قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (8)

ميثم الجنابيالمحور الثالث: النزوع التوتاليتاري في الدولة العراقية الحديثة (2)

• هل يمكننا الحديث عن "دولة صدامية"، بوصفها "رأسمالي" أوحد استطاع في نهاية المطاف فرض هيمنته التامة على الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بل وحتى البيولوجي للإنسان العراقي. هل تعود هذه الظاهرة إلى طبيعة تكوين الدولة في العراق؟

من الصعب الحديث عن وجود ظاهرة ترتقي إلى مصاف "الدولة الصدامية"، لكننا عادة ما نستعمل هذا التعبير بصورة "بلاغية" أو فنية من اجل إبراز طبيعة وسمة التطابق بين الفرد والدولة في المرحلة التي استحوذ فيها صدام حسين على السلطة والدولة والمجتمع. بحيث تبدو الدولة صدام، وصدام الدولة. كما لو إننا نقف أمام اشد النظم الملكية المطلقة. لكن الفرق يبقى جليا، وهو أن تقاليد الملوكية القديمة محكومة أيضا بتقاليدها الخاصة وأدب الملوك، بينما الصدامية محكومة بتقاليد الهامشية والحثالة!

لكننا حالما نقف على أرضية العلم السياسي والتاريخي، فإن "الدولة الصدامية" هي مجرد دكتاتورية فردية فئوية هامشية. إنها "منظومة" سلطة وقهر شامل. الأمر الذي أدى إلى ابتلاع الدولة. إذ لم توجد دولة بالمعنى الدقيق للكلمة في ظل الدكتاتورية الصدامية. وقد كان ذلك أيضا احد الأسباب الذي أدت وتؤدي إلى خلل التصوير والتعبير في تحديد معالمها بمعايير العلم السياسي! كما هو جلي في استعمالنا لعبارات "الدولة الصدامية" و"السلطة الصدامية" ما شابه ذلك. والسبب كما أشرت يقوم في طبيعة وحجم ومستوى الاستحواذ الفردي الذي قام به صدام حسين على السلطة والدولة، بحيث جعلها جزء من إرادته ورغباته الفردية. وهي حالة فريدة من نوعها في تاريخ العراق الحديث. بل أنها الحالة الوحيدة. من هنا إشكالاتها وتعقيدها النسبي.

وعندما أقول، بأن من الصعب الحديث عن "دولة صدامية"، فأنني اقصد بذلك تقييمها الشامل بمعايير فكرة الدولة العصرية. فالصدامية "مشروع" مناف لفكرة الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة. من هنا ضرورة حصر فكرة الصدامية بالسلطة فقط. وهي سلطة استطاعت في مجرى استتبابها النسبي صنع نظام توتاليتاري طغى على بنية الدولة العراقية في مجرى ثلاثة عقود من الزمن. ولم يكن ذلك معزولا عما يمكن دعوته بانحرافات التجربة البعثية في الوصول إلى السلطة منذ عام 1963. والحصيلة أربعة عقود من فقدان الحكمة توجت بخراب شامل وانحطاط تام واحتلال أمريكي للعراق. ففي هذه النتيجة تتبين حدود ومدى انحلال الدولة.

مما سبق استطيع القول، بأن نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق كشفت عن أن "الدولة الصدامية" ليست دولة. لقد انحلّ فيها كل شيء وتلاشى، باستثناء بقاياها الخربة في كل شيء. ولم تكن هذه النتيجة بدورها معزولة عن "المشروع البعثي الاشتراكي" بوصفه مشروع الهامشية الراديكالية.

فقد أدت الراديكالية السياسية التي جرى رفع شعاراتها وأساليبها بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 إلى مصاف الصيغة "الشرعية الوحيدة"، إلى قطع التاريخ الطبيعي لتطور الدولة العراقية الحديثة. بعبارة أخرى، إن "الدولة الصدامية" هي جزء من خراب الفكرة الراديكالية. وبالتالي لا علاقة لها بأصل الدولة العراقية الحديثة. على العكس إنها نفي لتراثها وتراكمها التاريخي، الذي لم يخل بدوره من ضعف بنيوي ونواقص، شأن كل دولة في مراحل تطورها الأولى. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى ضعفها التاريخي الأول.

إن "الدولة الصدامية" هي ذروة الانقطاع التاريخي عن التاريخ الطبيعي للدولة في العراق. كما أنها الصيغة الأكثر تطرفا وغلوا وابتذالا للفكرة الراديكالية، أي تلك التي جمعت بين راديكالية الفكرة القومية والفكرة الاجتماعية. وفي هذا يكمن تناقضها وتكاملها مع الفكرة الشيوعية (راديكالية "أممية" واجتماعية). بمعنى أن سلوك كل منهما محكوم بنفسية وذهنية "المواجهة" و"التحدي" للآخر في كافة الميادين. وبالتالي لم يكن تحول "الدولة الصدامية" إلى رأسمالي أوحد سوى الصيغة البعثية للفكرة الشيوعية أو النموذج الاشتراكي (السوفيتي)، ولكن من خلال التبجح أيضا "بحسنات بعثية" هنا وهناك! فعندما نتأمل مراحل ونماذج تكامل أساليب الاستحكام والتحكم بالثروة والمجتمع والثقافة والفرد التي قامت بها "الدولة الصدامية"، فإن من السهل رؤية صدى ومدى "الاستفادة" من التجربة "الاشتراكية العالمية"، بل و"التفوق" عليها. وقد وجد ذلك صيغته اللاحقة في "تكامل" الهيمنة المطلقة للدولة ثم السلطة ثم الحزب ثم صدام. بمعنى اختزاله في مجرى استحكام وتشذيب أدوات السيطرة ومصادرة الثروة العامة والخاصة في شخص واحد، أي "تكامل" الدولة في شخص واحد. وهو الوجه الآخر لانحلال الدولة وتلاشيها. الأمر الذي جعلها تتعارض تعارضا تاما مع فكرة الدولة كما هي، ومع أصول الدولة العراقية الحديثة أيضا. لكنها تسير بصورة "متجانسة" ضمن سياق تقاليد الراديكالية السياسية.

• أدت الوفرة المالية واستحواذ الجماعات القبلية على الثروة النفطية إلى إعاقة النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع. وبالمقابل "تكاملت" دولة شديدة المركزية. كيف نفسر العلاقة بين هذا النمط من الدولة والتمركز السياسي للجماعات الطائفية في السلطة؟ وكيف استطاعت الدولة البعثية الصدامية إنشاء نظاما اقتصاديا سياسيا فريدا هو "رأسمالية القرابة" و"طبقة العشيرة"؟

إن خصوصية الدولة العراقية الحديثة تكمن في تراكمها البطيء الذي جرى في الوقت نفسه ضمن تيارات راديكالية جارفة. مما جعلها على "مهب الريح" في مجرى عقود من الصراع العنيف. بحيث كسر في نهاية المطاف عودها الطري.

فقد كانت الدولة العراقية الحديثة نتاج "مؤامرة" إقليمية ودولية تعكس أولا وقبل كل شيء ضعف العراق عند بداية القرن العشرين وتخلفه المزري. وبغض النظر عن كل ما يقال في وضعه "الآخذ بالنمو" أواخر المرحلة العثمانية، إلا انه كان يعاني من "سكرة الموت" التاريخي. والشيء الوحيد الحي فيه كان يقوم في إمكانية تجديد ذاكرته على أساس ذكرياته القديمة. ولا مجاز في هذه العبارة. فتاريخ الأمم ذكرى وذاكرة وذكريات. وحالما يجري وضعها في منظومة الحاضر والرؤية المستقبلية، عندها تصبح الخطوات الواقعية معقولة بمعايير الماضي والمستقبل. لاسيما وانه الشرط الضروري لبلورة الرؤية المعتدلة ومنظومة القيم العقلانية، بما في ذلك في ميدان العلاقات السياسية. وكان من الممكن أن تنمو وتتقوى وتتوسع وتغرس جذور هذه المنظومة أو المنظومات في تربة العراق الحديث لولا كمية النواقص التي جرى رفعها إلى مصاف "الفضيلة" السياسية، كما نراها في ظاهرة الصعود المفاجئ وغير التاريخي (غير الطبيعي) لمختلف نماذج الراديكاليات السياسية المصطنعة. عندها تحول كل شيء إلى جزء من معترك الأحزاب والسياسة المغامرة، أي كل ما انتهى إلى انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958.

وأدى ذلك أيضا إلى إبعاد الفكرة التاريخية ووعي الذات القومي عن جذورهما الخاصة. فإذا كان العراق عند تخوم القرنين التاسع عشر – العشرين يفتقد إلى فكر النهضة والإصلاح، فإن قفزته السريعة صوب راديكاليات القرن العشرين الأوربية قد افسد على قواه السياسية بصورة تامة إمكانية الرؤية الواقعية والمستقبلية. بحيث أدى إلى نوع من القطيعة ما زال أثرها فاعلا وقويا في وعيه الذاتي بشكل عام والسياسي والوطني والقومي بشكل خاص. أما التيارات والأحزاب السياسية "العراقية" و"العربية" و"الطبقية" فإنها تخلو من حيث الجوهر من الأبعاد الفعلية والحقيقية للفكرة الوطنية والقومية والاجتماعية. وليس مصادفة أن يغلب على وعيها السياسي سذاجة الرؤية واليقين الإيماني العقائدي وابتذال الشعارات الرنانة وانعدام الشعور الإنساني.

وهنا كانت تكمن المقدمات الخفية لطبيعة الانقطاع التاريخي في العراق عن التاريخ. وعادة ما تكون الدولة ميدان التأثير المدمر لهذه الظاهرة الخربة. وذلك لأن الانقطاع التاريخي عن التاريخ الذاتي والاستعاضة عنه أو ملئه بأوهام أيديولوجية ينخر بالضرورة كل مكونات وإمكانيات الوجود الطبيعي للأمم والدولة، أي تكاملهم العضوي والتاريخي. من هنا تحول كل شيء إلى أداة عابرة وجزئية. مع ما يترتب عليه من سيادة ما يمكن دعوته بنفسية وذهنية المساعي المحمومة للسيطرة والتحكم والهيمنة، باختصار إلى إثارة كل كوامن وكمائن الغرائز البهيمية. من هنا إمكانية تحول الدولة أيضا إلى ميدان أو إطار الهيمنة الشاملة عبر دمج فكرة الدولة بالهيمنة والسيطرة والمصادرة، أو رفعها إلى مصاف القوة الوحيدة المالكة لشرعية التحكم الشامل بكل شيء. وهي فكرة اختمرت في مجرى زمن مديد من نمو المنظومات النظرية والعملية للراديكاليات السياسية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى التخلف الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي العام للعراق في النصف الأول من القرن العشرين، فمن الممكن توقع سهولة انتشار هذا النمط من الذهنية والنفسية اللاهوتية.

فالفكرة الراديكالية السياسية من حيث الجوهر هي فكرة لاهوتية مقلوبة. لهذا عادة ما تتقبل بسهولة وإعجاب نموذج الإله الوحيد القادر العادل الحي الفاعل المميت المحي الرازق الصادق في كل ما يقول ويفعل، بعد إسباغه على الحزب أو أئمة الأيديولوجية "الثورية" أو القادة. وكلما يكون التيار أكثر تخلفا من حيث أسسه الاجتماعية والثقافية كلما تكون فكرة الاستحواذ والهيمنة اشد قبولا للغرائز التقليدية. فالبنية التقليدية لا عقل نقدي فيها ولا ضمير اجتماعي. وحالما تتحول الغريزة إلى فكرة سياسية وأيديولوجية "متسامية" ومصاغة بقوالب "الوطنية" و"القومية" و"الطبقية" و"الإلهية" وغيرها، عندها تصبح العبودية الملاذ الأخير والوحيد للحرية والعدالة!! أي يجري قلب الأمور كلها رأسا على عقب والتلذذ بهذا الانقلاب على انه الصيغة "المستقيمة" للأشياء ومرتع الحقائق الأبدية! وليس تحول فكرة الهيمنة المطلقة للدولة من اجل بلوغ "الأهداف الكبرى" وتجسيد "المشاريع التاريخية العظمى" و"تحقيق الرسالة الخالدة" للطبقة أو القومية في "امة واحدة" أو "وطن حر وشعب سعيد" وما شابه ذلك سوى احد نماذجها الأكثر سخافة والأشد ابتذالا والأكثر إثارة لجذل أتباعها ويقينهم التام بعصمة هذه الشعارات الجوفاء.

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام تقاليد أيديولوجية صماء في سمعها واستماعها للتاريخ، وعمياء في نظرتها للمستقبل، وعصماء في يقينها الجازم بما تقول. الأمر الذي جعل من فكرة هيمنة الدولة مجرد "مبدأ" من مبادئ هذه الرؤية الراديكالية الأيديولوجية الحزبية. إنها تنعم بخيلاء الرؤية الحالمة عن إمكانية استعمال الثروة والقوة من اجل "تحقيق" أهدافها. أما في الواقع فإن كل ما تقوم به لا يتعدى استعادة أو استظهار الغرائز التقليدية. وإذا كانت هذه الحالة قد ارتبطت من الناحية التجريبية المباشرة بصعود حزب البعث إلى السلطة، فلأنه مجرد نتاج "القرعة" التي لازمت "انتصاره" في أحداث الانقلابات العسكرية (1963، 1969)، أي قرعة الفوز الناتجة من عمليات المغامرة والمقامرة الحزبية. وليس مصادفة أن يؤدي صعود البعث (والشيء نفسه كان يمكن قوله عن الشيوعيين أو أية قوى راديكالية أخرى آنذاك) إلى تضافر وتكامل الهامشية والفئوية والطائفية السياسية، أي هذا الثالوث الباطني للضعف الاجتماعي والتاريخي الكامن في التيارات الراديكالية السياسية.

وليس مصادفة أن يكون انحدار البعث والسلطة الصدامية صوب القوى الهامشية والفئوية والعشيرة، أي البنية التقليدية ملازما لها زمن "الانتصار" والهزيمة. فهو الوجه الفعلي لحقيقة الراديكالية السياسية. إذ ليست الصدامية في الواقع سوى التعبير النموذجي عن الهامشية الاجتماعية والفئوية والبنية التقليدية، أي أيديولوجية الريف المتخلف والملقح بأنصال العصابة المغامرة. فقد كان وصولها إلى السلطة حلقة من حلقات المغامرة والمقامرة التي لازمت حزب البعث من نشوئه في العراق حتى اندثاره المخزي. وتمسكها بالسلطة والأدوات التي جرى استعمالها من اجل ديمومتها هو تعبير عن نفسية وذهنية العصابة.

إذ لا شيء في السلطة الصدامية لغير السرقة والابتزاز. وكل ما كانت تقوم به تجاه "المجتمع" شبيه بما يقوم به مالك الخراف تجاه قطيعه، أي سلوك الهبات الفرحة. بينما كانت تختبئ في كل هبة طلقة مكتومة. ومجمل هذه الحالة العامة ومختلف جزئياتها لا يمكن أن تفعل إلا في اتجاه إعاقة التطور الاقتصادي. بل إنني أجد صعوبة في الحديث عن "اقتصاد" بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. والأدق الحديث عن تبذير للثروة المنهوبة والمصادرة تحت شعار "التأميم" وما شابه ذلك من اجل الاستحواذ التام على الثروة والبشر. إذ لا يمكن للاقتصاد السياسي أن يفعل بوصفه منظومة مصالح اجتماعية ديناميكية تحت ثقل أيديولوجية متخلفة وفاقدة لكل الأبعاد الاجتماعية والحكومية والدولتية والقومية الحديثة.

فالأيديولوجية البعثية بشكل عام لا تفقه شيئا في قضايا الاجتماع والدولة والأمة. أما الصدامية فهي أيديولوجية الريف المتخلف والمتحلل والمستعد على توليد الجريمة. إنها لا تعرف ماهية الإنسان والمجتمع. كما أنها غريبة ومغتربة عن ماهية الدولة والتقدم الاجتماعي. وهي أمور كان يمكن رؤيتها على مثال صدام نفسه وأهله وأقاربه وحاشيته وخدمه وحشمه ومرافقيه وقيادته القطرية والقومية، باختصار في كل الصور الواقعية والمحتملة القائمة فيما يمكنه أن يكون مرآة مصغرة لما يريد ويرغب به، أي لكل ما هو كائن فيه ومستعد له. من هنا مظاهر "مركزية الدولة" الخشنة. وهو تعبير ليس دقيقا. فالسلطة الصدامية أنتجت مركزية سلطة متخلفة لا علاقة لها بمفهوم الدولة الحديثة. بعبارة أخرى، إن ما كان في زمن الصدامية ليس دولة بل سلطة عصابة تحكم الدولة. وليس مصادفة أن يكون رجوعها إلى العشيرة والقبيلة أمرا حتميا. وذلك بسبب طبيعة الترابط بين الراديكالية البعثية وما أسميته بالثالوث الباطني للضعف الاجتماعي والتاريخي الكامن في التيارات الراديكالية السياسية، أي في تضافر الهامشية والفئوية والطائفية السياسية. فهي المكونات التقليدية الكامنة في الأحزاب الراديكالية.

فالشعارات الراديكالية مجرد غلاف لبنية تقليدية. والسلطة ليست بحاجة إلى أوهام لأنها تفعل بمعايير ومقاييس أخرى. وحالما يجري اختبارها فإن التمازج "الحي" والفعال للبنية التقليدية والزيف الأيديولوجي يصبح من "مقدسات" الملكية الجديدة. وهو ما حدث في عراق المرحلة الصدامية بصورة تامة. من هنا آلية الرجوع "المنظم" إلى مختلف مظاهر وأشكال البنية التقليدية، أي إلى مختلف أساليب ونماذج ما قبل التاريخ العراقي الحديث. بمعنى الانتقال أو بصور أدق الرجوع من الدولة إلى القبيلة على عكس ما جرى في دول الخليج العربية – من القبيلة إلى الدولة. أما "رأسمالية القرابة" و"طبقة العشيرة" فهي مجرد صيغة بلاغية "جميلة" لواقع قبيح!

فحالما ننظر إلى هذه الظاهرة بمعايير العلم التاريخي والسياسي الدقيق، فإن تفسيرها يقوم فيما أشرت إليه أعلاه، أي أن أسباب هذا التحول الغريب أو بصورة أدق النكوص المخزي تكمن في سيادة الراديكالية السياسية التي جعلت من الممكن وصول الهامشية والحثالة إلى السلطة بوصفها غنيمة. مع ما ترتب عليه من إفراغ السياسة من مضمونها الاجتماعي وخضوعها للقانون. حينذاك لم تعد السلطة والدولة شيئا غير ميدان المغامرة والمقامرة. أما الاستحواذ على كل شيء فهو مجرد "حق" من حقوقها فقط! أي كل ما أدى إلى إنشاء "نظام اقتصادي سياسي فريد" أو بصورة أدق إلى جعل الفوضى "قانون" الدولة والسلطة والمجتمع والفرد.

• شكلت الثروة النفطية أداة لإعادة إنتاج التمايز الاقتصادي وصنع نوع جديد من الاصطفاف الاجتماعي. كيف استطاعت الصدامية إعادة إنتاج هذا الاصطفاف الاجتماعي وربطه بالدولة؟

كان النفط وما يزال من الناحية الظاهرية القوة الكامنة وراء احتراق الأمزجة السياسية للقوى المتصارعة داخل العراق وخارجه، كما كان يدفئ رغباتها الغريزية في حال تأمل تربعها بين مشاعله اللامعة في أضواء الأموال القادمة!

فقد كان النفط أيضا وراء الانقلابات العسكرية، والمشاريع "الوطنية" و"القومية". بمعنى أنهم جميعا كانوا محكومين بفكرة الاستيلاء على الثروة (النفط). وهذه بدورها ليست إلا جزء أو مظهر من مظاهر النفسية الراديكالية والمصابة بهوس المصادرة والاستيلاء على الثروة وليس إنتاجها. إذ تنبع هذه النفسية من بنية الذهنية التقليدية والتخلف المعنوي والفكري والثقافي والمنهجي للأحزاب السياسية، التي فتح انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 الأبواب أمام أهوائها الخربة. فقد كانت هذه القوى وما تزال تعتقد بأن المال صانع العجائب! وهي حقيقة جزئية. لكنها حالما تصبح جزء من العقائد السياسية، حينذاك تتحول إلى أداة طيعة وقاسية في تخريب التاريخ الطبيعي لارتقاء الدولة والمجتمع. أما النتيجة فهي تحول الأحزاب "الثورية" إلى عصابة مرابين! مع ما يترتب عليه من إلغاء المجتمع المدني، واضمحلال البنية الاجتماعية للدولة، وسيادة القهر والإرهاب المنظم، وتحييد الفرد والجماعات عن الاشتراك المباشر والفعال في إدارة شئون الدولة والمجتمع، والوصاية التامة للسلطة على كل شيء، واغتراب المرء الفرد والجماعة وتحولهما إلى ذرات متناثرة في هشيم الدسائس الصغيرة والسعاية الفرحة بنجاة أصحابها، واضمحلال فكرة المصالح الكبرى والخير العام، وانتشاء سلطة بنشوة تربعها فوق القانون والحق والمسائلة، مما يجعل منها واهبة الرحمة والعطاء والهبات، ومجتمع بلا ضرائب، باستثناء ضريبة الخضوع التام للسلطة!

أدت هذه الحالة المتراكمة في مجرى سيطرة السلطة الصدامية إلى تشويه التمايز الاجتماعي والاقتصادي. ودفع صوب حالة تتصف بالقسوة والغرابة. إذ لم يكن هذا التمايز نتاجا لتنافس اجتماعي أو مبنيا على أساس العمل المنتج، بل على أساس التقرب من السلطة. مما أدى بدوره إلى إنتاج تمايز اجتماعي من نوع غريب أيضا اقرب ما يكون إلى اصطفاف الفئات المغلقة. ومع كل تمركز للسلطة ازداد هذا التمايز على أساس ثنائية الاقتراب والابتعاد عن السلطة.

وغرابة التشوه الهائل بهذا الصدد لا تقوم فقط في انقلاب المفاهيم والشعارات المعلنة والأيديولوجية التي يجري الدعاية لها ليلا نهارا، بقدر ما تقوم في تحول فكرة المركز إلى فكرة السلطة. إذ لا شيء غير السلطة! والسلطة تعني كل شيء! لكنها أولا وقبل كل شيء ملكية الحاكم لكل شيء! لقد أدت هذه العملية إلى جعل السلطة معيار كل شيء. من هنا "انتظام" الخراب في البنية الاجتماعية. وذلك لأنه جعل من السلطة "نخبة" قائمة بحد ذاتها، ومن المجتمع قطيعا من العبيد. ولم يكن ذلك معزولا عن المقدمات الكامنة في الراديكالية السياسية العراقية، بوصفها مغناطيس الحثالة الاجتماعية والقوى الهامشية. وهي قوى ترتبط في وعيها ولاوعيها فكرة الثروة والمال بتراث التقاليد القبلية والصحراوية والهامشية التي جرى نقلها إلى السلطة، مع ما ترتب عليه من انتقال الأطراف بكل مكوناتها إلى المركز. مما أدى بدوره إلى تخريب دائم لفكرة المركزية والنخبة والمجتمع المدني. ومن ثم تفتيت القيم الاجتماعية والإنسانية والوطنية. إنها جعلت من الهامشية نخبة، ومن النخبة عبيدا، بمعنى قتلها الجميع. وأصبحت هي أيضا أسيرة هذه الحالة الخربة. وكل انهماك فيها هو تخريب للكلّ الاجتماعي. وهي حالة متحركة لكنها أشبه بحركة الموتى! أي أن الثابت فيها هو التفسخ الدائم. لهذا من الأدق القول، بأن الصدامية لم تربط المجتمع والأفراد بالدولة، بل بالسلطة.

لقد جعلت من السلطة مركز كل شيء مع ما ترتب عليه من تصنيف غريب وتمايز اجتماعي اغرب منه، مبني على ما يمكن دعوته بثنائية الاقتراب من السلطة والابتعاد عنها بوصفه معيار وأداة التمايز الاجتماعي والاقتصادي للصدامية. أما النتيجة فتقوم في تحويلها السلطة إلى مركز وبؤرة وأداة وغاية كل فعل، بحيث صدمت (هذه الصدامية) كل شيء بما في ذلك في غرابة صنعها للتمايز الاجتماعي والاقتصادي!

• انشأ صدام حسين أحد اغرب الأنظمة التوتاليتارية الشعبوية من خلال تفكيك القطاع الخاص وتدمير الطبقة الوسطى. هل يمكننا القول أن صدام حسين يجسّد المثال المتطرف لما يمكن دعوته بالتوتاليتارية النفطية؟

إن عبارة "التوتاليتارية النفطية" تبدو بريئة رغم عدم دقتها. فهي تجمع بين فكرة سياسية وثروة طبيعية. والنفط بحد ذاته مادة "حيادية" شأن كل المواد والثروات الطبيعية. غير أن غرابة النظام التوتاليتاري الصدامي قد تكون من بين خصائصه المميزة و"الفريدة". وذلك لأنه استطاع بالفعل إرجاع العراق إلى حالة مزرية ومتخلفة من خلال تجنيد وتجيش الثروة الوطنية! فالمعروف، والمميز للنماذج التوتاليتارية الكبرى هو عنفها المنظم في تجنيد وتجييش المجتمع والثروة والطاقات المادية والمعنوية والتراث والتاريخ والمستقبل من اجل بناء تجسيد مشاريعها و"بدائلها الكبرى". وحميتها المفرطة بهذا الصدد عادة ما تؤدي إلى إبادة النفس من خلال استنفاذ الطاقة الذاتية للأمة أو المجتمع بدون رحمة ورأفة. من هنا ملازمة الحرب لها على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

وقد لازمت هذه الصفة الصدامية حتى نهايتها المخزية. بمعنى أنها لازمت زمن السيادة المطلقة للفكرة الراديكالية. والراديكالية السياسية العراقية شعبوية من حيث مكوناتها الاجتماعية وجذورها الثقافية ومكوناتها النفسية وذهنيتها التقليدية. فهي لا تخص البعث والصدامية، وذلك لأن جذورها الأيديولوجية تكمن من الناحية التاريخية في انتشار وسيادة الفكرة الشيوعية. والبعثية "شيوعية" قومية من حيث الجوهر، أي من حيث جوهرية الأيديولوجية وتسطيح الوعي ويقينها الجازم. والشيء نفسه ينطبق أيضا على بنيتها التنظيمية ورؤيتها للأمور والمواقف العملية. والاختلاف في مظاهر الشعارات. ومن الممكن رؤية ذلك بوضوح فيما يتعلق بالشعبوية. فكلاهما ينطلقان ويعتمدان على فكرة وشعار "الإرادة الشعبية". وهي فكرة مزيفة وشعار فج. وذلك لأنها لم تعن من حيث الواقع والفعل سوى مصادرة "الإرادة العامة". كما أنها مصادرة غير مبنية على أساس الاختيار الحر والديمقراطي، بل على أساس اليقين الأيديولوجي عما يسمى "بالحق التاريخي". بل والانسياق الأعنف بهذا الاتجاه بعد وضعه ضمن سياق "الحق الثوري"! وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى الطابع التقليدي للبنية الاجتماعية العراقية في كل تاريخه الحديث والمعاصر، فمن الممكن توقع قوة وعنف الفكرة الشعبوية وآثارها المدمرة على فكرة الحداثة والتطور الطبيعي للمجتمع والدولة. لهذا لم يكن تاريخ العراق بعد الرابع عشر من تموز 1958 وحتى الآن سوى زمن العنف المتزايد للشعبوية، التي يمكن اعتبار الصدامية ذروتها. أن قرنا من تاريخ العراق الحديث تتقاسمه خمسة عقود من التراكم الطبيعي لفكرة الدولة والمجتمع المدني والثقافة بما في ذلك السياسية، بينما شكلت العقود الخمسة الثانية منه الوجه المعاكس أو المدمر لما جرى تراكمه ووضعه في بنية المجتمع والدولة والثقافة.

وليس مصادفة أن يكون الخطاب الشعبوي الأكثر انتشارا في العراق حتى الآن. والسبب لا يقوم في كمية ونوعية الخراب فحسب، بل وفي "منظومة الخراب" التي لازمت الفكرة الراديكالية السياسية والشعبوية منها بشكل خاص. فالخطاب الشعبوي يعكس من حيث حجمه وتأثيره حجم وكمية الهامشية والحثالة الاجتماعية. وبالتالي لم يكن صعود الصدامية وسيادتها الشاملة سوى الوجه الآخر لما أسميته بمنظومة الانحطاط. فالقبول بالصدامية هو الوجه الآخر للانحطاط المادي والمعنوي للفرد والجماعة والمجتمع والثقافة والدولة. وذلك لأن الشعبوية الصدامية هي اشد النماذج انحطاط وتخلفا للشعبوية. وليس مصادفة أن يلازمها سيل التدمير الشامل لكل منظومة، باستثناء "منظومة" العنف والإكراه، أي جهاز وأدوات التخريب المادي الروحي للدولة والمجتمع والفرد.

وبما أن العمود الفقري للمجتمع المعاصر الحي والاقتصاد الديناميكي والفكر العقلاني والواقعي وحقيقة الحرية مرتبط بالطبقة الوسطى واستقلالها عن هيمنة وسيطرة السلطة، من هنا أصبح تفكيك القطاع الخاص الأسلوب المناسب، بحكم قيم الأيديولوجية الشعبوية، الأسلوب المحتوم لتدمير الطبقة الوسطى. وإذا كان غلافها الأيديولوجي مصبوغ بلون "الاشتراكية" البعثية وليس "الشيوعية"، فأنه مجرد نتاج القناعات الشخصية والحزبية بأحد أنواع ما يمكن دعوته باشتراكية العصابة! وهي المأساة التي تعرض لها العراق وجعلت قرن من الزمن زمنا هباء. بحيث يقف من جديد أمام أولويات فكرة الدولة والمجتمع والحرية، أي كل ما جرى تجاوزه منذ زمن طويل على انه جزء من بديهيات الوجود الطبيعي للدولة والأمة المعاصرة.

طبعا إن ذلك لم يكن معزولا عن الضعف النسبي للطبقة الوسطى العراقية قبيل انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. لكنه ضعف طبيعي. فالتراكم الاقتصادي والاجتماعي لم يبلغ الدرجة التي كان يمكّنه من إنتاج أفكاره السياسية وتنظيماته المدنية. بينما أهدرت الفكرة الراديكالية وتقاليدها السياسية الحزبية هذا الكم الأولى وحولته إلى ذرات متطايرة عن أحذية الريف المتهرئة والمندفعة شأن جراد الصحراء صوب نبتات المدنية الحديثة. من هنا إمكانية وسرعة تآكل الطبقة الوسطى. إذ لم تستطع الانتقال من حالتها الأولية بوصفها أعشاب المجتمع المدني إلى نخيل العراق التاريخي.

إن الطبقة الوسطى العراقية لم تبلغ حد التحول الاجتماعي إلى طبقة سياسية. لقد قطع انقلاب الرابع عشر من تموز هذا التراكم الطبيعي، وجعل من هجوم الفئات الرثة والهامشية موجة هوجاء سحقت كل ما كان يقف أمامها. فقد كان العراق الملكي يمر بمرحلة تراكم طبيعي تاريخي. بمعنى انه لم يبن على أساس "السلعة الذهبية" بل على أساس العمل الاجتماعي. أما الراديكالية السياسية فقد جعلت من فكرة الانقلاب و"الثورة" المضمون الوحيد للسياسة. ثم جعلت من السياسة القوة السحرية الوحيدة. وهي سياسة لا علاقة لها بالفكرة الاجتماعية وفكرة الدولة والأمة. بل مجرد قيم أيديولوجية. من هنا احتراب القوى "السياسية" فيما بينها بصورة دموية عنيفة. مما أدى إلى وضع جدار الصمت والغباء والجهل والعنف والإكراه والريف المتخلف والمتحلل أمام العقل الاجتماعي. وبالتالي أغلق حتى بصيص الفكرة الإصلاحية والنظام والحقوق المدنية. وقد كان صدام النتاج "الطبيعي" لهذه الحالة وهذا المسار وليس نتاجا طبيعيا للعراق. على العكس إن الصدامية بوصفها احد النماذج المتطرفة والمشبعة بقيم الراديكالية تعكس حالة الضياع الشاملة للبنية التقليدية الريفية المتخلفة والمتحللة. من هنا انقلاب الأوهام إلى يقين، شأن تحول الخوف والجهل إلى احد أهم مصادر اليقين في إيمان العوام!

إن الصدامية ليست نتاجا طبيعيا للعراق بل خروجا على تاريخه الطبيعي الذي جسدته ومجدته وتنعمت به وتلذذت بخرابه الفكرة الراديكالية وتقاليدها الحزبية!! ذلك يعني أن الصدامية هي المسخ غير الطبيعي للتحول الذي جرت الإشارة إليه أعلاه. أما ارتباطه بالنفط فهو مجرد حالة عرضية ومصادفة تسيء إلى سلعة النفط! طبعا إننا نستطيع استعمال عبارة الصدامية بوصفها "أنموذج التوتاليتارية النفطية" لكنها تبقى مجرد عبارة بلاغية. وقد يكون من الأدق بهذا الصدد القول، بأن الصدامية هي أنموذج لحريق النفط وغازاته السامة في الوعي السياسي الراديكالي! فالصدامية هي أيديولوجية العبودية المطلقة التي عادة ما تؤدي إليها الراديكالية السياسية المتخلفة.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم