قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (11)

ميثم الجنابيالمحور الثالث: النزوع التوتاليتاري في الدولة العراقية الحديثة (5)

• ظهور الدولة الوطنية العراقية في أعقاب الحرب العالمية الأولى كان اقرب إلى حالة انتقال تاريخي لمجتمع يعاني من هيمنة اللاهوت والتشرذم الطائفي والقبلي إلى مجتمع – دولة مع ما يلازمها من بنية قانونية ودستورية. ما هي الأسباب القائمة وراء انحدارها عام 1963 إلى دولة فاشية بدوية؟

إن الانتقال التاريخي للعراق من مقاطعة تابعة إلى دولة قائمة بحد ذاتها لم يجر بفعل قواه الخاصة. ونفس الحالة نعثر عليها بعد مرور قرن من الزمن. وفي كلتا الحالتين نقف أمام نفس الضعف الجوهري والخلل البنيوي في المجتمع والوعي الثقافي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. بمعنى أن العراق لم يستطع تذليل خلل البنية الاجتماعية المعرقلة لإمكانية بناء الدولة الحديثة والمجتمع المدني والنظام السياسي العقلاني. كما انه لم يبدع منظوماته الفكرية والسياسية القادرة على تقديم إجابة واقعية ومعقولة لهذه المشاكل الكبرى. طبعا أن ذلك لا يعني خلوه التام من محاولات بهذا الصدد. لكنها تبقى ضعيفة وزهيدة جدا مقارنة بمجرى قرن من الزمن من قرون العصر الحديث.

فمن الناحية الموضوعية ليس هناك مرحلة في تاريخ العراق الحديث لها أهميتها وقيمتها بالنسبة لبناء الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والعلم غير المرحلة الملكية، رغم ضعفها وخللها البنيوي. وذلك لأنها كانت من حيث الجوهر مرحلة التراكم الطبيعي. ولا يقلل من هذه الأهمية طابعها البطيء والمتأزم بسبب التخلف الاجتماعي والنخبة السياسية المستوردة والانتداب البريطاني. لكنه كان تراكما بمعايير التجربة الذاتية وصراع القوى السياسية والاجتماعية. وذلك لأنه كان ينمو ويتطور بمشاريع واقعية وعقلانية ومستقبلية في مختلف الميادين.

فقد كانت المرحلة الملكية تتمثل الصيغة الواقعية والعقلانية لفكرة القطيعة التاريخية مع التراث السابق وليس الانقطاع عنه. على عكس ما سيحدث لاحقا. وعموما يمكننا الحديث عن ثلاثة انقطاعات كبرى في تاريخ العراق الحديث، الأول عام 1921 والثاني عام 1958، والثالث عام 2003.

الانقطاع الأول كان يتميز بالتراكم والبناء والاجتهاد. من هنا كانت أزماته وصعوده وهبوطه جزء من معاناته الذاتية.

أما الانقطاع الثاني فقد كان مفتعلا لأنه وضع أولية السلطة في صلب الفكر السياسي والقوى الاجتماعية، وبالتالي أثار حمية التحزب ونفسية الانقلاب والمؤامرة. مع ما ترتب عليه من إرساء أسس الزمن الراديكالي.

أما الانقطاع الثالث فيشكل من حيث الجوهر مقدمة ما يمكن دعوته بمرحلة الاحتمال المجهول. وذلك لأنه كان انقلابا خارجيا استكمل مرحلة الزمن الراديكالي. وبالتالي فإنه يحتوي بقدر واحد على تداخل وصراع الزمن الراديكالي والتاريخ المستقبلي.

أما الانحدار صوب "الدولة الفاشية البدوية"، أي المسخ الغريب بالنسبة للتاريخ والعلم، والذي ينبغي وضعه بصورة أدق بعبارة سلطة العصابة الراديكالية للحثالة الاجتماعية والهامشية، فقد كان يكمن في سيادة الزمن الراديكالي، أي مرحلة الانقطاع الثاني. وذلك لما فيه من احتمال حتمي(!) في إثارة مختلف النوازع غير العقلانية والمتخلفة. وبالتالي ليس الرجوع إلى البنية التقليدية من جهوية وفئوية وقبلية وعائلية وطائفية سوى احد أشكالها.

إن تحول العامل السياسي والحزبي إلى "مرجعية أيديولوجية" شاملة وجازمة في الموقف من الدولة والمجتمع والنظام السياسي ليس إلا الصيغة المغلّفة والمغفّلة للأوهام والأسقام التي أخذت تنخر الوجود التاريخي للعراق بعد عام 1958. لقد أدى هذا الانقطاع إلى قطيعة تامة مع أسس الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة الحرة. ففي هذه المقدمة كانت تكمن أسباب انحدار الدولة أو بصورة أدق تهشمها وتناثرها في صياح الثورات المزيفة ونعيق الأحزاب الراديكالية. الكل يصرخ بشعارات الحياة والسعادة ويعملون من اجل الموت والتعاسة! بحيث جعل من الممكن الحديث عن "دولة فاشية بدوية"! وهو كما أشرت أعلاه مصطلح لا يستقيم مع الفكرة والعبارة، لكنه مقبول ومعقول حالما ننظر إلى زمن بعث الأشباح المتجسد في الدكتاتورية الصدامية وتوتاليتاريتها.

• ظهور الأفكار التنويرية (الزهاوي، الرصافي وغيرهم) تمثل منتج مشوه لعصر النهضة العربية. لماذا لم يظهر مشروع تنويري نهضوي عراقي؟

إن فكرة النهضة تفترض كحد أدنى إدراك قيمة الموروث الثقافي العام والقادرة على تنظيم الرؤية الاجتماعية والسياسية والوجدانية حول هموم مشتركة كبرى. الأمر الذي يجعل من فكرة النهضة تحولا نوعيا في تراكم المعاناة الاجتماعية والسياسية القومية إلى مصاف الوعي التاريخي الذاتي. وبالتالي فإن فكرة النهضة اقرب إلى منظومة منها إلى شذرات من ذهب الأقوال والأعمال.

بعبارة أخرى، إن فكرة النهضة محكومة بتفعيل التراث الثقافي. ومن ثم مرتبطة باستعادة أو إعادة تأسيس وعي الذات التاريخي. وعادة ما تنشأ من الأدب واللغة والشعر بوصفها المقدمات الأولية الحسية والمباشرة القريبة من قلوب وأفئدة الجمهور. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى شخصيات الرصافي والزهاوي وغيرهم على أنها جزء من هذه العملية التاريخية. وبالتالي لا ينبغي النظر إليهما بمعايير الرفض والنفي الراديكالي. إذ ليس في الرصافي والزهاوي ما يمكنه أن يكون منتجا مشوها لعصر النهضة.

إن جذر المشكلة يقوم في كون العراق لم يمر بمرحلة نهضة بالمعنى الذي أشرت إليه أعلاه. والتشوه اللاحق، الذي مازال سائدا لحد الآن في العراق، بما في ذلك سيادة الرؤية الشعرية، يعكس أولا وقبل كل شيء بقاء وسيادة البنية التقليدية في الوعي والدولة والمجتمع والنظام السياسي والثقافة. فالوعي العراقي مازال في طور الحماسة والبطولة القديمة أي لما قبل التاريخ الثقافي للدولة! رغم امتلاك العراق لتراث فكري نظري فلسفي قد يكون الأكبر في التاريخ العالمي!!

إن سبب هذه الحالة المفارقة يكمن في حالة الانهيار والتلاشي الثقافي الذي تعرض له العراق في مجرى ثمانية قرون بعد سقوط بغداد والخلافة العباسية. فمن ذلك الوقت ولحد الآن لم يستطع العراق تذليل حالة انهيار الكينونة الثقافية وانعدام التاريخ السياسي الذاتي المستقل. وبالتالي تذليل ضعف أو انعدام وعي الذات الوطني والقومي والسياسي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. أما التاريخ الحديث فقد كان في اغلب مكوناته مزيجا من توليف الجهوية والفئوية والطائفية المبطنة والحثالة الاجتماعية. ووجد ذلك انعكاسه المباشر وغير المباشر في ضعف بل وشبه انعدام المشروع النهضوي التنويري الشامل. وليس مصادفة أن يصبح "عالما فذا" و"يتيم عصره" من يجتّر المعلومات. ويمكنني أن اذكر هنا على سبيل المثال والطرافة وليس تقليلا من شأن الرجل، شخصية مصطفى جواد، باعتباره "شخصية فذة" و"رجل العلم الفريد" وما شابه ذلك من أوصاف عادة ما نعثر عليها حتى الآن على كثرة كثيرة من "حاملي العلم" الجهلة. أما في الواقع فإن كتاباته "الفكرية" لا ترتقي من وجهة نظري إلى مستوى طالب جامعي بسيط. وينطبق هذا أيضا على الكثير من "المشاهير" أو ما يسمى الآن "بالمفكرين"! إن المرء ليصاب بالغثيان والقرف من هذا الكم الهائل للخرافات والتسطيح الذي يجري تقديمه على انه "علم" و"ثقافة".

إننا نقف أمام توصيف حالة مريضة وليس أمام حالة يمكننا الحديث عما فيها من إمكانية واحتمال لمشروع نهضوي تنويري. إن مشروع البدائل بهذا الصدد يحتاج بقدر واحد إلى نقد تاريخ الحالة الخربة للثقافة والمثقفين والذهنية الاجتماعية والسياسية. وبغض النظر عن الحالة المأساوية والخربة التي يعاني منها العراق الآن، فإنني على يقين تام ومطلق بإمكانية تجاوزه وتذليله لهذا الخلل. وهو حكم لا جبرية فيه. وشتان كما يقال بين جبرية العقلاء والأغبياء، والأولياء والأنذال! لكنها تبقى أيضا في الوقت نفسه مفارقة العراق الحالية وإشكالاته الكبرى. لكنني أرى في العراق أملا كبيرا رغم كل هذا الحطام والركام والخراب المروع. لكنه أمل واقعي، بمعنى أنه محكوم بفكرة البدائل الواقعية والعقلانية وبقدر يناسبهما من الأحلام.

فتجارب الأمم الكبرى لا تخلو من رغبات طوباوية وحالمة جميلة. والمهمة تقوم في جعلها أكثر واقعية. والواقعية الوحيدة والممكنة هنا تقوم في تأسيس بنية الثقافة البديلة على الأقل في ميدان الفكر النظري. وهي المهمة الأكثر مشقة وجدارة في نفس الوقت. كما أنها الوحيدة التي تعطي ثمارها مع مرور الزمن لكي لا يقع العراق بعد قرن من الزمن في حالة الأطلال والمقابر! أما المظاهر الحالية السيئة والخربة والواسعة الانتشار، فإنها مجرد فقاعات الوعي "الثقافي" الفعلية في العراق. وخروجها بهذه الصيغة هو موتها السريع. وذلك لأنها توحي بانعدام الأمل، والسبب بسيط، وهو انه لا أمل فيها ولا طاقة للاستمرار في ظل عالم يقهرها بالضرورة ويحولها إلى هباء.

أما حالة "المثقف" العراقي، فهي إشكالية دون شك. إذ لا ثقافة علمية أو أكاديمية رصينة في العراق الآن. انه يحتوي على مثقفين متناثرين، لكنه يفتقد إلى منظومة ثقافية وهموم مشتركة في بنائها. وهو أمر تابع لحالة التجزئة الفعلية التي تسود العقل والضمير والروح والجسد العراقي. وما لم تلتئم هذه المكونات في طاقة وإرادة فاعلة، فإن من الصعب توقع السير، كما يقال، إلى الأمام. وهذه بدورها تحتاج إلى رؤية بديلة للدولة والأمة والمجتمع والنظام السياسي. وبما أن الخراب في كل هذه المكونات قد بلغ درجة يصعب وصفها أحيانا بمعايير العلم، فإن المنطق الوحيد لإدراكها والتعامل معها يقوم في التأني والعمل الدءوب والصبر، والاهم من ذلك بالتأسيس العلمي للأفكار. أما ذوي الجلود السميكة، فما لنا ولهم؟! دعهم يتلذذون، لأن المقابر أيضا بحاجة إلى حفارين ونائحين! وهذا ميدان لا علاقة له بالأرواح. فالثقافة روح. وصانعوها على الدوام أفراد فردانيون. وهو سر المعاناة وضوء الأمل ورنين الأبد. والمشروع النهضوي التنويري هو احد أشعة هذا الأمل التاريخي والمستقبلي للعراق.

• هل يمكن لمذكرات الملك فيصل الأول (1932) أن تكون مادة لتشريح الدولة العراقية الأولى؟

إن مذكرات الجميع يمكنها أن تكون ذات قيمة بالنسبة لفهم مراحل التاريخ، وبالأخص حالما تكون الشخصية في صلب التحولات الكبرى وحاملة الثقل الأكبر فيها. وهكذا كان الحال بالنسبة للمك فيصل. فهو إحدى أهم واكبر الشخصيات التاريخية والسياسية والوطنية والاعتبارية في تاريخ العراق الحديث. وتجاهله لفترة طويلة هو جزء من سيادة الزمن الراديكالي، أي لنفسية وذهنية القطيعة مع النفس. مع ما ترتب عليه من ابتذال لفكرة التاريخ ووعي الذات التاريخي. فالراديكالية مصادرة بائسة وسخيفة ولا قيمة لها بحد ذاتها. من هنا استعداءها الشرس للماضي وشخصياته القادرة على إخفاء "ضوء" المغامرين العابرين وأزلام السلطة الصغار، أي كل ما ميز ويميز لحد الأغلب "النخبة السياسية" العراقية.

فقد كان الملك فيصل وما يزال عربيا وعراقيا. كما أنه واضع أسس العراقية الوطنية، أي الرؤية الواقعية. وبالتالي فإن مذكراته تعكس إحساسه ورؤيته وتصوراته وأحكامه ومواقفه بهذا الصدد. إنها مادة لدراسة شخصيته ومن ثم أثره الذي تركه على صيرورة الدولة وتاريخ العراق الحديث. والقضية هنا لا تقوم في إبراز فضائله ورذائله، بقدر ما تقوم في ترسيخ الرؤية النقدية من التاريخ العراقي، وبالتالي تحويل تجاربه الناجحة والفاشلة إلى جزء من منظومة وعي الذات التاريخي السياسي السليم. فهو الأسلوب الوحيد لتأسيس مرجعيات الرؤية الواقعية والعقلانية والوطنية والاجتماعية والقومية السليمة.

إذ تحتوي مذكرات الملك فيصل على مادة ثرية بالنسبة لدراسة أوضاع العراق آنذاك والمستقبلية أيضا. إنها مادة ضرورية بالنسبة لإعادة إرساء أسس التفكير النقدي والسياسي الواقعي والعقلاني. والمهمة تقوم في إعادة قراءتها بصورة نقدية وواقعية وعقلانية بعيدة عن التحزب وعن زمن الخراب الراديكالي. بمعنى إعادة قراءتها بالشكل الذي يجري تذويبها في سبيكة الوعي النقدي التاريخي ولضمها في نسيج الوعي التاريخي السياسي العراقي الحديث. ومن ثم استلهام ما فيها (وما في غيرها) من اجل إعادة رسم ملامح التاريخ العراقي الحديث بما يخدم أيضا صنع الإجماع الوطني على مفاصل تاريخنا الحديث. وبالتالي صنع مرجعيات معقولة ومقبولة قادرة أيضا على تأسيس الفكرة الوطنية (العراقية) والقومية (العربية)، أي السبيكة الضرورية للهوية الذاتية.

بعبارة أخرى، ينبغي النظر إلى مذكرات الملك فيصل بعيون المرحلة التاريخية وشخصيته وطبيعة الملابسات التي جرت حول وصوله للعراق ومهمته الذاتية والتاريخية والسياسية. وانطباعه العام دقيق وواقعي. وهو يعكس واقع مرحلة الصعود الحديث للدولة العراقية التي جرى نثرها وتفتيتها على امتداد قرون من السيطرة العثمانية، أو المغولية الثانية. ولم يكن بالإمكان توقع شيء آخر. إلا أن المجتمع كان مستعدا، بفعل الكمون الثقافي المستتر فيه، لبذور التقدم العقلاني. وهو ما جرى بطريقة كبرى وخطوات هائلة في مجرى أربعة عقود (من العدم إلى الوجود الحي). على عكس ما جرى بعد ذلك (من الوجود إلى العدم). وهذا يساوي ما ادعوه بالخطأ والخطيئة التاريخية للراديكالية السياسية التي هدمت كينونة العراق الوطنية والاجتماعية والروحية والسياسية.

***

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم