما يهدف إلى تصنيع الوحدة والتمام فيها.

وبقدر ما ينطبق ذلك على دمج السياسة بالاقتصاد، فإنه ينطبق أيضا على كل مظاهر الوجود التاريخي للدولة والمجتمع. أما بروز أهمية الاقتصاد، فلأنه العامل الحاسم في حياة السلطة والدولة والمجتمع. لكن خصوصية هذا "الحسم" في الدولة التوتاليتارية تقوم في إركاع الاقتصاد أمام متطلبات ورغبات الإرادة السياسية. من هنا تحول الاقتصاد إلى وسيلة سياسية. وهو الانقلاب الخشن والمدمر الذي تنتجه الدولة التوتاليتارية. غير أنها في الوقت نفسه آلية تتعارض مع المسار الطبيعي لتطور الدولة والمجتمع والعلم والتكنولوجيا والاقتصاد، أي مع المسار الطبيعي للتقدم الاجتماعي والرفاهية الاقتصادية. الأمر الذي يحاصر التوتاليتارية بالشكل الذي يجبرها على محاصرة المجتمع، بمعنى التحكم فيه بالشكل الذي يجعل من كل شيء وسيلة لبلوغ أهدافها. وليس هناك في الواقع من هدف عندها أكثر من إخضاع الكلّ بوصفه طفلها "الرضيع"! وهي صيغة ليست رمزية فقط بل وواقعية. وذلك لأنها تسعى لإرضاع المجتمع من ثدي مصادرتها التامة للثروة والإرادة. وفي هذا يكمن سرّ الاندماج البنيوي بين المجال السياسي والاقتصادي في الدولة التوتاليتارية. أما حجمه ونوعيته فيتوقف على كمية وحجم الثروات الطبيعية ومستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والثقافي. فالجوهر واحد. انه يقوم في تكامل الهيمنة بما في ذلك على الاقتصاد بشكل عام والثروة الطبيعية والبشرية بشكل خاص.

وإذا كانت الصفة المميزة للدولة التوتاليتارية البعثية الصدامية تقوم في الهيمنة على النفط، فلأنه الثروة الكبرى القادرة على التوظيف السياسي السريع. كما أنها الثروة التي جعلت من طابعها الذاتي عين الطابع المميز للتوتاليتارية. بمعنى تحول النفط بوصفه طاقة إلى طاقة الدولة التوتاليتارية. وعكست هذه المعادلة الواقعية واقع التخلف التاريخي والاجتماعي للراديكالية السياسية العراقية، بوصفها قوة هامشية وحثالة اجتماعية. مما طبع بدوره كل الزمن اللاحق للدولة التوتاليتارية البعثية الصدامية التي تحول النفط عندها إلى طاقة "رسالتها القومية الخالدة"! أي إلى طاقة المصادرة الوحيدة والمحببة والأبدية. من هنا استعدادها لإهمال كل شيء - الدولة والأمة والروح والأخلاق والقيم والإنسان، باختصار كل شيء، بل وسحقه حالما يقف بينهما وبين النفط! هذه الشعلة الأبدية الوحيدة في توجيه رغباتها وغاياتها. الأمر الذي طبع علاقة الثروة النفطية بطابع القوة المقدسة الوحيدة!

وليس مصادفة أن يتحول النفط إلى سرّ الأسرار والسلعة الوحيدة في "إستراتيجية" السلطة الدكتاتورية. والسبب بسيط للغاية، ويقوم في الاستحواذ على الثروة الوحيدة من اجل توجيه كل شيء والتحكم به. فقد وصلت الدكتاتورية مع نمو وتراكم و"تكامل" الفشل التاريخي لمشاريعها للرجوع إلى مصادرها الأولى، مما أدى إلى كشف حقيقتها وهويتها بوصفها حثالة اجتماعية وقطيع من فصائل حيوانية ناطقة بمعايير الجهوية والفئوية التقليدية (عائلية عشائرية قبلية) وبدائية لا نظير لها! الأمر الذي جعل من الثروة النفطية بداية ونهاية "الاقتصاد السياسي" للتوتاليتارية البعثية الصدامية.

تتسم عبارة "الاقتصاد السياسي" بقدر كبير من الأبهة حال تطبيقها على واقع الدكتاتورية، لكنها تعكس الصيغة الواقعية لواقعية التخلف المريع الذي أدت إليه تقاليد الراديكالية السياسية العراقية بشكل عام والبعثية بشكل خاص. فإذا كان انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 قد أرسى أسس فكرة الخروج "الشرعي" على الشرعية وجعل الانقلاب والثورة أسلوب النمو والتقدم والحرية، فإن مكوناته الاجتماعية وأيديولوجيته السياسية كانت خميرة خربة من العسكر والحثالة الاجتماعية وفقراء المدن والريف المتخلف والنخبة المثقفة المخدوعة بأوهام الشيوعية والفكرة القومية. وليس مصادفة أن يكون صراع واحتراب الشيوعية والبعثية في العراق اقرب إلى احتراب القبائل والفصائل الحيوانية المتناحرة! لكنهما كانا يشتركان في نوعية وآلية الخطاب السياسي الراديكالي، كما نراه في موقفهما من السلطة بوصفها الإرادة المكثفة للحزب، والأيديولوجية بوصفها الكتاب المقدس للأتباع! بمعنى اشتراكهما في عبادة أصنام السلطة والأيديولوجية والإرادة "الشعبية". وما وراءها كانت تقف الرغبة الخفية للحثالة الاجتماعية ونزواتها المحكومة بقوة الغريزة وانعدام العقل الثقافي. أما الفشل المحتوم فقد كان النتيجة الكامنة في هذه المقدمات. مع ما كان يترتب عليه من تعمق وتفسخ الفكرة الراديكالية نفسها.

إذ لم يكن صعود التوتاليتارية والدكتاتورية وتوليفهما في مسخ الصدامية سوى النتيجة الحتمية لهذا الفشل التاريخي أو الصيغة الوحيدة الكامنة في انسداد الأفق التاريخي لأيديولوجية الأوهام الكبرى (الشيوعية والبعثية)، التي وجدت في النفط ملاذها الأخير. فقد كانت عاجزة من حيث المقدمات التاريخية والاجتماعية ورؤيتها للمستقبل عن تأسيس أية بدائل أخرى عقلانية وواقعية ومستقبلية.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم