قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (14)

ميثم الجنابيالمحور الرابع: الأسس الاجتماعية والسياسية للظاهرة الصدامية (3)

• الدولة التوتاليتارية - وليدة أزمات تاريخية تتعرض لها البنية الاجتماعية والاقتصادية. ما هي الأزمة (الأزمات) التي أنتجت الصدامية بوصفها ظاهرة توتاليتارية؟

لقد أجبت على الأسئلة المتعلقة بالجوانب النظرية والتاريخية الخاصة بأثر الأزمة على ظهور أو توليد التوتاليتارية في الملف الأول من هذا الحوار. لهذا اكتفي هنا بالإجابة عن طبيعة وخصوصية الأزمة التاريخية التي جعلت من الممكن ظهور وسيادة التوتاليتارية في العراق.

إن التوتاليتارية نتاج أزمة بنيوية للدولة والأمة والثقافة. إنها نتاج أزمة شاملة تخص الوجود التاريخي لهذا الثالوث وتسعى في الوقت نفسه إلى نفي أو تذليل هذه الأزمة من خلال تقديم بديل شامل واحد "حق". وهو بديل أيديولوجي بالضرورة، ومن ثم طوباوي ومشبع بأوهام مختلفة المشارب (اجتماعية - طبقية وأممية وقومية وعنصرية وغيرها). بعبارة أخرى، إن ظهور التوتاليتارية يعكس الخلل التاريخي الكبير في مسار الدولة والأمة والثقافة، أي كل ما يؤدي إلى حرف المسار التاريخي الطبيعي أو تهديم البنية التاريخية للدولة والأمة والثقافة، أي كل ما ادعوه بسيادة الزمن على التاريخ.

فمن الناحية التاريخية كانت مقدمات الأزمة البنيوية للدولة العراقية الحديثة تقوم في ضعفها التاريخي. فقد كانت هي منذ البدء نتاج مساومة محلية وإقليمية وعالمية، جعلت من الممكن استيراد ملكا ضعيفا من حيث أسسه الاجتماعية ومستوى انتمائه لتقاليد العراق ومعرفة حيثيات وجوده آنذاك. وقد ظل هذا الضعف يلازم الاغتراب الخفي للسلطة الملكية رغم اندماجها النسبي بنسيج البنية العراقية. لكنه اندماج لا يخلو من خلل تاريخي حددته ضعف البنية الاجتماعية للعراق ككل، وبالتالي ضعف كينونته الاجتماعية الوطنية.

فقد كانت الكينونة الاجتماعية والوطنية العراقية في عملية متصيرة، لكنها كانت تعاني شأن بنية السلطة (نظام الحكم) من خلل جوهري يقوم في طابعها الفئوي والطائفي والجهوي المبطن. الأمر الذي طبع أزمتها الكامنة أيضا. وليس مصادفة أن يستثير انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 ردود الفعل الخفية والعدائية العميقة من جانب القوى "القومية" "العربية" والكردية، أي من جانب "الأقليات". ولكل منهما أسبابه لكنهما التقيا في مواجهة المد الوطني العراقي الذي لازم بصورة عفوية المزاج الشعبي العام. والمهمة الآن لا تقوم في تحليل كل حيثيات هذه الظاهرة، بقدر ما إنني أود الإشارة إلى أن الخلل العميق في البنية الاجتماعية للفكرة الوطنية العراقية (كما سنراها لاحقا بعد استمرار الانقلابات العسكرية لحزب البعث، أو ما نراه بعد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط الدكتاتورية الصدامية) كان احد الأسباب العميقة وراء صعود التوتاليتارية بوصفها أسلوبا لإعادة هيمنة الأقلية والفئوية والطائفية على السلطة. الأمر الذي طبع أو حدد خصوصية التوتاليتارية في العراق بوصفها دكتاتورية الأطراف والهامشية والأقلية، أي توتاليتارية الريف المتحلل والمنغمس في الوقت نفسه بتراث وتقاليد البنية القبلية والعائلية.

أما الأزمة البنيوية للثقافة العراقية، فإنها تقوم في تحلل قيم التراكم المعرفي والعلمي بسبب انتصار نفسية وذهنية الراديكالية السياسية. ومن تضافر هذه الأزمات البنيوية الكبرى (الدولة والمجتمع والثقافة) تراكمت عناصر الصعود المحتمل للنزعة التوتاليتارية. واتخذت صيغتها أو صفتها المتخلفة والمدمرة من خلال تحويل التاريخ العراقي العام إلى زمن السلطة الخاصة، والنظام السياسي إلى تعصب العصابة، مع ما رافقه بالضرورة من تدمير لكل الاحتمالات الواقعية والعقلانية والطبيعية بالنسبة لتطور الدولة والمجتمع والثقافة.

• التوتاليتاريات الأوربية المتعددة كانت شكلا من أشكال الدولة القومية، بمعنى إنها ترتبط بأيديولوجية الدولة - الأمة. غير أنه توجد مظاهر أخرى لها يمكن أن نطلق عليها اسم شبه توتاليتارية كالبيرونية في الأرجنتين، والناصرية في مصر، والبولبوتية في كمبوديا. هل يمكننا القول أن التوتاليتارية الصدامية نتاج أزمة مشروع الدولة - الأمة في العالم العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص؟

إن التوتاليتارية هي مشروع البدائل الأيديولوجية الكبرى. وبالتالي فإن مشروع الدولة – الأمة احد مكوناتها أو احد مظاهرها. بمعنى انه يكون احد مظاهرها حالما يصبح مشروع الدولة - الأمة تعبيرا عن أزمة تاريخية كبرى. ومع ذلك فإن العلاقة بينهما لا تتصف بطابع الضرورة والحتمية. من هنا تلازم إشكالية الدولة – القومية أو صعود الأبعاد القومية المتطرفة في الفكرة التوتاليتارية حالما تتأزم حالة الدولة والأمة والثقافة، أي حالما تتضافر مكونات ثالوث الأزمات.

إن التوتاليتارية مشروع بديل شامل، وبالتالي ليس محصورا بإشكالية الدولة – الأمة. ومن الأدق القول، بأن التوتاليتارية ترتبط بثالوث الدولة – الأمة - الثقافة. وما لم تتوفر الأزمة البنيوية في هذه الأضلاع الثلاثة فمن الصعب توقع ظهورها واستتبابها وسيادتها وتأثيرها.

فإشكالية الدولة - الأمة كانت عند الجميع بوصفها جزء من صيرورة الدولة الحديثة. بل يمكننا القول أنها لحظة أزمات مستمرة وديناميكية. فالأزمة هي أيضا دليل حراك وديناميكية. وبالقدر الذي يمكنها أن تكون مقدمة للبحث عن بدائل يمكنها أن تكون ممرا لانتكاسات أخرى شنيعة. فعندما ننظر على سبيل المثال إلى التجربة الألمانية، فإننا نقف أمام ظاهرة جلية وهي أن التاريخ السابق للهتلرية كان يعاني من إشكالية الدولة- الأمة. وقد حلت الهتلرية هذه القضية لكنها دمرت ألمانيا. والشيء نفسه يمكن قوله عن ايطاليا. بينما لم تعان روسيا من إشكالية الدولة - الأمة على الإطلاق. إنها كانت تعاني من أزمة التخمة الإمبراطورية. بعبارة أخرى، إن أزمة الدولة في روسيا كانت اقرب إلى أزمة بنيوية للنظام السياسي، وأزمة مجتمع متنوع الأعراق والأديان والثقافات والقوميات غير متجانسة وغير متكاملة. والقيصرية لم يكن بإمكانها حل هذا التناقض. بينما كان تراث الصراع الثقافي في روسيا يتسم بعنف كبير بين تيار الوطنية القومية الأرثوذوكسية (الاوروآسيوية) والتيار الغربي الأوربي. وهو صراع ثقافي مرير انتهى بانتصار الثاني (الماركسية الألمانية والشيوعية الروسية!) من هنا أزمة الأيديولوجية المتأزمة بحد ذاتها. وقد أدى هذا الالتقاء الغريب إلى إنتاج توتاليتارية من طراز خاص!

ويصعب إدراج البيرونية والناصرية ضمن التيارات التوتاليتارية. كما يصعب الحديث عن شبه أو نصف توتاليتارية. فالتوتاليتارية نظام محكم و"متكامل". لكننا نستطيع الحديث عنهما بوصفهما دكتاتوريات "فاضلة" أو "عادلة" لكنها مفسدة في نهاية المطاف بسبب سيادة النزعة الراديكالية فيها. أما البولبوتية، شأن حالة النظام الشيوعي في كوريا الشمالية، فأنهما تجسيد نموذجي للتوتاليتارية الدكتاتورية.

أما في العالم العربي، فإن إشكالية الدولة – الأمة تتصف بقدر من التعقيد ا\أكبر بكثير مما هو عليه الأمر بالنسبة للدولة القومية الأوربية. فالعرب أمة ثقافية كبرى تعرضت للتجزئة التاريخية السياسية. لكنها تكاملت في دول عديدة وقادرة في الوقت نفسه على التكامل بهيئة عامة كبرى مع مرور الزمن. الأمر الذي أعطى لإشكالية الدولة – الأمة بعدا آخر مرتبطا بإشكالية بناء الدولة الحديثة. مع ما ترتب عليه من تأجيل فكرة الدولة - الأمة بالمعنى الدقيق للكلمة بوصفها إمكانية واقعية وحتمية. لكنها جزء من مشروع المستقبل. أما تطبيقه الجزئي فهو شكل من أشكال الاستعاضة عن هذه "الهفوة" التاريخية التي عانى ويعاني منها العالم العربي على امتداد قرون عديدة. أما المحاولات التي ميزت أيديولوجية البعث فإنها تتسم بقدر كبير من النزوع الراديكالي وغير الواقعي والطوباوية. من هنا انقلابها العنيف على فكرة الدولة – الأمة بما في ذلك في إطارها "القطري". وقد جسّد العراق البعثي الصدامي هذه الحالة بصورة نموذجية.

غير أن مقدمات نشوء التوتاليتارية فيه لم تكن نتاجا لازمة مشروع الدولة – الأمة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل نتاجا لعدم قدرته على حل إشكاليات الحداثة والنظام السياسي العقلاني. من هنا صعود الصيغة المتشنجة للفكرة القومية الكاذبة، بوصفها أيضا الصيغة المشوهة والأيديولوجية للفشل الفعلي في بناء الدولة الحديثة. بمعنى أن حل إشكالية الدولة – الأمة في العراق، كما هو الحال في كل دول العالم العربي، لا يفترض بالضرورة وضعه ضمن وحدة العالم العربي. على العكس، أنه يفترض في الظروف الحالية حلها الجزئي. بمعنى حل هذه الإشكالية على شكل "عينات" أو "جزئيات" تتمثل حقيقة الوحدة الكلية. وهذا أمر ممكن حالما يجري بناء الدولة الحديثة والمجتمع المدني المتكامل والثقافة العقلانية والإنسانية الحرة. وخلل أي مكون من هذه المكونات الضرورية في العالم الحديث لا يؤدي بالضرورة إلى ظهور نزوع توتاليتاري.

فالتوتاليتارية تظهر فقط حالما تتضافر وحدة الأزمة البنيوية في الدولة والأمة والثقافة. أما في العراق فقد كانت هذه الأزمات البنيوية تتنوع وتتبدل في تاريخه الحديث، لكنها لم تتضافر إلا بعد انتصار انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. قبل ذلك كانت جزء من تراث ديناميكي. أما بعد الرابع عشر من تموز فقد تحولت إلى أزمة بنيوية متفجرة بسبب سيادة الراديكالية السياسية وهيمنة الأقلية والطائفية المبطنة والأطراف والهامشية والحثالة الاجتماعية. وضمن هذا السياق يمكنني القول، بأن التوتاليتارية والصدامية نتاج للخروج على مشروع الدولة - الأمة. إنهما يمثلان "مشروع" الفئات الرثة والهامشية للأقلية بعد تلبسها بلباس الراديكالية السياسية (القومية).

• ما هي البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي ساهمت في ظهور الصدامية؟ وما هي الأساليب التي جرى استعمالها في تثبيت هيمنتها؟ وكيف استطاعت فرض مجموعة كبيرة من التحولات القسرية على المجتمع العراقي (القومية، والإسلامية، والعشائرية) التي أفقدته محددات تطوره التاريخي؟

من الصعب الحديث عن بنية اقتصادية واضحة المعالم ومحددة من حيث آلية فعلها المستقل بالنسبة لظهور الصدامية. غير أن إحدى محدداتها الكبرى ترتبط بطبيعة البنية التقليدية للعلاقات الاقتصادية وضعف التطور الاقتصادي. بمعنى عدم تراكمه الطبيعي وتغلغله في تغير البنية الاجتماعية والثقافية. وقد تكون فكرة سيطرة الدولة التامة من اجل إعادة "توزيع" الثروة هي الصيغة الأيديولوجية الجديدة للبنية التقليدية القائمة على فكرة المالك والمملوك، والسادة والرعاع، والكريم والمحتاج. وهي ظاهرة ليست سيئة على الدوام بحد ذاتها، لكنها تتحول إلى قوة مخربة حالما يجري نقلها من ميدان البنية الاجتماعية التقليدية إلى ميدان الدولة الحديثة. ومفارقة الظاهرة تقوم في تحولها إلى "مرجعية" فكرية سياسية كبرى في تاريخ العراق الحديث. من هنا فكرة ضرورة سيطرة الدولة على الموارد. وهذا بدوره لا يعني في الواقع سوى الصيغة المقلوبة أو الملطفة للتحكم التام والمطلق بالمجتمع والفرد. فالتحكم بالموارد هو الأسلوب الأعنف والأقوى للتحكم بكل شيء. وذلك لأنه يجعل من الدولة بداية ونهاية الوجود الفردي والاجتماعي من خلال ربط الجميع بها. مع ما يترتب عليه من تحويل المجتمع إلى أفراد. ومن ثم تفكيك المجتمع من التعامل مع نفسه بوصفه قوة اجتماعية ومصدر كل شيء.

وإذا كان الفكر السياسي العملي (الحزبي) قد نظر إلى هذه الحالة على أنها الذروة الكبرى والتمثيل الأمثل لتجسيد وتحقيق فكرة الحق والعدالة، فإنها كانت في الواقع تعمل على تدمير فكرة الحق والعدالة من خلال تهشيم فكرة الحقوق ومنظومة الحياة المدنية. وهنا يكمن المصدر الاجتماعي الاكبر لظهور الصدامية، وذلك من خلال تداخل وتفاعل البنية التقليدية وتدمير، بل واحتقار فكرة المجتمع المدني. ومنهما جرى توسيع و"تنظيم" إعادة إنتاج البنية التقليدية لما قبل الدولة.

أما البنية السياسية فإنها نشأت بدورها من تمثل هذه الرؤية الأيديولوجية الخربة عن سيطرة الدولة وتدمير المجتمع المدني التي بلغت ذروتها في اليقين التام بأفضلية "نظام الحزب الواحد". مع ما ترتب عليه من يقين دموي يلازمه بضرورة "تطهير" المجتمع من المعارضة أيا كان شكلها ونوعها وحجمها ومستواها. بمعنى "توحيد" الجميع وتسييرهم على شكل حشود جماهيرية، أي تصنيع الرعوية السياسية. ومنها يصبح الفرد الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد والسلطة الواحدة مجرد مظاهر لفكرة الواحدية المطلقة. وفي هذا تكمن مصادر الدكتاتورية.

فقد نشأت الصدامية في بداية الأمر على شكل دكتاتورية سياسية. وكلما كان يجري توسيع وتنظيم سيطرتها في مختلف ميادين الحياة ومستوياتها بمعايير الواحدية المطلقة كلما كان يؤدي إلى إرساء أسس التوتاليتارية. وبما أن مقدماتها الاجتماعية والاقتصادية تتصف بقدر كبير من التخلف والتقليدية، من هنا أصبح الرجوع إلى مختلف مظاهر البنية التقليدية أمر محتوما. فالبنية التقليدية قادرة فقط على إعادة إنتاج نفسها أي تكرار ما فيها. لكن خصوصيتها بالنسبة للصدامية تقوم أيضا في طبيعة العامل الأيديولوجي الذي جرى حشره في الوعي السياسي النظري والعملي البائس والقائل بالدور القائد والموجه والمرشد للحزب بوصفه قوة "طليعية" "للطبقة" و"الأمة". مما أدى إلى إنتاج مسخ غريب الأطوار في الفكر السياسي والبنية الاجتماعية يقوم في إرساء الدكتاتورية والتوتاليتارية على أسس تقليدية رغم شعاراتها الراديكالية الصارخة. بمعنى إرساء الدكتاتورية والتوتاليتارية للبعثية (القومية العربية) على أسس الجهوية والفئوية والقبلية والعائلية. وهي "ذروة" تعكس طبيعة البنية الثقافية الجديدة لما أسميته بالمسخ الغريب.

فقد كانت هذه البنية الثقافية الجديدة تقوم في مزاوجتها بين مكونات ومقومات ومثل ومعايير وقيم ومبادئ ومفاهيم لا تستقيم مع بعضها البعض. من هنا تنافرها الغريب. فالفكرة القومية تفترض كحد أدى الارتقاء على كل مظاهر البنية التقليدية في بناء منظومة الدولة والحكم والعلاقات الاجتماعية والقيم. بينما كانت الصدامية أكثر واشد الأشكال تخلفا للبنية التقليدية (الجهوية والفئوية والقبيلة والعائلية). وفي نفس الوقت أشدها تظاهرا بالشعارات القومية الكبرى. مما أدى إلى تصنيع بنية ثقافية جديدة جعلت من الأيديولوجية الفجة مصدرها ومرتعها، ومن أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين قوتها الفاعلة والضاربة. مع ما ترتب عليه بالضرورة من تدمير لبنية الثقافة الحرة. فالمهمة الوحيدة للثقافة والمثقف تقوم في خدمة السلطة. وفي هذه الخدمة تكمن مهمة ومسئولية الثقافة المثقف، وقدرهما ومصيرهما، وحريتهما وحياتهما! بحيث جعلت من تصنيع العبودية للسلطة الوظيفة الوحيدة "للإبداع".

إن كل هذه العملية الخربة لصعود الصدامية تعكس أولا وقبل كل شيء ضعف الحداثة وفشل بنائها في منظومة الحياة العامة والخاصة للدولة والمجتمع والفرد والثقافة. الأمر الذي جعل من الممكن بالنسبة للسلطة الصدامية أن تفرض رؤيتها ومفاهيمها بقوة التحكم الاقتصادي والقمع والإرهاب الذي لا مثيل له في تاريخ العراق الحديث.

فقد كانت "التحولات" الأيديولوجية التي فرضتها الصدامية على المجتمع مرتبطة بتمركز السلطة وفكرة الواحدية واستملاك الثروة الوطنية وإزالة فكرة القانون والدستور والشرعية. ومن ثم تحويل كل شيء إلى أداة ووظيفة في تجريب السلطة من اجل تثبيت هيمنتها وسيطرتها المحكمة، أي كل ما أدى في بداية الأمر إلى إرساء أسس الدكتاتورية الحزبية للبعث ثم الفردية لصدام. وذلك لأن كل التحولات "العقائدية" بهذا الصدد لم تكن في الوقع أكثر من صيغ تجريبية تهدف إلى توسيع مدى الدكتاتورية بسبب تلاشي وضعف أسسها الاجتماعية.

فقد كانت "الدولة الصدامية" بلا مجتمع ولا إنسان. من هنا تحول القومية إلى إسلامية (لسحب البساط أيضا من تحت أقدام المعارضة الجديدة، بعد سحق المعارضة السابقة). ثم الانتقال إلى العشائرية لأنها الملجأ الأخير لضعف وتلاشي الأسس الاجتماعية للدولة والسلطة. وفي هذا كانت تكمن مصادر الخروج على محددات التطور التاريخي للعراق، إي على مسار تاريخه الذاتي. الأمر الذي جعل من الصدامية تجسيدا فريدا لكيفية السير ضد مسار التاريخ الفعلي والطبيعي للدولة والأمة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم