قضايا

في مجلس ابن جِنِّي (9): قوانين التواصل وتحريف اللغة

عبد الله الفيفيمرَّ في مجالس (أبي الفتح ابن جِنِّي) ما عرضه عليه صاحبه من زعم مهندس التفسير المعاصر من أن كلمة «النساء» في الآية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والبَنِينَ والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾، (آل عمران، 14)، جمع: نسيء، لا جمع امرأة. وممَّا احتجَّ به زعمه أنه لو كانت «النساء» جمع امرأة، لوجبَ أن يقال: «زُيِّنَ للرجال». كما أن كلمة «الناس» لا تعني الجنسين كليهما؛ لأنه قد جُعل النساء من ضمن الشهوات! وكأنه يرى أنه كان لا بد من التفصيل، فيذكر ما زُيِّنَ للرجال على حدة، وما زُيِّنَ للنساء على حدة. وهنا احتجَّ ابن جنِّي، قائلًا، بعد أن مدَّ رجليه:

- فندنا قوله في كلمة «النساء» في مجلس سابق. أمَّا كلمة «الناس»، فالحق أنها قد تُطلَق في العربيَّة الفصحى، ناهيك عن غيرها، على الرجال فقط.

- أتقول «ناهيك عن»؟

- نعم.

- في زماننا كثيرًا ما نسمع ونقرأ تخطيء هذا التعبير «ناهيك عن»، فيقال قل: «فضلًا عن»، أو «علاوة على»، وإنْ كنتَ لا تجد في هذين المقترحين التعبيريين المعنى الذي في نفسك. إذ يقال: إن العرب لم تستعمل هذا التركيب، وإنما استعملت: « ناهيك من كذا أو ناهيك به من كذا»، كقولهم: «هو عالم ناهيك من عالم، أو ناهيك به من عالم». وكنتُ ممَّن يستعملون «ناهيك عن»، ثم تُبتُ وأنبتُ عن هذه الخطيئة، تحرُّجًا، واتباعًا للسُّنَّة المفروضة.

- ما أغرب عصركم! على عِيِّكم يكثر فيكم المفتون!

- إنْ أَجَزْتَــني، فإني سأعود إلى هذا التعبير، الذي طالما هربت منه بأساليب ملتوية!

- لا أرى الآن مانعًا من رِدَّتك إليه؛ فلا حُجَّة لمانعيه، إلَّا كحُجَّة كفار قريش: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُهْتَدُون﴾. وما أكثر عقليَّات كفار قريش هؤلاء بين سدنة العربيَّة! يُراق مداد غزير، وتُبَحُّ الحناجر، في «قُل ولا تقُل»، ويتعالم المتعالمون بالقول: ما قالت هذا العرب، أو ما ورد في المعجمات! وهل جاءنا ما قالت العرب وافرًا وافيًا؟! أم هل كُتِب على العرب أن يظلُّوا ببغاوات يردِّدون ما قال آباؤهم لا يتعدَّونه؟ إن في هذا إفقارًا للعربيَّة، وإماتة لطاقاتها الإبداعيَّة، وعبقرياتها التعبيريَّة؛ فما وسعه القياس، صحَّ، وإنْ لم يُسمَع عن العرب، بل هو من حسنات التجديد في الأساليب. فما معنى «ناهيك عن كذا»؟ سواء أقيل إن اسم الفاعل هنا من «نَهَى يَنْهَى»، بمعنى: كفَّ ومنعَ، أم من «نَهِيَ يَنْهَى»، بمعنى: شبِعَ واكتفَى؛ إذ قيل إن «قولهم: ناهِيكَ بفلان معناه كافِيكَ به، من قولهم قد نَهيَ الرجلُ من اللحم وأَنْهَى إذا اكْتَفى منه وشَبِع، ورجل نَهْيُكَ مِن رجل، وناهِيك من رجل، ونَهاكَ من رجلٍ أَي كافيك من رجل، كلُّه بمعنى: حَسْب، وتأْويله أَنه بجِدِّه وغَنائه يَنْهاكَ عن تَطَلُّب غيره»(1)، فإن التعبير بـ«ناهيك عن» سائغ بأيِّ الوجهين أُوِّل. فحين أقول: «كلمة «الناس» قد تطلق في العربية الفصحى، ناهيك عن غيرها، على الرجال فقط»، فالمعنى: إن ما يُستعمل في العربية الفصحى ينهاك بما فيه من غِنًى ويمنعك عن الحاجةٍ إلى البحث في غيرها، أو قل يكفيك عن تطلُّب المعنى في غير الفصحى ويغنيك عنه. فلتضع عبارة «مغنيك عن» مكان «ناهيك عن» لتجد الصياغة مستقيمة معنى ومبنى. وكذا لو استعملت عبارة «كافيك عن»، أي أن النظر في الفصحى كافيك ومغنيك وحسبك به دليلًا يغنيك عن أن تتعداه للبحث في غيرها. إن من يتنطعون في تحريم مثل هذه التعبيرات إنما يئدون اللغة العربيَّة، ويحجرون عليها أن تنبض بالحياة للتعبير عن المعاني التي لا تنتهي بجيلٍ من الناس أو بعصرٍ من العصور.

- عودًا إلى مفسرنا المهندس.

- كنتُ أقول: إنه لا تعارض بين أن تكون كلمة «الناس» تعني عموم الناس، ذكورًا وإناثًا، وأن لا يُذكر في عناصر الشهوات إلَّا ما زُيِّن للرجال فقط، كالنساء، أو الخيل المسوَّمة. ثمَّ إن الآية قد ذكرت شهوات الناس عمومًا، التي منها ما ينفرد بها جنس دون جنس، ومنها ما يشتركان فيه، مثل البَنِين والقَناطِيرِ المُقَنطَرة من الذَّهب والفِضَّة. وهذا نَظْمٌ واضح ومألوف في اللغات البشريَّة كافة. فمن ذا قال إنه يتعين، منطقًا أو أسلوبًا، إفراد كل جنس بشهواته؟  

- وأزيدك، يا أبا الفتح، طُرفةً هندسيَّةً من طُرف صاحبنا. فإنه كما حرَّف معنى «النساء» في الآية عن معناها العربي المبين، حاول أن يفعل في معنى «البنين». فهو يرى أن «البنين» تعني «الأبنية»، كالأهرامات ونحوها؛ لأن الله يقول في آية أخرى: «يوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ». (الشعراء، 88). متسائلًا: وهل البنات ينفعن؟ وهذه لديه حُجَّة دامغة للقول بأن «البنين» جمع «بناء». ومعنى هذا دون تلجلج أن الآية لا تعني بـ«البنين» ما فهم الناس أجمعين من الكلمة، بل: «البنايات»!

- يا وليلتا مما أسمع من هذا الكلام! [صاح ابن جنينا]. لو كان يعرف المادة التي يشتغل بها، وهي اللغة، لما تورَّط في هذه المزاعم الهزليَّة. ولو أنه عرف ثقافيًّا نظرة العرب، بل البشر عمومًا، إلى نفع البنين في أيامهم الحاسمة، وأن البنين رديفو المال، يُعتمَد عليهم في المُلمَّات، لما تساءل مثل ذلك التساؤل الفكاهي. وفي الآية الأخرى- يا مَن تدَّعي الأخذ بمنهاج تفسير القرآن بالقرآن- تفسير ما عميتَ عن فهمه أو تعاميت: ﴿المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وخَيْرٌ أَمَلًا﴾. إنه- بحسب تعبيرات عصركم- يبثُّ خطابًا غير عِلْمي. لأنه: أوَّلًا، يتعامل مع مادة بآليَّات من خارج طبيعتها. فاللغة لم تعُد لغة، والنصُّ لم يعد نصًّا، والعربيَّة لم تعد عربيَّة. إنه يتعامل مع اللغة العربيَّة كأنها لغة أخرى، يخترع دلالاتها من غير كلام العرب ولسانهم. وحاشا لله أن يخاطب الناس بهذه الطريقة الملتوية، ثم يقول إن كلامه «عربي» و«مبين»، ثمَّ يطالبهم بأن يؤمنوا برسالة لم تصلهم أصلًا، وليست بلغتهم، ويوعِدهم بأشد العقاب إنْ لم يؤمنوا! وثانيًا، هناك قوانين تواصليَّة لغويَّة، تــنتفي لو صحَّ ما يذهب إليه صاحبك، وتــنتفي صفة الرسالة أساسًا، وتــنتفي قُدرة المرسِل على الإعراب عن معناه.

- لعلك تشير إلى عناصر الرسالة الستة، التي حددها (رومان ياكبسون): المرسِل، والرسالة، والمرسَل إليه، والوسيلة، والشِّفرة، والسياق.

- هذه عناصر بدهيَّة. وبمثل تأويلات صاحبك، تعطَّلت الوسيلة عن وظيفتها، والشفرة، والسياق، وانقطعت الصلة بين المرسِل والمرسَل إليه، بحسب اصطلاحات رومان هذا الذي أشرت إليه.

- ومع أنه يردِّد أن «المعرفة أسيرة أدواتها»، فها هو ذا يسعى إلى تعطيل أدواتها وهي اللغة. وإذا كان القرآن ينعي على أهل الكتاب أنهم يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه، فصاحبنا يحرِّف اللغة برمَّتها عن مواضعها، لتغدو لغة أخرى. لكن لعلَّ له حُجَّة في القول إن الرسالة كانت تصل بمستويات متدرجة، وصلت في عصر الرسول بمستوى، ويمكن أن تصل بمستويات أخرى، تعطي لكل زمان فهمه وكشوفه.

- كلام جميل. ولكن ماذا عمَّا أسميتَه أنت الوسيلة، وهي عامل الوصل بين المرسِل والمرسَل إليه؟   أعني اللغة. نعم يمكن أن تكون للرسالة اللغويَّة مستويات متعددة في الدلالة، وللناس درجات متفاوتة في الفهم. وهذا أمر يميِّز النصوص البلاغية الراقية، ولا مراء في ذلك. لكن يجب أن يكون ذلك من داخل المنظومة اللغويَّة، وممَّا تستوعب درجاته اللغة. فإذا خرج المأوِّل عن هذا الشرط، أصبح يمارس شَطْحًا، خارج اللغة والوسيلة وقوانين التراسل. وعندئذٍ يمكن أن يقول ما شاء، لكنه قولٌ لا وزن له؛ لأنه قد تنكَّب المنهاج السديد. وهل وُجِدت النِّحَل السابحة في فضاءات الأهواء وغير المعقول، إلَّا جراء الخروج بالتأويل عن الإطار اللغوي؟!

[وللحِوار بقية].

 

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

.................................

(1) ابن منظور، لسان العرب، (نهي).

 

 

في المثقف اليوم