قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (9)

ميثم الجنابيالمحور الثالث: النزوع التوتاليتاري في الدولة العراقية الحديثة (3)

• ما هو الدور الذي لعبته الثروة النفطية في تفتيت الوحدة الاجتماعية للعراق وظهور الأيديولوجية البعثية الصدامية بوصفها قوة مهولة بعد استيلاءها التام والكامل عام 1973 على هذه الثروة؟ خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار إمكانية هذه الثروة في "تحرير" الدولة من ضغط القوى المعارضة وبالتالي شل حركتها وقدراتها على تعبئة المجتمع حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إن إحدى مفارقات التاريخ العراقي الحديث تقوم في انقلاب المفاهيم وإمكانية "انحراف" الكلمة ومقوماتها المنطقية، أي انحراف وخلل معناها الذاتي. بحيث أصبح من الممكن أن تكون ثروة الدولة والمجتمع وسيلة "للتحرر" من المجتمع!! طبعا إن المقصود بذلك هو أن السلطة أصبح بإمكانها المراوغة والعمل بالشكل الذي يخفف عنها ثقل التفكير الجدي في البحث عن حلول واقعية ومستقبلية للمشاكل الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة. وذلك عن طريق توظيف الأموال بالشكل الذي يجعل من المجتمع أطفالا يرضعون من لبنها الفاسد! وأغرب ما في الأمر أن تعكس هذه الصيغة "الأدبية" بصورة عميقة انعدام الأدب الفعلي للسلطة والدولة والمجتمع بقدر واحد. "فالتحرر" من المجتمع يعكس بقدر واحد إشكالية فكرية ثقافية اجتماعية سياسية. لكنني سأتناول هنا فقط ما يتعلق منها بموضوع الحوار. بمعنى ربطها بتقاليد الراديكالية السياسية العراقية.

فالراديكالية بطبعها لا تحترم المجتمع ولا التاريخ ولا الثقافة ولا الفرد. الأمر الذي جعل منها على الدوام إرادة متحررة من العقل والرؤية المستقبلية. من هنا تطابقها مع فكرة وسلوك قلع جذور الوجود التاريخي للأمم، بوصفها المقدمة الفكرية والسياسية والأيديولوجية للراديكالية السياسية بشكل عام والبعثية الصدامية بشكل خاص. أما ارتباطها بالنفط كما أشرت إلى ذلك في أكثر من موقع، فإنه ارتباط ليس عضويا، بل مجرد مصادفة. فالسؤال الجوهري ليس في النفط وفي "الريع النفطي" وما شابه ذلك، بل في الأسباب القائمة وراء ظاهرة تحول الثروة إلى وسيلة وأداة "تحرر" السلطة من التزامها الاجتماعي. والإجابة عليه واضحة ألا وهي أن السبب ليس في الثروة بذاتها أو بحد ذاتها، بل في كيفية استعمالها. أما كيفية استعمالها فمرتبط بالفكرة السياسية والنخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وإذا كان تاريخ العراق السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين هو زمن السيادة التامة والمطلقة للراديكالية السياسية والفكرة الأيديولوجية من هنا سيادة الأحزاب السياسية الراديكالية. وهو السبب القائم وراء الجهل شبه التام والمطبق لماهية السياسة الاجتماعية عند الأحزاب والنخب. طبعا إنني استعمل كلمة وعبارة النخب بالمعنى "العراقي"، كما نطلق كلمة "نظيف" على احد الأمكنة الوسخة، عندما نقارنه بمزبلة عفنة جدا إلى جانبه!

فاغلب الأحزاب السياسية العراقية ونخبها لا تفقه شيئا في العلم السياسي. والسياسة بالنسبة لها "عمل" حزبي فقط وليس علما. ومن ثم فأنها لا تفهم قيمة السياسة وأهميتها بالنسبة لإدارة شئون الدولة والمجتمع. إنها تفهم من السياسة معنى "القيادة" فقط. وتعكس هذه الرؤية أولا وقبل كل شيء بقايا وسيادة النفسية والذهنية التقليدية. وضمن هذا السياق بمكن فهم استفحال ممارسة وسلوك إحباط المعارضة بوصفها القيمة الكبرى للسلوك "السياسي" للسلطة بل وهدفها الأكبر. وهي صفة جميع القوى الراديكالية، كما أنها مفارقة وجودها في السلطة.

إن القوى الراديكالية ضرورية بالنسبة للمجتمع والمنظومة السياسية للدولة ولكن بوصفها قوة هامشية وعلى ضفاف المجرى العام للتاريخ السياسي للدولة والأمة. لكنها حالما تنتقل إلى المركز، فإنها تسحب الجميع صوب هاوية الخراب والموت. بحيث يصبح كل فعل من أفعالها "حقا" وكل ما تطرقه "صراطا مستقيما" بحيث تجبر الجميع على خوض المسار من اجل بلوغ كعبة أحلامها. أما حقيقة أحلامها فهي أضغاث أوهام. لكنها أوهام راديكالية، أي الأشد عنفا وسقما للروح والجسد الاجتماعي. من هنا يقينها الجازم وسعيها "المستقيم" في تحريم وتجريم كل ما لا يتلاءم مع تصورتها وأحكامها. وبما أن تصوراتها وأحكامها جزء من أيديولوجيا الأوهام، من هنا قسوتها غير المحدودة في قمع كل ما يقف أمامها بوصفه "حجر عثرة" ينبغي رميه على قارعة الطريق أو سحقه بوصفه شيئا لا قيمة له.

يعكس تحول القوة الراديكالية السياسية الحزبية إلى حاملة الحق والحقيقة الوحدة الممسوخة لبقايا الذهنية اللاهوتية والتقاليد القبلية والعائلات المغلقة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صعودها للسلطة قد جرى في ظل تحلل مكوناتها الاجتماعية وهوس الأوهام الأيديولوجية المميز لمرحلة "النهوض الوطني" و"التحرري" و"القومي"، من هنا انقلاب المفاهيم والقيم وطبيعة الأشياء، ومن ثم كيفية وحجم تطويع كل ما يمكنه أن يخدم حالة التحلل المغلّفة بقيم الأوهام الأيديولوجية. وضمن هذا السياق يمكن فهم سرّ تحول الثروة النفطية إلى بؤرة الاهتمام السياسي للأحزاب. ومن هنا أيضا تحول فكرة تأميم الثروة النفطية إلى أسلوب "تأميم" الفكرة الوطنية والقومية والاجتماعية. بمعنى تحول فكرة التأميم إلى أسلوب مصادرة الإرادة الاجتماعية والرقابة والمشاركة السياسية. وهنا تكمن إحدى مقدمات الاستعمال السيئ للثروة النفطية. ومن ثم تحول الشعار السياسي إلى "تحقيق" للقيم الأيديولوجية. وبالتالي تحول الحقوق الوطنية والقومية إلى "انجاز" سياسي حزبي. الأمر الذي عمق بدوره مكونات النفسية والذهنية التقليدية. مع ما ترتب عليه من إنتاج اشد النظم السياسية خروجا على الفكرة الاجتماعية والوطنية والقومية والحق والتقدم الاجتماعي. وذك لأن المصادفة التي رفعت خليط الهامشية السياسية والحثالة الاجتماعية إلى سدة الحكم جعلت من الريف المتحلل والصحراء الميتة مركزا اجتماعيا وثقافيا "للسياسة"! وهي الحالة التي قلبت الأمور كلها رأسا على عقب.

فالانتقال إلى المركز جرى من خلال الفعل الحزبي المغامر وليس عبر معاناة الصعود الاجتماعي الطبيعي والتاريخي (الإنتاج، والارتقاء إلى مصاف الطبقة الوسطى) ثم الاشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية. مما أدى بدوره إلى تفتيت المجتمع والجماعات والفرد. فهي العملية التي أدت إلى مسخ إنسانية الفرد وشخصيته المستقلة، والجماعة وكينونتها المدنية، والمجتمع وحقوقه السياسة، والدولة بوصفها حاضنة الفكرة الشرعية والقانون. وجرى الاستعاضة عن كل هذه الحلقات الضرورية للتقدم التاريخي والحرية بالنفط بوصفه "المشعل" الأبدي لكل القيم! أما في الواقع فانه لم يكن أكثر من حريق الأيديولوجية البعثية و"لهيب" الصدامية. وهنا يكمن سرّ صعود وهيمنة الأيديولوجية في حزب البعث.

لقد تحول الحزب إلى قوة تتطابق مع مهمة الكيان القادر على تفعيل فكرة "البعث"، أي تعادل حالة إحياء الموتى. وهي فكرة حالما يجري نقلها من أوهام الوعي اللاهوتي إلى يقين الأيديولوجية السياسية، فإن كل الأوهام المحتملة تصبح هراوة قاتلة. كما أن كل استعمال لها يكشف لحاملها عن قدرتها العجيبة على استنطاق آهات البشر! وفي هذا يكمن الدور التخريبي للأيديولوجية السياسية الحزبية، التي لا تعدو من حيث الجوهر أكثر من معادلة مقلوبة للمذهبية المغلقة والغلو المذهبي، أي مجرد وحدة متحركة للأهواء والأوهام. وليس مصادفة أن تتحول الأيديولوجية البعثية الصدامية إلى لاهوت الفئات الرثة والعقول السقيمة والجهل المعرفي والتخلف الثقافي. أما تقوية تأثيرها المباشر وغير المباشر في السياسة والحياة العامة والخاصة للدولة والمجتمع والثقافة فقد كان الوجه الآخر للتخلف والانحطاط المعرفي والثقافي الحر. مع ما ترتب عليه من توسيع مريع لمختلف مظاهر الرذيلة.

أدى هذا الواقع إلى صيرورة ما يمكن دعوته بمنظومة الرذيلة الشاملة، كما نراها في تحول مختلف مظاهر ومستويات القهر والاضطهاد والإرهاب والتخويف إلى الوسائل الوحيدة للسلطة والدولة في تعاملها مع المجتمع والفرد. بينما أصبح تمويت الروح والعقل وتنشيط الغرائز عبر إثارة ثقافة العنف والهلع الأسلوب المكمل لفطم المجتمع من أية مشاركة ممكنة أو محتملة في إدارة شئون الدولة. بل جرى سحق فكرة الإدارة وإخراجها بصورة تامة ومطلقة من قاموس التفكير والممارسة الفعلية للبعثية الصدامية. الأمر الذي جعل منها إحدى أقسى وأرذل النماذج المحتملة لتصنيع العبودية التامة في العراق على امتداد تاريخه العريق! بحيث يمكنني القول، بأن الصدامية هي أيديولوجية العبودية المطلقة. كما أنها احد أوجه الأيديولوجية البعثية. لكنهما لا يتطابقان. فأيديولوجية البعث هي عقيدة الفكرة القومية المطلقة. أما الصدامية فقد استعاضت عن فكرة القومية بنفسية وذهنية الفئوية والجهوية التقليدية المتخلفة. من هنا سحب احدهما للآخر إلى هاوية الانحطاط!

• لم يتناول المؤرخون العراقيون الباحثون جملة من الأسئلة المهمة بالنسبة للوعي الذاتي السياسي والتاريخي المتعلق بالدولة العراقية الحديثة، مثل لماذا تم استيراد ملك عربي؟ وهل كان المجتمع العراقي عقيم بحيث لم يستطع إنجاب ملك؟ كما أن النخبة السياسية التي حكمت العراق في المرحلة الملكية (1921-1958) مستوردة في اغلبها. وبدورها كانت نتاج الثورة العربية المحكومة بمشروع ثقافي مستورد (ساطع الحصري). ألم تؤدي هذه الوضعية السياسية والثقافية إلى تفريخ عناصر النزوع التوتاليتاري داخل بنية الدولة العراقية؟

إن العراق المعاصر يعاني من أزمة بنيوية شاملة فيما يتعلق بوعيه الخاص. والاهتمام بالتاريخ الذاتي والسياسي والثقافي بشكل خاص هو احد معالم أو أدلة تطور وعيه الذات. ولا يمكن تحقيق ذلك دون نمو وعي الذات التاريخي. وإذا كان العراق وما يزال يعاني من شدة تأثير هذه الحالة المفقرة للوعي، فمن السهل توقع إمكانية التكرار الفج لما يجري فيه. وهي صفة الصغار أو المجانين! وليس في هذه العبارة ما يمكنه الإيحاء بالإحباط. على العكس! فالإحباط لا يحل مشكلة. وخاتمة الحياة الموت! وهو في انتظار الجميع! تماما كما أن وحدة الوجود والعدم هي الدورة الأبدية لنشوء الكائنات وفسادها، كما كان الفلاسفة القدماء يقولون. ولا بأس من البكاء على الموجود! ولكن بشرط أن يكون بكاء على أطلال القلوب الخربة! وما نراه الآن يعكس حالة المجتمع العراقي عموما. وأنا ادعوها بحالة الانحطاط وسيادة الزمن. بمعنى أن العراق يفتقد الآن إلى تاريخ ذاتي، من هنا ضعف وتشوه وعيه الذاتي. بينما وعي الذات هي المقدمة الضرورية لرؤية النفس والآخرين والاستفادة النقدية من تجارب الأمم.

إن ضعف الوعي التاريخي والسياسي يرتبط أساسا بغياب التاريخ السياسي الذاتي المستقل، أي التاريخ المتراكم بتجارب المواجهة الحية والحرة والعقلانية لإشكاليات الحاضر واستشراف المستقبل. وهنا يكمن سبب ضعف الوعي التاريخي العراقي. وما هو موجود ومنتشر وسائد لحد ما اقرب ما يكون بالرواية والحكاية. بمعنى انه لم يرتق إلى مصاف الرؤية الفلسفية التاريخية، والمواقف النقدية المؤسسة المحكومة بتأثير المرجعيات الثقافية المتسامية في قواعد العلم النظري. ولم تكن هذه الظاهرة معزولة عن الانقطاع السياسي الذي أحدثته تقاليد الراديكالية السياسية بوصفها تقاليد الأيديولوجيات الفجة والغرائز الجسدية البدائية للوعي التقليدي. من هنا ضعف بل وشبه انعدام الاحتراف والتخصص. الأمر الذي جعل من "السياسي" أو "أزلام السلطة" و"الأحزاب" مؤرخي الدولة والمجتمع والفكر السياسي! وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى التحصيل العلمي عند أغلبيتهم المطلقة فمن الممكن توقع مستوى الجهل من جهة، والانتقائية البليدة من جهة أخرى. من هنا غياب الكثير من القضايا الكبرى والجوهرية التي لم يجر عرضها أمام الوعي التاريخي النقدي، ومن ثم المساهمة في جعلها عناصر ضرورية من منظومة وعي الذات التاريخي.

الأمر الذي يجعل من الضروري تناول كل ما جرى في تاريخه الحديث بالشكل إلي يجعله جزءا فعالا في منظومة الوعي الاجتماعي والسياسي النقدي. فالعراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى مسح شامل وتحليل مؤسساتي طويل ومديد من اجل أن يبلغ التفكير والفكر السياسي مستوى الوعي الذاتي وإدراك حقائق الأشياء كما هي، بوصفها مهمة رجال العلم والأكاديميين ومؤسسات المعرفة والثقافة والمدرسة والتربية والتعليم والحياة المدنية وليس مهمة الأحزاب وأزلام السلطة ومختلف "السياسيين".

طبعا أن ذلك ليس معزولا كما أشرت قبل قليل إلى ما ادعوه أحيانا بهشاشة الزمن العراقي، أي انعدام تاريخ المؤسسات فيه. من هنا ضرورة إعادة بناء شاملة. وهي مهمة العراقيين أولا وقبل كل شيء. ولا يمكنها أن تكون شيئا آخرا غير تلقائية تطوره الذاتي. ويستحيل تحقيق ذلك دون تأسيس منظومات فكرية علمية رصينة تتناول مختلف جوانب تاريخه المعقد. وبالتالي التخلي من الصيغ الفجة والواسعة الانتشار عن أن التاريخ العراقي واضح جلي ويكفي المرء إدراك كل ما فيه ببساطة. فهي صيغة واسعة الانتشار بين صفوف الأحزاب و"رجال السياسة". ويمكننا العثور عليها عند كل "سياسي" ومتحزب، سواء كان من المؤيدين والمعارضين. وهذا بدوره ليس معزولا عما ادعوه بسيادة تقاليد الأصولية والتوتاليتارية في الوعي الاجتماعي والسياسي العراقي. انه لا يرى غير ما يشاهد. ويرمي إلى المزبلة كل الإبداع الكبير، لأن كل ما يجري ويحدث وسوف يحدث "واضح وجلي ولا يحتاج إلى جدل" بالنسبة له. وهو الوعي لا يستمع ولا يسترق السمع على الإطلاق لكل ما يخالفه. انه يريد ويرغب ويسعى إلى رؤية وسماع ما يريده ويرغب به فقط. ولا تنتج هذه الدورة في الواقع غير الانغلاق واللاعقلانية. انه لا يقرّ بالاحتمال، كما انه اقرب إلى آلهة خرساء ليس على الآخرين سوى تفسير إيماءها!

وضمن هذا السياق يمكن التطرق إلى السؤال المتعلق بالقضايا التي كانت وما تزال خارج سياق المعرفة الحقيقية. مثل السؤال المتعلق بالأسباب القائمة وراء "استيراد" ملك من الخارج في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وذلك لما فيه من إشكالية بالنسبة لفكرة النخبة والفكرة الوطنية وتاريخ الوعي السياسي وكثير غيرها. بمعنى أنها ليست قضية من قضايا الماضي. فالعراق الآن يواجه نفس هذه الحالة، عندما جرى على سبيل المثال تعيين أو "انتخاب" رئيسا للعراق من أصول قومية صغيرة (كردية) ويمثل إحدى التيارات القومية الضيقة، أي لا يتمتع بصفة العراقية من حيث الانتماء الوجداني والرؤية السياسية والإخلاص للفكرة الوطنية. فهو ممثل تيار "كردستاني" أي قومي كردي وليس عراقي. وفي كلتا الحالتين تعكس هذه الصيغة أولا وقبل كل شيء حالة الاحتلال الأجنبي للعراق.

بعبارة أخرى، تعكس هذه الحالة من حيث الجوهر الخلل في بنية الدولة والفكرة الوطنية والنخبة السياسية والقوى الاجتماعية. وإذا كان ذلك جليا في الظروف الحالية، فإنه يمكن أن يكون مرآة لرؤية ما جرى في عشرينيات القرن العشرين. غير انه ينبغي في الوقت نفسه الأخذ بنظر الاعتبار فارق المقدمات التاريخية وأثرها المباشر وغير المباشر في إمكانية صعود قوى غريبة عن العراق إلى هرم السلطة السياسية. ففي حالة الاحتلال البريطاني للعراق والاحتلال الأمريكي له نعثر على نفس الصيغة، أي على قوى اجتماعية منهارة وضعيفة ومفككة. وفي كلتا الحالتين نعثر على ملك ضعيف الإرادة ورئيس "فخري"! لكن الفرق مع ذلك يبقى جوهريا. ففي الحالة الأولى هي جزء من صيرورة الدولة الحديثة، بينما في الثانية هي جزء من حالة التمزق والتحلل.

فقد كان الملك فيصل جزء من تاريخ المعركة الكبرى آنذاك، أي احد الممثلين للفكرة العربية والدولة المحتملة (العربية الكبرى). ومن الممكن العثور فيها على صدى الخلافة الأولى، أي عندما أصبحت الأموية والعباسية سلالة الخلافة العربية الإسلامية. وذلك لأن الملك فيصل يبقى جزء من تاريخ الصيرورة العربية الجديدة للعراق، التي فقدها من زمن طويل في ظل السيطرة التركية العثمانية. إذ نستطيع العثور في صعوده إلى سدة الحكم في العراق على نتاج تداخل التاريخ وذكرياته، والحالة العراقية في مخاضها الجديد بعد انهيار السلطنة العثمانية، والاحتلال البريطاني للعراق، وحالة "الثورة العربية". فقد تداخلت هذه المقدمات في صعود الملك فيصل. ففي سوريا التي كانت تتمتع آنذاك بقدر كبير من المواجهة العنيفة والطويلة مع السيطرة التركية العثمانية، وبتقاليد فكرية وسياسية كبيرة بهذا الصدد، ومن ثم بنخب أدرى بواقعها وشئونها الخاصة، فإن حالة العراق، وبالأخص بعد "ثورة العشرين" قد أدت إلى إنتاج هذه "المساومة" السياسية التي جعلت من العائلة الهاشمية عائلة مالكة في العراق. مما أدى إلى كسر الإمكانيات السياسية والثقافية والاجتماعية الآخذة بالنمو في أواخر المرحلة العثمانية في العراق. فقد كانت العائلة الهاشمية بعيدة عن تاريخ العراق ما قبل الحرب العالمية الأولى. كما أنها لم ترتبط به ارتباطا عضويا من الناحية الوجدانية والسياسية والثقافية والتاريخية.

فقد كانت العائلة الهاشمية من حيث مكوناتها هذه كلها نتاجا "للأرستقراطية العلوية" المزيفة في مجرى صراعها مع آل سعود من اجل الاستحواذ على السلطة. إذ لم تعن الدولة بالنسبة لها في أفضل الأحوال سوى السلطة المحكومة بمفهوم ونفسية "الإمارة" القبلية والدينية. وكان ذلك جليا في "مساومتها التاريخية" مع الإنجليز قبيل وبعد ما يسمى "بالثورة العربية". وهو أمر كان يشير في الإطار العام إلى الضعف البنيوي الهائل آنذاك لمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية ككل من جهة وللضعف البنيوي في التركيبة التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية للعائلة الهاشمية في العراق من جهة أخرى. وسوف يظل هذا التناقض يحكم تاريخ العراق السياسي حتى الانقلاب العسكري في الرابع عشر من تموز عام 1958.

فقد كانت الملكية الهاشمية في العراق مصادرة تاريخية وسرقة عائلية لتراث الجنوب العراقي آنذاك، أي للقوة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي بلورت الهوية العراقية منذ أقدم العصور. إن ذلك لا يقلل من مأثرتها التاريخية الهائلة بالنسبة لتكوين وبناء الدولة العراقية المعاصرة في مختلف الميادين، إلا أنها كانت في الواقع العائق الاجتماعي والسياسي الكبير أمام صيرورة العراق الفعلية في دولة حديثة بالمعنى الدقيق للكلمة. لكن ذلك لم يكن معزولا بدوره عن الضعف الذاتي العراقي قبيل تأسيس الدولة الحديثة، الذي حولته الملكية الهاشمية إلى حالة بنيوية سياسية كان بدوره الاستمرار الحتمي لنشوئها التاريخي بوصفها نتاجا لمساومة خارجية. وقد لازم هذا الضعف مسارها في غضون ثلاثة عقود حتى انتهى بحالة مأساوية في الرابع عشر من تموز 1958.

وضمن هذا السياق، كما هو الحال بالنسبة لواقع العراق بعد الاحتلال الأمريكي، تشير حادثة "انتخاب" ملك ورئيس من خارج العراق الفعلي إلى ما يمكن دعوته مجازا بالعقم السياسي للنخب، أو بصورة أدق عقم النخب العامة والسياسية بشكل خاص. ففي كلتا الحالتين، يشير إلى أن الإشكالية الكبرى بالنسبة للتاريخ العراقي هي إشكالية النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. ومقدماتها تكمن في أن "النخب الحاكمة" لا تمثل العراق الكلي. أي أن العراق كان يقف دوما على رأسه وليس قدميه. وللمرة الأولى في تاريخه على امتداد ثمانية قرون من الزمن بدأ يستعيد معادلة بنيته الذاتية. والمهمة الباقية تقوم في كيفية توليف تاريخ المستقبل بالمرجعيات الثقافية العراقية المتسامية، أي بتاريخ كينونته العربية الثقافية. وهو تاريخ لا ينبغي وضع ساطع الحصري وأمثاله بالضد منه أو خارجه. فإبداع الرجل تعرض إلى تشويه كبير بهذا الصدد. وأملي في أن أتناوله في مكان وموضع آخر بصورة مسهبة من اجل كشف حقيقة الرجل ودوره التاريخي بالنسبة للمشروع الثقافي والعلمي العربي العراقي. فالحصري، شأن الملك فيصل لم يكونا "مستوردات" أجنبية، بل جزء من صيرورة عربية جديدة. والأزمة ليست فيهما بل في تاريخ العراق وتهشم بنية وعيه الذاتي وتاريخه السياسي الدولتي المستقل. وهنا فقط ينبغي البحث عن الجذور الدفينة وغير المرئية التي جعلت من الممكن في وقت لاحق صعود الراديكالية السياسية والحثالة الاجتماعية الهامشية إلى مركز الدولة والاستيلاء على السلطة، أي المقدمات التي كان بإمكانها أن تنتج ظاهرة الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية وتلازمهما اللاحق.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم