قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (17)

ميثم الجنابيالمحور الرابع: الأسس الاجتماعية والسياسية للظاهرة الصدامية (6)

• عندما نتأمل الحقل الأيديولوجي والسياسي للمجتمع العراقي في حقبة نهاية خمسينيات القرن العشرين، فإننا نقف أمام ظاهرة صعود النزعات الراديكالية، وانهيار اليسار العراقي التقليدي، والسبات المستديم للتيارات الليبرالية، واستفحال النزعات القومية والطائفية. إلى أي مدى ساهم ذلك في بلورة الصدامية؟

إن الحالة الأيديولوجية والسياسية التي ميزت العراق في نهاية خمسينيات القرن العشرين تعكس طبيعة ونوعية التراكم المشوه للراديكالية السياسية. وإذا كان من الممكن استعمال كلمة "حقل" بهذا الصدد فهو حقل اجدب، أو بصورة أدق إنها حقول مالحة كالحة لم تصنع في نهاية المطاف غير صحراء الفكر والفقر. فهي تشبه لحد ما الحالة التي صورها عبد الرحمن منيف في (مدن الملح)، على الأقل من حيث الرمز والمعنى. والشيء نفسه ينطبق على الحالة السياسية. ولم يكن ذلك معزولا عن صعود وهيمنة الراديكالية السياسية. أما خصوصيتها فتقوم في كونها ليست نتاجا عرضيا أو جانبيا على أطراف التيار العقلاني للمدارس الفلسفية والثقافية. الأمر الذي جعلها تطفو على سطح المياه الجارية كما لو أنها فقاعات مجهولة الهوية. وليس مصادفة أن تكون كل التيارات الراديكالية السياسية في العراق حصيلة تقليد فج في العلم والعمل. الامر الذي جعل من الراديكالية العراقية راديكالية سياسية بدون مقومات خاصة بها. كما أنها كانت تفتقد إلى تمثيل وتعبير اجتماعي وثقافي. من هنا انعدام أو ضعف الحرية والإبداع وانتشار التقليد والتبعية والعبودية في صفوفها.

إن المفارقة الفعلية للحياة السياسية في العراق وتاريخ الفكر السياسي فيه تقوم في أن سيادة ما يسمى باليسار هو مجرد وهم دعائي وأيديولوجي. والقضية ليست فقط في انه لا "يسار" بالمعنى الأوربي بل ولفقدانه لابسط مقومات الرؤية النقدية، بوصفها الصفة الملازمة لما يسمى بالتيارات اليسارية. ففي العراق لا يمكننا الحديث عن يسار تقليدي وآخر غير تقليدي. فالجميع تقليديون بكافة المعاني. كما أنه يتصف بقدر هائل من الفقر المعرفي وثراء يساويه في الهياج والمرح البليد! لهذا لا يمكنني الحديث عن انهيار "اليسار التقليدي"، بقدر ما يمكننا الحديث عن أزمته الشاملة وانقراضه التدريجي. وهي عملية تاريخية تعكس النضوج المتأخر للوعي السياسي العراقي. فإذا كان المقصود باليسار التقليدي هو التيار الشيوعي، فإنه كان احد النماذج الفاقعة للراديكالية السياسية المعزولة عن ابسط مقومات إدراك الواقع والتاريخ والثقافة القومية. من هنا انقراضه الحالي. وكل محاولة لإحيائه دليل على جمود الذهنية وانحطاط العقل والوجدان.

فقد كان تاريخ التيار الشيوعي ليس أكثر من زمن الاصطناع للقيم والمفاهيم والشعارات. وعموما أن الشيوعية من حيث الجوهر هي أيديولوجية القمع المبطن. وإذا كان هدف الشيوعية المعلن هو بلوغ "ملكوت الحرية"، فإن حقيقتها إحكام منظومة القمع والعبودية. وهي تستعيد مضمون الفكرة اللاهوتية القائلة، بأن بلوغ الجنة الإلهية يفترض استحكام فكرة العبودية لله في الروح والعقل والجسد. بمعنى إبراز جوهرية وضرورة العبودية. فالإله اللاهوتي ليس إلا الوجه الآخر لمقدسات الأيديولوجية الشيوعية. من هنا اشتراكهما في كل شيء واختلافهما في المظاهر. بل ويقتربان أحيانا بهذا الصدد بشكل شبه تام.

إن اليسار الشيوعي هو صنيعة حالة جيوسياسية عالمية خارجية. وطربه بالانتصار التاريخي للاتحاد السوفيتي هو مصدر قوته الذاتية. بمعنى أن كل ما فيه ليس له. من هنا هوس الشعارات وغلبتها القاتلة بالنسبة للفكر والتفكير. ووجد ذلك انعكاسه في السلوك العملي في نهاية الخمسينيات عندما جرى الخروج على منطق التاريخ الطبيعي للدولة العراقية والانهماك في تمجيد الانقلاب العسكري والسير بخطاه والعمل على تجييش النفس الاجتماعية في مختلف نماذج الخطاب السياسي المتخلف. الأمر الذي جعل من الشيوعية العراقية تيارا لا علاقة له من حيث الجوهر بفكرة "اليسار" بالمعنى الأوربي، بل يمكنني أن أطلق عليها اسم شيوعية الجهل والرذيلة الأخلاقية. رغم أنها الصفة الغالبة على كافة التيارات الشيوعية في كل مكان. ولم تكن هذه النتيجة معزولة عن الفكرة الشيوعية باعتبارها أيديولوجية العوام والتسطيح الفكري والوجدان غير العقلاني. ومن الممكن العثور على مظاهرها في كمية ونوعية الخطاب المشحون بلغة الدم والانتقام والعداء والخصومة والصراع والتحدي وما شابه ذلك. وينطبق هذه بالقدر ذاته على كافة التيارات الراديكالية السياسية في العراق بدون استثناء.

وليس مصادفة أن يتميز اليسار الشيوعي بيقينه التام بان كل ما عداه لا قيمة له ولا يستحق الوجود. من هنا غلو العقيدة والعقائدية، والسيادة المطلقة لنفسية العوام. بينما لا عوام في الفعل والواقع. إذ لا نخبة سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة وسط "اليسار التقليدي". فالجميع عوام! وإذا أضفنا لكل ذلك عناصر الجهل والتخلف وأصول الأقلية العرقية البدائية، والدينية، والطائفية وما شابه ذلك فيمكننا توقع استفحال ذهنية الانغلاق والتعصب. وليس مصادفة أن يتحول الحزب الشيوعي مع مرور الزمن إلى وكر السيادة المطلقة للأقليات والهامشية وبالأخص في قياداته. وهي حالة طبيعية! فالشيوعية بطبعها ليست طبيعية! وإلا فكيف يمكن لحزب سياسي "عريق" و"مؤثر" وما شابه ذلك أن يقتنع بقيادة شخصية جاهلة ومتخلفة مثل عزيز محمد، الذي قاد الحزب إلى جانب "مكتبه السياسي" الكردي في غضون عقود عديدة من الزمن! بينما لا يصلح هو ومن حوله من وجهة نظري لأن يكون أكثر من "بوي" في إحدى البارات العراقية القديمة، أو حارس على أبواب إحدى محلات بيع الخضروات في الأسواق الشعبية! وينطبق هذا بالقدر ذاته على من مات ومن بقي منهم حيا أو رجع إلى أصوله العرقية والمذهبية والفئوية والجهوية والطائفية.

الشيوعية جامع يجمع مؤمنين بضرورة الخروج على منطق التاريخ الطبيعي للدولة والأمة والثقافة القومية! من هنا كمون المصادر المخربة في أعماقها. وقد يكون تخريبها الأكبر في رفعها سدود الجهل المطبق والعداء التام للفكرة الليبرالية، أي لمختلف نماذج الفكر الحر وفكرة الحرية. وبالتالي لم يعن صعود الراديكالية السياسية الشيوعية سوى أحد مظاهر سحق وقتل الفكرة العقلانية وفكرة الحرية، أي كل ما سيساهم لاحقا في تنافسها المرير مع التيار البعثي وغيره. والحصيلة تدمير الجميع من خلال تهيئة كل الممكنات التي أدت إلى ظهور وسيطرة الصدامية بوصفها اشد مظاهر التخلف الراديكالي.

فإذا كانت الراديكالية عادة ما تؤدي إلى تخريب للعقل والضمير، فإن الراديكالية السياسية هي تخريب لكل شيء. إنها تستنهض الرفض والعدوان والانغلاق والجمود. إضافة لذلك أن الراديكالية السياسية العراقية في الواقع هي سلفية "دنيوية". والأولوية فيها للسلفية على الدنيوية. إنها بلا تاريخ اجتماعي ولا تقاليد إصلاحية ولا تنوير ولا ثقافة قومية عقلانية. وليس مصادفة أن تصبح عندها حتى كلمة الليبرالية شتيمة، كما تصبح كلمة العلمانية (الدنيوية) شتيمة في الفكر السلفي الإسلامي المتخلف. مع أن مصطلح الليبرالية يعني فكرة الحرية والعلمانية تعني الدنيوية.

إن الفكرة الليبرالية في العراق لم تعان من سبات، بل جرى مواجهتها ومحاصرتها ومحاربتها بكل ترسانة القسوة والكراهية المميزة للغباء والحماقة الملازمة للراديكالية السياسية العراقية. ولم يكن ذلك معزولا عن أصولها الاجتماعية الرثة في مراحل انحطاط الريف وتحلله في مجرى تطور الدولة العراقية الحديثة. من هنا سلسلة التناقضات المشينة القائمة على سبيل المثال في ادعاء (الحزب الشيوعي على سبيل المثال)، بأنه حزب المثقفين وسعيه لمصادرة كل من يجري الوصول إليه، واحتقاره في الوقت نفسه للمثقف. وتعكس هذه الحالة عقدة النقص وانفصام الشخصية الملازم لعقدة النقص الشيوعية. فالشيوعية هي غلاف جذاب للانفصام الشخصي وعقدة النقص. وليس مصادفة أن يكون قادة الحزب الشيوعي بدون استثناء جهلة وأميين عندما يجري النظر إليهم بمعايير التأسيس المعرفي والأكاديمي والاحتراف العلمي. أما الليبرالية الحقيقية فإنها تيار المعرفة والعلم والحقوق والحرية والتأسيس العقلاني للفعل الفردي والاجتماعي. كما أنها فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي بالمعنى التاريخي. بل أن تاريخ التقدم المدني والحضاري والعلمي والإنساني الحديث والمعاصر مرتبط بالفكرة الليبرالية وتقاليدها الفكرية والسياسية. إنها صانعة التاريخ الحديث. أما في العراق، فإنها صنيعة الحالة المعكوسة. من هنا ضعفها التاريخي.

أما النزعات القومية في العراق فقد كانت في اغلبها طائفية مقلوبة. إذ لم يعرف العراق لحد الآن حقيقة الفكرة القومية العربية. وهنا يكمن مصدر ضعفه وقلقه وتذبذبه الداخلي وعدم تكامل هويته بما في ذلك الوطنية، بسبب انعدام الفكرة القومية السليمة. فالبعثية والناصرية ليست أفكارا قومية، لأنهما لم يستندا إلى فلسفة سياسية عقلانية. فقد كانت الناصرية قومية بالمعنى الشخصي، أما البعثية فإنها فكرة قومية على مستوى الحدس والوجدان. في حين كان العراق وما يزال يعاني من انعدام أسس اجتماعية واقتصادية وثقافية ضرورية للفكرة القومية. الأمر الذي جعل من الفكرة القومية وجها آخر للشيوعية العراقية. وبالتالي، فإنهما كلاهما وجهان لظاهرة واحدة – راديكالية الحثالة الاجتماعية.

إن الراديكالية العراقية السياسية هي الموجة الهمجية لمحاربة النزعة الإنسانية والعقل النقدي وفكرة الحرية. وقد ساهم الجميع فيها كل على قدر ما فيه من حمية وإفراط في التعبير عنها. بحيث جرى تحويل التاريخ العراقي الحديث والمعاصر إلى زمن الاحتراب والتدمير والانحطاط المادي والمعنوي للدولة والمجتمع والثقافة. وفي هذا كانت تكمن مقدمات الاستفراد والاستعداد لاقتراف كل الجرائم باسم "القيم الثورية" و"القومية" وما شابه ذلك.

إن الراديكالية السياسية العراقية هي تيار الاقتلاع التام لأبسط جذور الحياة المدنية وفكرة الحق والحقوق. الأمر الذي جعل منها مرتعا لقبول التوتاليتارية. فالنخب السياسية الراديكالية كانت من حيث الجوهر توتاليتارية التربية والنزوع والتوجه. الشيوعيون سلفيون ماركسيون، والبعثيون سلفيون قوميون، والإسلاميون سلفيون بحكم السليقة أو المذهب! فالعراق منذ خمسينيات القرن العشرين لم ينتج بهذا الصدد شيئا غير لاهوت السلفية المتنوعة. من هنا جموده وتخلفه المريع الذي لم تكن الصدامية إلا احد مظاهره وأكثرها غلوا في الخروج على منطق التاريخ القومي (العراقي).

• الظاهرة الصدامية نتاج عصر الحداثة القائم على إلغاء الهويات الفرعية لصالح تمركز هوياتي واستبعاد التنويعات الثقافية وعدم الاعتراف بالمشتركات القومية والعرقية والدينية والدمج القسري للجماعات البشرية لتكوين دولة. مع انهيار الكتلة السوفيتية دخلت هذه الظاهرة في الطور الأخير من أزماتها الدورية. إلى أي مدى يمكننا الحديث عن نهاية تاريخ هذه الظاهرة؟

إن مفارقة الصدامية تقوم في كونها "نتاج" مرحلة الحداثة ولكن بالضد منها! بعبارة أخرى، إنها ليست نتاجا واعيا لعصر الحداثة، بل نتاج الخروج على منطق الحداثة. فالحداثة تلغي الهويات التقليدية مع الإبقاء على التراث بوصفه جزء منفيا من تقاليد المعاصرة. كما أن التمركز في الحداثة مبني على وحدة العقلانية والحرية والحقوق. وهي المبادئ أو الأسس الضروري التي يستحيل بدونها بناء الدولة الحديثة وتطورها المستديم. كما أنها الأسس التي ترتكز عليها فكرة الوحدة الحديثة.

إن ماهية الوحدة في الحداثة ليس واحدية محكومة بقيم القبيلة والعائلة والجهوية والفئوية، أي بمختلف نماذج ومستويات البنية التقليدية لما قبل الدولة الحديثة. إن الوحدة في الحداثة تتطابق مع فكرة وحدة التنوع وليست أحادية الكلّ، وذلك لأن مضمون الوحدة والكلّ مبني على أسس العقلانية والحرية والحقوق. فهي المبادئ الليبرالية الكبرى التي أرست أسس الدولة الحديثة والنظام الاجتماعي الديمقراطي في مجرى صراع مرير ومعقد المستويات والاتجاهات. ورافقه تضحيات هائلة وحروب داخلية وخارجية. غير أن مجراها العام كان يسير ضمن سياق الفكرة الليبرالية العامة. أما الصدامية فقد كانت بالضد من كل ذلك. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأنها لم تدخل عالم الحداثة. وليس مصادفة أن يكون سعيها المحموم للوحدة لا يتعدى كونه سعيا قسريا وبدائيا للاستفراد في الحكم والسيطرة والمصادرة. وهذا شيء لا علاقة له بفكرة تمركز الهوية القومية والدولتية. الأمر الذي نجده واضحا في انعدام تمركز الهوية الوطنية والقومية للعراق، مع ما رافقه من تشتيت وتفتيت للوحدة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والأعراف وغيرها، أي تفتيت كل "الهويات" المعقولة والاستعاضة عنها بهويات البنية التقليدية القديمة والبدائية. كما جرى تفتيت بل إعدام الوحدة الثقافية في همومها الحية والاستعاضة عنها بواحدية أيديولوجية مزيفة مربوطة بقوة العنف والإرهاب.

مما سبق يتضح بأن الدمج القسري والإرهاب الشامل ورفض التنوع الذي حولته الصدامية إلى أسلوبها الوحيد في التعامل مع الدولة والمجتمع والقومية والثقافة وغيره لا علاقة له بالحداثة، بقدر ما هو جزء من تقاليد الحثالة!

إن فكرة الحداثة وثيقة الارتباط بفكرة مركزية الدولة والوحدة القومية. فالحداثة ممكنة من خلال وحدة الدولة المركزية ومركزية الدولة القومية المبنية بدورها على أساس القانون والحرية الشاملة. وبالتالي فإن تاريخ هذه الوحدة لا علاقة له بالتجربة السوفيتية. وليس مصادفة أن تنهمك الدولة الحديثة ما بعد السوفيتية بإرساء أسس الدولة المركزية ومركزية الدولة. فقد كانت الدولة السوفيتية مركزية مفرطة وتوتاليتارية شاملة. إنها صنعت حداثة من نوع خاص يفتقد للديناميكية الذاتية والحرية المحكومة بقوة القانون. فقد قطعت التجربة السوفيتية هذا الطريق التاريخي الطبيعي بأشكال ومستويات مختلفة بالارتباط مع مستوى تطور الدولة والقوميات التي دخلت في فلكه. من هنا اختلاف وتنوع الاستمرار أو الاستعادة الصعبة لانجاز مهمة الحداثة الشاملة. أما التجارب الناجحة فقد جرت من خلال دمجها بالوحدة الأوربية. أما التجارب غير الناجحة فقد أدت إلى حروب قومية وحركات انفصالية. وعموما إنها ظاهرة تتصف بقدر كبير من التناقض لكنها تسير في اتجاه تلافي الانقطاع التاريخي الطبيعي الذي تعرضت له بفعل استحكام المركزية التوتاليتارية الشيوعية.

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن له خصوصيته بهذا الصدد. فالدولة فيه قومية بحد ذاتها. والاستثناء النسبي في العراق والسودان. ونسبية هذا الاستثناء بالنسبة للعراق تقوم في كون العراق من حيث الجوهر دولة قومية واحدة بالمعنى الدقيق للكلمة. انه دولة عربية من حيث الأغلبية المطلقة. وخطأ الصدامية (البعثية) وقبلها الملكية يقوم في محاولاتها دمج الأكراد بالعراق. وهي عملية لا ضرورة فيها ولا قيمة ولا أهمية. على العكس. فالعراق من وجهة نظري ليس بحاجة إلى شيء من هذا القبيل. على العكس. إن فصل الأكراد عن العراق قد يكون المقدمة الأفضل لإعادة دمجهم على المدى البعيد بشروط أخرى تستقيم مع إمكانية وحدود القومية والوحدة المستقبلية للمنطقة عموما، أو ما ادعوه بوحدة الخلافة الثقافية.

إن العراق ليس بحاجة إلى صراع قومي. وهي المقدمة الضرورية بالنسبة له من اجل العمل والفعل والصراع بمعايير الرؤية الاجتماعية السياسية. وبدونها تستحيل إمكانية السير صوب الحداثة. لكنها ليست الشرط الوحيد. لقد انتهت ظاهرة التوتاليتارية. والدكتاتورية لم تعد قادرة على الفعل والنشاط بالطريقة السابقة. وانهيار التجربة السوفييتية والمعسكر الاشتراكي قد احدث دون شك انقلابا هائلا في بنية الوعي السياسي العالمي. وما يواجهه العراق حاليا جزء دموي ومرهق، لكنه معقول وايجابي على المدى البعيد بالنسبة لتأسيس الطريق العقلاني والقومي السليم للحداثة. لكن العراق لا يستطيع انجاز هذه المهمة في وقت سريع. وبالتالي لا يمكن الحديث عن انتهاء تاريخ هذه الظاهرة. إذ لم يعش العراق بعد بمعايير التاريخ الفعلي للدولة والأمة والثقافة. انه بلا تاريخ قومي متجانس. لكنه يزاول الآن للمرة الأولى في تاريخه الحديث السير بخطواتها الأولى.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم