قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (16)

ميثم الجنابيالمحور الرابع: الأسس الاجتماعية والسياسية للظاهرة الصدامية (5)

• كيف استطاعت الظاهرة الصدامية التطابق مع الدولة في المخيال الاجتماعي العراقي؟ اقصد الدولة التي عمرها أكثر من ستة آلاف سنة من حيث وحدتها الجغرافية والثقافية؟

من الصعب الحديث عن تماه بين الظاهرة الصدامية وتاريخ الدولة العراقية ككل، سواء القديم منها والحديث. مما لا شك فيه أن الصدامية أرادت مصادرة تاريخ العراق شأن كل شيء آخر. بل يمكنني القول، بأن الميزة الجوهرية للصدامية تقوم في استعدادها التام للمصادرة. وهي الصفة الميزة للراديكالية بشكل عام. فالراديكالية السياسية المتخلفة لا تنتج غير الشعارات الجوفاء وحماسة الوجدان المشوه. وفي النهاية لا تنتج غير الأوهام بما فيها وهم المطابقة بينها وبين خصائص الأمة وتاريخها الذاتي.

فإذا كانت مصادرة الثروة والإنسان وروحه وعقله وتأييده وكل ما يدب وينمو داخل الأرض وفوقها هو الشغل الشاغل لها، فإن مصادرة التاريخ تصبح "مهمة" ضرورية من اجل إضفاء صفة القداسة التاريخية على مطلق السلطة. رغم أن ابسط مستويات البحث العلمي والتاريخي والثقافي تكشف عن سخافة وسذاجة هذا التوجه. لكن الصدامية بوصفها مسخا غريبا للدكتاتورية والتوتاليتارية لا ترى ولا تسمع ولا تفهم غير ما تريد. وما تريده كل شيء بوصفه أداة أو وسيلة خاضعة لإرادتها. من هنا قيمة التاريخ والتراث. لكنها مهمة خربة بحد ذاتها. ومن ثم مخربة للمساعي للأهداف القائمة وراءها. فالاهتمام بالتاريخ يؤدي إلى شحذ الرؤية النقدية. أما المحالات الحثيثة لصنع الأساطير فإنها قد تفعل لفترة وجيزة في تصنيع الوعي الزائف للأفراد والجماعات، لكنه سرعان ما ينحلّ في مواجهات العلم والعمل. فالعيش مع الأساطير لا يصنع غير تراكم الجهل والرذيلة. وهي مكونات لا يمكنها الصمود طويلا في معترك الحياة والمستقبل. وهو آمر جلي في رفض المخيال الاجتماعي العراقي لفكرة تطابق الصدامية مع الدولة العراقية. ولعل ما جرى ويجري بعد سقوط الصدامية هو احد المؤشرات الدقيقة بهذا الصدد. رغم أن المهمة كما يقال بحاجة إلى تأسيس أوسع وأدق وأكثر منظومية بهذا الصدد.

لم تفعل مصادرة التاريخ الذاتي للعراق ووضعه في ملفات القهر والإرهاب الصدامي إلا على صياغة صورة مفتعلة وقسرية لنفسها وللتاريخ. من هنا انهيارها واندثارها السريع. ثم انحلالها وزوالها من الذاكرة. وقد كشفت هذه الأحداث عن أن "الدولة الصدامية" مجرد زمن السلطة، أي فقدانها لتاريخ الدولة. والتماهي الذي جرى الحديث حوله هو مجرد وهم وسراب. فالفرق بين الدولة والسلطة، والزمن والتاريخ لا يمكن ردمه إلا في حال تحول الزمن إلى تاريخ. ويستحيل بلوغ ذلك دون أن تصبح السلطة أداة تجسيد المهمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية الهادفة إلى بناء الدولة الحديثة. فحقيقة الدولة هي تراكم الانجاز التاريخي للمجتمع وإعادة ترسيخه وتوسيعه وتحقيقه في منظومات ومؤسسات حية. أما زمن السلطة فهو مجرد مصادرة نهمة لما هو موجود.

إن حقيقة الدولة العراقية بوصفها كينونة تاريخية ثقافية تتماهى مع ذاتها من حيث كونها إمكانية، ومع المستقبل من حيث كونها وعيا ذاتيا. أما الصدامية فقد كانت سلطة فئوية جهوية طائفية عشائرية عائلية. وهي مكونات لا علاقة لها أساسا بالتاريخ والدولة والثقافة. كما أنها تتعارض وتتنافى مع تاريخ العراق بوصفه صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية. فالتاريخ العراقي وتاريخ الدولة لا يمكنه أن يكون مادة قابلة للصرف والبيع في مزاد الراديكاليات المتهرئة. ومحاولة الصدامية مصادرة تاريخ ستة آلاف سنة لحسابها الخاص مجرد احد الأوهام القاتلة على الأقل بالنسبة للفكرة القومية المعلنة للبعث والصدامية. وذلك لأن هذه المساعي كانت تتضمن في أعماقها على ما يمكن دعوته بالخطوة الأولية في الفصل بين الفكرة القومية العربية والوطنية العراقية. وهو تناقض يعكس في الواقع التناقض الدفين بين جهوية فئوية متخلفة ومحاولة امتلاك العراق بتاريخه العريق.

مما سبق يتضح، بأن محاولة الصدامية في تمثيل تاريخ الدولة العراقية ككل هو الوجه الآخر لمحاولة مصادرته. وليس ذلك معزولا عن نفسية المصادرة المميزة للراديكالية السياسية والهامشية الاجتماعية المتخلفة والتقليدية. وإذا كانت خصوصية الراديكالية الصدامية تقوم في طابعها العصابي، أي في كونها الوجه الآخر للهامشية والاطرافية والأقلية، من هنا يمكننا توقع حماسها في نفخ "الروح الإمبراطوري" والتشبه بشخصيات الماضي الكبرى وتطويعها لخدمة الغرور الشخصي المريض. بمعنى محاولة الصدامية جعل عظماء الماضي عبيدا في دعايته الفجة. لكنها لم تكن في الواقع سوى مصادرة حمقاء لا قيمة لها بالنسبة للتاريخ. وذلك لأن "مصادرة" العراق وتاريخه الذاتي ممكن فقط من خلال رهن العقل والحس والحدس الروح والجسد لمصالحه الكبرى والعمل بمعايير مرجعياته الثقافية الخاصة وليس من خلال سرقة تراكمه التاريخي.

فالتراكم التاريخي طبقات لا يمكن سرقتها، كما لا يمكن تشويهها. من الممكن التلاعب بها في مجال الوعي السياسي والأيديولوجي، لكنها لعبة وهمية لا قيمة لها بالنسبة للتراكم التاريخي ذاته. ذلك يعني أن محاولة سرقة التراث التاريخي للعراق وتاريخه الذاتي، تكشف عن طبيعة الجهل الثقافي المطبق للصدامية بوصفها أيديولوجية أقلية انعزالية لا تفقه حقيقة العراق. من هنا قرف العراق الفعلي من الصدامية. إن صدام بالنسبة للوعي التاريخي الثقافي العراق أشبه ما يكون بيزيد بن معاوية، أما عائلته فأشبه ما تكون بالشمر بن ذي الجوشن وأعوانه. وهي الصورة الفعلية للمخيال الاجتماعي العراقي تجاه الصدامية.

• لم يستطيع المجتمع العراقي منذ ظهور الصدامية بوصفها تركيبة سياسية أن يبلور تنظيما مؤسساتيا قادر على تحجيم هذه الظاهرة. أين يكمن الخلل السوسيولوجي في ذلك؟

إن الجذور التاريخية لهذه الظاهرة، أي ضعف قدرة المجتمع على التصدي للظاهرة الصدامية تكمن في تداخل وتفاعل التركة العثمانية والضعف البنيوي للدولة العراقية الحديثة وصعود الراديكالية السياسية المبكر. لقد صنع هذا الثالوث الأسباب الرئيسية للخل الاجتماعي، أو الضعف الاجتماعي الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور وصعود وسيطرة واستحكام الصدامية.

فقد أدى هذا الثالوث إلى إصابة المجتمع العراقي الحديث، أي المرتبط بظهور الدولة الحديثة منذ عشرينيات القرن العشرين بما يمكن دعوته بخلل التوحد الاجتماعي الاقتصادي والثقافي. فقد كان (وما يزال) المجتمع العراقي يعاني من بقايا التجزئة القديمة (التقليدية والطائفية)، أي ما يمكن دعوته بالبقايا العثمانية. أما الخلل البنيوي للدولة الحديثة فيظهر في ربط رأس مستورد وجسد مغترب عنه، أي ملكية من خارج معاناته الذاتية، بمعنى أنها ليست صنيعة العراق وليست صانعته ولم تضح من اجله ولم تكتسب هيبتها الروحية في مجرى كفاح مرير من اجل إخراجه إلى عالم الوجود من عدم العثمانية الطويل. أما السلطة ورجالها فقد كانت عثمانية التربية، طائفية الهوى (سنية). لقد أدى هذا إلى عرقلة إمكانية التوحيد الاجتماعي للدولة. غير أن المسار الطبيعي لتوحيد الجغرافيا السياسية للدولة وتفعيل طاقتها قد أدى بصورة تدريجية إلى تراكم نوع من التكامل الاجتماعي الوطني. لكنه ظل يعاني من أزمات بنيوية خفية. وليس مصادفة أن يلاقي انقلاب الرابع عشر من تموز 1958 تأييدا قويا من جانب الأغلبية العراقية (الشيعية) ومعارضة خفية وعلنية من جانب القوى "القومية العربية" (السنية). كما أن الانقلابات اللاحقة كانت أساسا من قوى "سنية" أي فئوية جهوية طائفية مغلفة بشعارات قومية مزيفة. وفي مجموعها كانت محكومة بتقاليد العثمانية القديمة. بمعنى أنها كانت تستعيد تقاليد النفسية العثمانية.

إن الحصيلة المشار إليها أعلاه كانت وما تزال تصنع خميرة الخلل الاجتماعي. وهو خلل أصبح جليا في المرحلة الصدامية، وبالأخص زمن تحللها بعد حرب "عاصفة الصحراء". لقد تكشفت بصورة جلية للعيان كل باطنها الفعلي. لقد كشفت تلك المرحلة وما بعدها عن وجود نوعين أو مستويين أو شكلين أو صنفين من العراق. احدهما عراق السلطة الجهوية الفئوية والأقلية الطائفية، وعراق التبعية المقهور بقوة العنف والإرهاب الشامل. الأول يمتلك كل شيء، والثاني لا يمتلك شيئا باستثناء روحه وقيمه الباطنية. إن هذه التجزئة الفعلية كانت (ولا تزال) تفعل (وإن بصورة مقلوبة) على إضعاف ظهور تركيبة سياسية اجتماعية تنظر وتخطط وتفعل وتعمل بمعايير الأبعاد الاجتماعية الوطنية العقلانية والإنسانية. وليس مصادفة ألا توجد أحزاب وقوى سياسية وطنية عراقية عامة بالمعنى الدقيق للكلمة. فحتى الشيوعية "الأممية" لم تكن في الواقع أكثر من تركيبة سياسية مغلّفة بغلاف الأيديولوجية "الأممية" للأقليات العرقية (الكردية أساسا) والدينية والمذهبية. وليس مصادفة أيضا ألا تبقى في الوعي الاجتماعي العادي صورة للشخصية الوطنية العراقية غير عبد الكريم قاسم.

بعبارة أخرى، إن الوعي العادي كان يحس بطريقته الفطرية والمباشرة فكرة الوطنية العراقية (بوصفها فكرة اجتماعية أولا وقبل كل شيء) على أنها فكرة "شخصية". فهو لم يراها إلا في شخص واحد وليس في أحزاب أو تيارات سياسية. وفي هذه الحصيلة يمكن رؤية سبب الخلل الاجتماعي في ضعف العراق على مواجهة الصدامية، بوصفها ظاهرة سياسية مطلقة العداء والكراهية للفكرة الوطنية الاجتماعية العراقية.

• لقد لازم صعود الفئات الريفية بأيديولوجيتها القومية الرثة (الشوفينية والعسكرتارية) إلى السلطة في عراق الستينات، ظهور الدولة التوتاليتارية. هل يمكن اعتبار ذلك نتاجا لأزمة تكوين الطبقة البرجوازية العراقية وهشاشة مشاريعها الفكرية؟

إن الترابط بين الاثنين جلي للغاية. والسبب يكمن في أن التوتاليتارية تعيش على طحالب الرعاع والفئات الرثة. فهي بقدر واحد وقودها وطاقتها وأداتها. وتجارب التوتاليتاريات عموما تبرهن على أنها نقيض للفئة المثقفة والمتعلمين. غير أن لكل تجربة خصوصيتها بهذا الصدد. مع أن اغلب التجارب التوتاليتارية تكشف عن أن صعودها في الأغلب هو نتاج احتكاك ومعارك الشيوعية والقومية العنصرية. الأمر الذي يشير إلى إنهما كلاهما مظاهرا لحالة وغاية واحدة رغم اختلافهما وتناقضهما الحاد أحيانا. لكنه تناقض واختلاف محكوم فقط بالرغبة العارمة في تصفية كل ما عداه من اجل احتكار تطبيق الفكرة التوتاليتارية. أما الأدوات والوقود فهي عينها، بمعنى استحالة انجاز البنيان التوتاليتاري دون قاعدة جماهيرية عارمة. وعادة ما يجري تصنيعها لاحقا بقوة العنف والإرهاب المادي والمعنوي المنظم. مع تركيز على الجيل الصاعد من خلال غسل الأدمغة وحشوها بقدر محدود من الشعارات والكليشات الجاهزة وتربيتها على قدر محدود من المفاهيم المنهجية البسيطة والسهلة والحادة والمقتضبة.

ومن الممكن رؤية هذه الظاهرة في عراق الستينيات، أي بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. فقد وّفر هذا الانقلاب إمكانية التسريع الراديكالي للحركة الاجتماعية والسياسية بما في ذلك الانتقال الاقتصادي والنزوح البشري والاجتماعي وبالأخص من الأرياف والقرى إلى المدن. وهي عملية متناقضة. لكننا نستطيع إفراز اتجاهين ومستويين فيها. الأول اجتماعي اقتصادي والثاني سياسي. لكنهما متلازمان من حيث توسيع الهوة بين مراحل التاريخ الفعلي في العراق ومن ثم صنع فجوات كبيرة في الوجود والوعي أصبح من السهل اختراقها من جانب القوى المغامرة، أي كل ما أدى إلى ما ادعوه بانتقال الأطراف إلى المركز. لكن مفارقة الظاهرة في تاريخ العراق السياسي تقوم في أن هذه العملية السريعة والخاطفة قد أدت إلى تفعيل تقاليد البنية التقليدية والطائفية عوضا عن أن تؤدي إلى صنع مقدمات الذوبان الاجتماعي الاقتصادي ومن ثم التكامل التدريجي في بنية العراق الوطنية.

فعندما نتأمل حيثيات ونتائج هذه العملية بعد نصف قرن من الزمن فإن طابعها المفارق في تاريخ العراق السياسي يقوم في أنها كانت من حيث الجوهر تتماهى مع تقاليد طائفية سياسية مبطنة. إذ نعثر فيها على مقدمات مغامرة سياسية سنيّة الأطراف، وترييف اجتماعي واقتصادي شيعي الهوى. وهي المقدمات الدفينة التي ما زالت خارج التحليل والدراسة النقدية من اجل تذليلها التام، بوصفه أحد الشروط الضرورية لتذليل بقايا التوتاليتارية. مما يفترض بدوره التحرر والتخلص بصورة تامة من ثقل التنصيف الأيديولوجي لمختلف المدارس الفلسفية السطحية كالماركسية وأمثالها. بعبارة أخرى، إن المهمة تقوم في تقديم دراسات سوسيولوجية تاريخية اقتصادية دقيقة ترصد كل مكونات وطبقات هذه العملية المتراكمة والمعقدة من اجل تقديم صورة دقيقة عنها.

فالطبقات البرجوازية لم تتكون في الغرب الأوربي إلا في مجرى قرون. والعراق المتهرئ لم يكن بإمكانه إنتاج برجوازية ذات مشاريع خاصة في مجرى ثلاثة عقود من الزمن!! إن الفكرة الشيوعية المسطحة عن البرجوازية (كراهية بلا معنى) وحب طبقات عاملة لا وجود لها، وسفسطات غير متناهية جعلت من أتفه الكتاب "علماء" في كتابة التاريخ، وتحول كتاباتهم إلى مصادر للرؤية التاريخية السوسيولوجية!! بعبارة أخرى، ليس للبرجوازية من اثر ومكان في هذه الخارطة التعيسة للوعي السياسي العراقي. إن المشكلة تكمن في هيمنة الأيديولوجية الراديكالية ذات الأصول الريفية والهامشية والاطرافية. إضافة لذلك هناك أمور أخرى متعلقة بالشخصية العراقية مازالت خارج إطار الدراسة العلمية والتاريخية والثقافية الرصينة. فالشخصية العراقية لا تخلو من سريالية غريبة. ويمكنها أن تصبح بقدر واحد موضوعا للتصوير الأدبي والتحليل العلمي!

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم