قضايا

الميتافيزيقا ومفاهيم الفلسفة المعاصرة

علي محمد اليوسفيصف الدكتور محمد الشيخ في بحثه القيم (الميتافيزيقا في الفكر الفلسفي المعاصر) الميتافيزيقا بأنها باتت مفهوماً هلامياً في الفلسفة، من رام المكنة من معناه كالقابض على الماء، إذ صار يستعمل في زمننا هذا بما يتصور من الدلالات وما لا يتصور، بل استحال في بعض الاحيان إلى شتيمة، وكما قرأنا اكثر من مرة ان هيدجر يستعمل هذا الوصف ضد نيتشه، وبالمثل كما عثرنا في اكثر من مناسبة على دريداً يستعمله ضد هيدجر نفسه كأن لسان حال دريدا يقول: بالنسبة إلى هيدجر، آخر ميتافيزيقي هو نيتشه، هذا الذي لم يستطع تجاوز الميتافيزيقا، على انه لا غرابة ان نجد من ينعت جاك دريدا نفسه بالمفكر الميتافيزيقي، وبمثل ما استعملت لفظة (فاشستي) نعتاً قدحياً في المناقشات السياسية يلقيها المرء في وجه خصمه، كذلك استعمل وسم ميتافيزيقي، شتيمة في الفلسفة(1). وفي الوقت الذي نعت الفلسفة المعاصرة، موت الميتافيزيقا، الا انها صارت منتشرة في ادب الروايات الفرنسية تحديداً، في عناوين غرائبية طريفة منها: ميتافيزيقيا الانابيب، ميتافيزيقيا الكلب، خمارة ميتافيزيقية... الخ.

وفي ميدان النقد الادبي صار نقاد الادب يستعملون لفظة الميتافيزيقا في وصف كل امر عميق مبهم، حتى تم التأليف في (ميتافيزيقيا النقد الادبي)، وصّير ايضاً إلى تجنيس بعض الروايات ضمن جنس (الرواية البوليسية الميتافيزيقية) وحتى الكاتب الارجنتيني بورخيس استحدث جنساً ادبياً سماه (الادب الغرائبي الميتافيزيقي) ومثلما تحدث اوجين اونيسكو عن مسرح اللامعقول الذي انشأه بوسمه (مسرحا ميتافيزيقيا) ودعا إلى ضرورة تفادي السايكولوجيا في توصيف وتأدية الشخوص واعطائها بالاولى بعدا ميتافيزيقيا وفي مضمار الفن صار الحديث عن ميتافيزيقا الفن (ميتافيزيقا السينما)، وكذلك الرسم الميتافيزيقي، كما اصبحنا نسمع (ميتافيزيقا التواصل) و (ميتافيزيقا السوق) و (ميتافيزيقا المال) وفي حقل الدراسات الجنسانية، اضحينا امام الحديث عن (ميتافيزيقا الجنس) وعن (ميتافيزيقيا النوعين أو الجنسين) ودخل فلاسفة على الخط فكتب (فاشرو) عن (ميتافيزيقا العلم) وكتب ادور دونيكول عن (ميتافيزيقا التعبير) وكان شوبنهاور قد كتب عن (ميتافيزيقا الحب وميتافيزيقا الموت) على ان لا ننسى ان شوبنهاور هذا هو الذي ذهب إلى احد اغرب الافكار في تاريخ الجماليات حين اعتبر قبح الضفدعة قبحا ميتافيزيقيا (2).

وقيل في الميتافيزيقا مالم يقل في غيرها من مباحث الفلسفة وذلك حتى قيلت فيها الاقوال المتناقضة باشد تناقض يكون، فهي علم غامض، وقيل الضد انها الوضوح وقال الفيلسوف سالي بريدوم (1907-1939)، لا يتم الحديث عن الميتافيزيقا الا متى عدم امكان تصور الوجود، ولا تبدأ الميتافيزيقا الا حينما ينتهي الوضوح (3)، وعن وليم جيمس قوله: (ما كانت الميتافيزيقا سوى جهد عنيد للتفكير تفكيراً واضحاً)(4).

من جهة اخرى ذهب الفيلسوف الالماني جوتلوب فيختة، في رغبة حثيثة في ربط الفلسفة بالميتافيزيقيا، من حيث هي علم، تقوم على مبدأ (الانا) و (الحرية) وظل فيختة يلح في مختلف نظريات العلم على فكرة علمية الفلسفة، ونسقيتها وطابعها الكلي الضروري والتوليدي، حتى أعتبر البعض نظرية العلم التي ينادي بها انما هي آلة قياس منطقي جهنمي، شأنه ان يهدد مستقبل الفلسفة كله بالقضاء التام (5).

واعتبر جون ويزدوم (1904-1993) الميتافيزيقا جنون، بل جنون الجنون، واشار في كتابه الشهير (الفلسفة والتحليل) ان الميتافيزيقي عصابي مريض نفسياً وعقلياً يتوجب شفاؤه من مرضه قبلاً، وما الميتافيزيقا في نهاية المطاف سوى التعبير عن الجنون، وفي مقال بعنوان (مدخل إلى الميتافيزيقا) يقول برجسون: اذا ما كانت توجد ثمة وسيلة لامتلاك الحقيقة، بامتلاك مطلق بدل معرفتها نسبياً، والتمكن في جوّاها بدل تبني وجهات نظر خارجية، ولحدس ذاتها بدل تحليلها، انما شأن الميتافيزيقا انها العلم الذي يزعم تحلله من الرموز (6).

على ان البعض هاجم الميتافيزيقا بوسمها فكراً عقيماً ليس ينتج عنها شيء، بل اعتبروها نموذج الفكر العقيم، وتجسيده، والحال ان الميتافيزيقا هي المبحث الاول في الفلسفة، الفلسفة الاولى، وهي في الوقت ذاته اكثر المباحث الفلسفية اثارة للجدل، فما زال التشكيك في الميتافيزيقا يتسع وما زال الخوف على مستقبلها يمتد، والحق ان ثمة سؤالين ملازمين دوماً للميتافيزيقا على مدى التاريخ هما: سؤال المشروعية، بأي حق يمكن للانسان ان ينتج افكاراً ميتافيزيقية؟ وهل للدعوة لتلك الافكار من مبرر معقول؟ وسؤال المستقبل، أي مستقبل ينتظر الميتافيزيقا؟ اليست هي سائرة ان تلقى مصيرها الحتمي، الاختفاء إلى الابد؟.

ومن جملة هذه الدعاوى : ان الميتافيزيقا ماتت على يد نيتشة في القرن التاسع عشر اولاً، وقتلتها الوضعية الكلاسيكية ثانياً، والوضعية المنطقية ثالثاً، وفكر الاختلاف رابعاً، على ان الحقيقة أنها عاشت في القرن العشرين تبناها: راسل، كواين، ارمسترونج، لويس، مكتجارث، وايتهيد، ولهذا نجد من يعلن اليوم ان الميتافيزيقا لم تمت ولا انتهت (7).

ويعرف القديس توما الاكويني الميتافيزيقا: ان العلم الذي يدرس الاشياء المفارقة تمام المفارقة للمادة، ويدرس نشاط العقل الفعال الخالص، انما يسمونه الثيولوجيا، والفلسفة الاولى، والميتافيزيقا، وذلك بما ان منزلة موضوعاته تقع فيما بعد الاشياء الفيزيائية (الطبيعية).

الواقع ان الاستاذ امام عبد الفتاح في ترجمته لكتاب ارسطو: عبّر ما معنى ان الميتافيزيقا علم بالموجود، كأنه يعالج الرياضي الوجود من جهة (الكم) والفيزيائي يعتبره من جهة الحركة، أما الفيلسوف فينظر له على انه (الوجود). والسؤال الذي يطرح نفسه منذ زمن بعيد ولا يزال قائماً، وسوف يظل يربكنا دائماً، وهو (مالموجود)؟ أو بعبارة اخرى (ما الجوهر)، الجوهر هو ما يوجد اولاً، وكذلك مبادئه واسبابه، ولهذا السبب فأنه من الملائم تسمية الميتافيزيقا باسم الفلسفة الاولى (8).

وحين نريد تحديد موضوع الميتافيزيقا، عند ارسطو نصطدم بتعدد الاراء: هذا الفيلسوف الالماني فرانزبر انتانو (1838-1917) الذي خص مفهوم الوجود عند ارسطو ببحث شهير يقول: اعتماداً على الكتاب الرابع من مصنف الميتافيزيقا الذي هو (الجوهر) و (الوجود) (لئن كانت الميتافيزيقا حقاً هي علم الوجود بما هو موجود، فواضح اذن ان موضوعها الاساسي هو الجوهر، ذلك انه امام هذه التماثلات لمعنى الوجود، فأن العالم يعالج دوماً ما هو اولى به، على كل التوالي الاخرى، وتستمد منه اسمها، فقد تحقق ان الفيلسوف الحق مطالب بفحص مبادئ الجوهر وعالمه، فلا يستمد احقية واولية النظر في الوجود الا بدءاً من اعتبار الجوهر)(9).

أما هيدجر فهو يرى استناداً إلى الكتاب السادس من (الميتافيزيقا) ان ارسطو وجه الفلسفة الاولى (الميتافيزيقا) وجهتين:

1- بوصفها مسألة متعلقة بالموجود أي بكل ما هو موجود من حيث انه (موجود) مخالف لغيره (واحد) وكذلك بتجديداته.

2- بوصفها مسألة الوجود بامتياز (الموجود الالهي) بوسمه الموجود الاسمي والاعلى.

تمثلت جهود العرب المستحدثة في (الميتافيزيقا) في امور ثلاثة، اولها: التعريب وثانيها: التقريب، وثالثها: التوفيق، فقد عربوا اجزاء من كتاب الميتافيزيقا كما قربوها بشروحهم الكثيرة التي اشهرها شرح الفارابي، وشرح ابن رشد ثم انهم حاولوا التوفيق بين مبادئها ومبادئ اللاهوت الاسلامي من جهة كما حاولوا التوفيق بين الميتافيزيقا عندهم وميتافيزيقا افلاطون من جهة ثانية، وهكذا عدت المتيافيزيقا عند الكندي أو فلاسفة العرب (الفلسفة الاولى) أو (العلم الالهي) إلا ان المصطلح يستقر مع ابن رشد الذي فضّل العبارة (ما بعد الطبيعة) في تفسيره الشهير لكتاب (ارسطو) وقلده مفكرو العصر الوسيط بهذه التسمية(10).

عمل القديس توما الاكويني على (تنصير) الميتافيزيقا باضفاء مسحة نصرانية على مفاهيمها وموضوعاتها، وذلك مثلما كان جهد فلاسفة الاسلام في (اسلمة الميتافيزيقا) وما كان قصد الفيلسوف المسيحي هو تقديم تعريف نسقي لمفهوم الميتافيزيقا، ولكن يمكننا استنباط هذا التعريف من تعليقاته على كتاب ارسطو، والحال ان توما الاكويني اقام بدءا تسوية تامة بين الفلسفة الاولى- الميتافيزيقا واللاهوت، وسماها على طريقة العرب (العلم الالهي) كي لا تختلط بمفهوم (العلم المقدس) الذي يستند إلى الوحي لا إلى العقل على خلاف ما هي الميتافيزيقا، واعتبر توما الاكويني الميتافيزيقا العلم الذي يتعلق بما وراء الامر الطبيعي، ونعت بوسم موضوعات هذا العلم: الله باعتباره المحرك الاول والغاية النهائية، ومبدأ وحكم الاخلاق والنفس بوسمها خالدة، والملائكة، وقد تداخلت لديه الميتافيزيقا باللاهوت، لكن ها هنا فرق دقيق نبّه عليه ان مصدر اللاهوت هو الوحي الخاص، أما الميتافيزيقا فتلجأ إلى استعمال الذهن والعقل، أي المشترك بين بني البشر (11).

لدى الفيلسوف باومجارتن (1714-1762) حدد اربع مجالات أو محددات للميتافيزيقا هي: الانطولوجيا، الكوسمولوجيا، السايكولوجيا العقلية، اللاهوت الطبيعي، ويعني دراسة الله بالتنوير الطبيعي (العقل البشري)، هذا مع تقدم العلم، ان الفكر الميتافيزيقي الحديث، ورث عن المسيحية : الله ، الثيولوجيا، والطبيعة الكونية، الكوسمولوجيا، والانسان السيايكولوجيا، وهي المواضيع التي صارت تشكل مجال نظر الميتافيزيقا الخاصة، مقابل الميتافيزيقا العامة التي تعتبر الموجود بعامة سواء اكان الهاً ام انساناً ام طبيعةً (12).

بمجيئ (كانط) في القرن التاسع عشر اراد قلب موازين الميتافيزيقا رأساً على عقب، قراءة اولى ارتأت ان مراد (كانط) من مشروعه النقدي هو هدم الميتافيزيقا هدماً، حتى يفسح المجال للعامل (السبب) في توطيد اركانه، واستحال كانط، بهذا التوجه الراديكالي إلى فيلسوف (وضعي).

القراءة الثانية ارتأت بالضد من الاولى، ان الاصل في مشروع كانط، النقدي هو التأسيس لميتافيزيا جديدة تجعل من الانسان محور نظرها من حيث هو مبدأ كل حقيقة، بل مبدأ معنى الوجود ذاته، وها هو (كانط) في القراءة الثانية يستحيل إلى فيلسوف روحاني (13).

حسب ما يذهب له د. محمد الشيخ ان كانط بقي متأرجحاً بين النظرة القديمة التي اعتبرت الميتافيزيقا هي ملكة الفلسفة والعلوم، وبين نظرة الازدراء والاحتقار لها اليوم!! وفي هذا التناقض المار ذكره لدى كانط فهو لم يرد الاعتبار للميتافيزيقا القديمة، ولا تأسيس ميتافيزيقا جديدة تتجاوز القديمة.

ولو تتبعنا كما يرغب محمد الشيخ نجد ان منطق (كانط) فيه من القبول اكثر مما فيه من الرفض، ينطلق كانط من واقعة مشاهدة معاينة: ثمة بالفعل علمان قائمان بذاتهما راسخان، الرياضيات والفيزياء، يتقدمان ويحققان التطور بعد التطور، وذلك في حين انه توالت الاخفاقات تعقب الاخفاقات الميتافيزيقية، ولا يصدق احد انها تقدمت، أما الحال مع الرياضيات والفيزياء على حد سواء فهما من ثمرات العقل، فكيف بالميتافيزيقا النجاح والتقدم وفي مجالات العلوم التقهقر وهو مالم يحصل.

تنهض الانساق الميتافيزيقية على الوهم القائل بأن بمكنة العقل البشري معرفة امر الروح وطبيعة العالم وحقيقة الله، والحال ان هذه الميتافيزيقا ترتب عليها طوال تاريخها المديد انتاج معارف (شبيهة) لا (حقيقية) كما ان للعقول حداً تقف عنده، وان العقل محدود، وان من المعقول ان يعترف بحدوده، اوليس العجز عن الادراك ادراكاً؟

وكما يعبر الفيلسوف الالماني فيليب سنبر، ان الاصل في الدين الارادة، لا الايمان ولا التفكر، ولعل هذا يفسر لنا اعتبار ان ما دعاه (لا يبنتر) من ان العقل هو الذي من شأنه ان يكشف حقيقة الاله محض كبرياء لا دليل عليها، وتنسى عجز الانسان المتأصل فيه، وكيف ان المخيلة هي بانية علم عقلي ميتافيزيقي، شبيهي لا حقيقي (14).

كانط يميز لنا تمييزاً دقيقاً بين امرين التفكير والمعرفة، إذ التفكير في موضوع لا يعني انتاج معرفة عنه، فبأمكاننا ان نفكر في مواضيع الميتافيزيقا بل هذا نزوع طبيعي لعقلنا، لكن ليس في امكاننا ان ننتج معرفة موضوعية عن هذه الاشياء التي نفكر فيها، انما يصير التفكير توهيماً، أي انتاجاً للاوهام، وليس تعريفاً أي انتاجاً لمعارف (15).

ثم عمل كانط على انزال الميتافيزيقا من السماء، المتعالي (ما يتعلق بالغيبي) إلى الارض (ما يتعلق بالقبلي) معتبراً الانسان كائناً ميتافيزيقياً، لا فقط باعتبار قدره ان يفكر في موضوعات الميتافيزيقا الكلاسيكية الثلاثة (الله، النفس، والعالم) بل يحاول محاولة غير مشروعة انتاج معرفة بها، وانما بوسعه ايضاً الموجود الذي ليس يكتفي بأنتاج المعرفة، بما من عنديات الاشياء، وأنما يضيف اليها من عندياته، أي ما هو قبل ومن ثم كان هو كائناً ميتافيزيقيا بلا مدافعة (16).

هاجم نيتشه (كانط) لا كما يصفه ناقداً للميتافيزيقا كما رأينا وانما بالضد من ذلك بحكم ان الثورة الكانطية في حقيقتها ما كانت الا نصرة الدين على العقل وانقياداً لللاهوت، وما من فيلسوف بنظر نيتشه من افلاطون إلى شوبنهاور الا وانت واجد ان الباعث على تفلسفه والاحساس الديني عنده امراً واحداً، بل انك لواجد ان الحاجة إلى الفلسفة عنده ضروب من الحاجة إلى الميتافيزيقا، وحسبك ان تنظر إلى شوبنهاور الذي ظن انه يحارب العدمية فاذا به يصير لسان العدم، فأنت تجده يمجد الفن والحكمة والاعمال والدين والاخلاق والعبقرية، وذلك لا شيء الا لظنه انها معادية للحياة تواقة إلى العدم (17).

اراد كل من نيتشه وهيدجر تجاوز الميتافيزيقا وعلى انها اصبحت شيئاً فشيئاً من الماضي، مضى وانتهى، انما الامر بالضد من ذلك، فما حدث ان بلغت الميتافيزيقا قمة سطوتها في زمننا هذا، بحيث هي صارت الواقع المتحقق الذي يشهد عليه اعتبارنا للكائن ومعاملته بما هو الحق الواقع الوحيد (18).

ويمضي هيدجر في تراجعه عن الاجهاز على الميتافيزيقا، لا تقدم في الفلسفة ولا تقدم جلياً تنفي فيه المذاهب وتحفظها في الآن ذاته، وما كان من شأن تاريخ الفلسفة ان يشهد على التقدم، وبالتطبيق نقول: لا تقدم على الميتافيزيقا ولئن هو حق القول: ان هيجل دار بالفلسفة الدائرة واتمها، فحق القول معه ان هذه الدورة حجبت عنه مركز الدائرة (مسألة الوجود).

وما كان بحسب هيدجر تجاوز الميتافيزيقا، ليتم نقدها أو العلو عليها، أو القفز وانما بادراك (كنه الميتافيزيقا المستتر) بمعنى ان تجاوز الميتافيزيقا يفيد وضعها امام حقيقتها، أي استمرار امرها واستكناهه، وان من يفكر تجاوز الميتافيزيقا بالعلو عليها، فهم بعملهم يضيفون طابقاً جديداً لها، وبعد هذا وذاك ان الحديث المسترسل عن نهاية الميتافيزيقا، أو ان يحيا على نحو من النظر الميتافيزيقي أو ان يبني نسقاً ميتافيزيقياً، وانه ما عاد بامكان الانسانية ان تحيا على اساس ميتافيزيقي (19)، واهمية نيتشه في هذا المجال تتمثل في انه اول من ادرك الميتافيزيقا بما هي بنية متكاملة وكل الفكر الغربي، من اليوناني إلى نيتشه فكر ميتافيزيقي بالضرورة وما من عصر من عصور تاريخ الغرب إلا وتأسس على ميتافيزيقيا مخصوصة (20).

حسب تحليل د. محمد الشيخ فأن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ انحجاب الوجود، ومر هذا الانحجاب بمتراكمات على مد العصور لكن يمكننا تمييزه بمحطات: المحطة الاولى كان اقالة الطبيعة على نحو ما حدث عند نهاية الحضارة اليونانية، والمحطة الثانية: وهو حدث الاحداث كان في العصور الوسطى وتعلق بظهور مفهوم الخلق، واعتبر الوسطيون (القرون الوسطى) ان الموجود الممنوع خرج من يد الصانع الخالق الذي له وحده حق الخلق من العدم.

هذا المفهوم عن الوجود الموجود وهو الذي مهد لوضع هذا الوجود بيد الانسان، على نحو ما آل اليه الامر في عصر الحداثة، أما المحطة الثالثة في تاريخ الميتافيزيقيا هو ذهاب العصور الحديثة بفهم الوجود مذهباً قصّياً متطرفاً، وذلك بجعل الموجود صنيعة الانسان.

والحق ان (الختم) هنا يفيد معنى (قطع الدائرة) وعبورها يعني دائرة النظر في الموجود والعودة إلى البدء، لا عودة تقليد، وانما عودة تجديد وتحويل، وهو الامر الذي حققه نيتشة، فلئن حدد بارمنيدس الموجود، من جهة كينونته، بأنه كائن, وحدده هرقليطس بكونه ما من شأنه ان (يصير), فأن نيتشه ختم على هذا الامر ختماً، وذلك بأن اكد مختتماً بذلك الميتافيزيقا، ان الموجود هو بدءاً كائن، بمعنى انه ثابت ومؤكد، وانه تثنية، في خلق وتدمير دائميين، فكينونة الموجود صيرورته، الوجود هو الصيرورة بل ان نيتشه دفع الصيرورة ذاتها بدمغة الوجود، فهنا الموجود عنده هو ارادة قوة، وهي عدد ابدي يطلب القوة (21).

 

علي محمد اليوسف - الموصل

....................

(1) نقلاً عن د. محمد الشيخ، عالم الفكر، الفلسفة اليوم، مج 41، ع2، 2012، ص 11.

(2) نفس المصدر السابق، ص 13 بتصرف.

(3) نقلاً عن محمد الشيخ، عن Sully Prudhonime, Paris, 1895, p51.

(4) نقلاً عن محمد الشيخ، عن William James, Paris, 2006, p614.

(5) نقلاً عن د. محمد الشيخ، عالم الفكر، مج 41، 2012، ص 14، بتصرف.

(6) نفس المصدر السابق.

(7) نفس المصدر السابق، بتصرف، ص 16.

(8) نقلاً عن كتاب ارسطو مصنف الميتافيزيقا.

(9) د. محمد الشيخ، عالم الفكر، مصدر سابق، ص 20.

(10) نفس المصدر السابق، ص 24.

(11) نفس المصدر السابق.

(12) نفس المصدر السابق، ص 25، بتصرف.

(13) نفس المصدر السابق، ص 26.

(14) د. محمد الشيخ، المصدر السابق، ص 29.

(15) نفس المصدر السابق، ص 31.

(16) د. محمد الشيخ، مصدر سابق، ص 32.

(17) د. محمد الشيخ، مصدر سابق، ص 50،

Friedrich Nietzsch, No.441 (1981), Paris, p110, p121.

(18) Naltin Heidegger questionsm, p81.

(19) د. محمد الشيخ، نقلاً عن:

Martin Heidgger, Neizche, op.cit, p161.

(20) د. محمد الشيخ، نقلاً عن Martin Heidgger, Neizche, op.cit, p33..

(21) د. محمد الشيخ، مصدر سابق.

 

في المثقف اليوم