قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (19)

ميثم الجنابيالمحور الخامس: الأصول الأيديولوجية للسلطة الصدامية (1)

• يتميز الخطاب السياسي للسلطة البعثية الصدامية بالانحطاط والهلوسة واستثمار المخزون الأسطوري. هل هو تجسيد ملموس وفعلي للثقافة العربية؟

إن ماهية الخطاب البعثي محكومة بالفكرة القومية. ويحتوي هذا الخطاب بقدر واحد على عقل ووجدان. لكنه غير مؤسس بمعايير ومنهجية علمية تاريخية. وفي هذا يكمن احد أسباب خضوعه للاستحواذ والتوظيف غير العقلاني. مع ما يترتب عليه من هلوسة وانفصام وتجزئة وانتقاء وتحزب وما شابه ذلك من نواقص مميزة بدورها للنفسية الراديكالية. وعادة ما تبرز هذه الصفات بقوة حالما تكون مسنودة بقوة السلطة. وقد تكون تجربة البعث الصدامي في العراق احد مظاهرها الفاقعة. من هنا ضرورة التفريق بين خطاب سياسي بعثي وآخر سياسي بعثي صدامي سلطوي.

فالسلطة تكشف عن حقيقة ومعدن الأحزاب وأيديولوجياتها. فإذا كان الخطاب البعثي الصدامي في أول أمره يتسم بقدر غير متناسب من تمازج العقلانية وغير العقلانية، فإنه انحدر في مجرى استتباب الدكتاتورية وتكاملها اللاحق في توتاليتارية خربة، إلى خطاب لاعقلاني صرف. بحيث تحول الخطاب السياسي البعثي الصدامي إلى خطاب سلطوي خالص مهمته تثبيت الدكتاتورية. وأصبحت الأنا الصدامية جلية ومستترة، ظاهرية وباطنية في بداية ونهاية الخطاب السياسي. وهذا بعينه تمام الهلوسة والانفصام الشخصي والسياسي. بعبارة أخرى، إننا نستطيع أن نلمح في مجرى انحداره على مظاهر ومحطات الانتقال من الخطاب الراديكالي السياسي إلى الخطاب غير العقلاني، ومنه إلى الخطاب المتشنج ثم الدكتاتوري ثم الأهوج. والهمّ الجامع لكل هذه الانقلابات والتحولات أو الانحطاط هو تثبيت وترسيخ وتوسيع حدود الأنا الاستبدادية.

وليس مصادفة أن تتسم العبارة الصدامية بصفة المسامير المدقوقة في نعش الخطاب العقلاني. من هنا مفرداته القاسية والضيقة والجزمية والقاطعة. بمعنى احتواءه على كل ما يقطّع ويقيد الوعي الحر والعقلاني والنزعة الإنسانية. أما النتيجة فتقوم في غلبة وسيطرة المحتوى البدائي الدموي فيه. بمعنى غلبة وانتشار عبارات ومفاهيم الغريزة والقتل والموت. ومن ثم افتقاده شبه التام إلى مكونات ومعايير الرؤية الجمالية والأخلاقية والقيم النبيلة. بحيث تنعدم فيه فكرة الاعتدال والتسامح والإنسانية. وليس مصادفة أن يتسم خطاب السلطة الصدامية بالفجاجة والبدائية والهلوسة. ومن هنا أيضا إثارته للاشمئزاز والقرف والتقزز.

إن الخطاب السياسي الصدامي لا يحتوي على مخزون أسطوري. إنه خطاب خرافي. والفرق كبير بين الأسطورة والخرافة. والشيء نفسه ينطبق، مع فارق الفكرة والمضمون، على ما إذا كان الخطاب السياسي للسلطة الصدامية يتمثل أو يجسّد الثقافة العربية!

إن الخطاب الصدامي هو احد النماذج المتخلفة والمريعة للخطاب السلطوي الراديكالي. إذ لا قيمة له ولا اثر خارج السلطة. من هنا عدمه خارجها. ومن ثم اضمحلاله وتلاشيه بل وإنعدامه التام خارج السلطة. لهذا لا يتمتع بجوهرية الخطاب الثقافي. لكنه يعكس أنموذج من نماذج الذهنية الحزبي للراديكالية السياسية والحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية. من هنا لا معنى للحديث عن كونه تجسيدا فعليا للثقافة العربية. فالثقافة العربية صيرورة وكينونة وتراث هائل لا يمكن لأي فرد أو اتجاه أو مدرسة أو مرحلة مهما كانت قيمته وفاعليته وأثره التاريخي أن تكون تجسيدا فعليا لها. وفيما يخص الخطاب الصدامي فإنه لا يجسد إلا بعض نماذج الثقافة العربية وأشكالها المتخلفة، كما هو الحال بالنسبة لكافة الثقافات الكبرى.

إن الخطاب الصدامي مناف للثقافة العربية الكبرى، كما أنه على ضفاف وخارج تياراتها الكبرى بالمعنى التاريخي والقومي والثقافي الصرف. فالثقافة العربية الكلاسيكية هي ثقافة كونية. كما إنها ثقافة حضارية ومدنية كبرى. والأهم من ذلك إنها ثقافة منظومات فكرية وتنوع محكوم بمرجعيات متسامية. وذلك لأن الثقافة العربية الكونية تحتوي على وحدة علوم العربية والدينية والفلسفية والتصوف والفقه والأصول والتاريخ والأدب والموسوعات والسياسة وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية. فهي ثقافة لها نظامها ونسقها الخاص. إنها ثقافة المدارس المتنوعة، ومن ثم تنوع مرجعياتها الثقافية الكبرى، كما نراه على سبيل المثال في الفلسفة والكلام والتصوف والفقه وغيرها من العلوم والفنون. وقد كانت هذه الثقافة غريبة على الصدامية غربة تامة. كما أن تراث الصدامية بعيدا كل البعد عن الثقافة العربية الحديثة بمختلف مراحلها وتياراتها ومستوياتها من نهضة وإصلاح وليبرالية وتنويرية. وبالتالي، فإنها كانت خارج نطاق قراءة الأحزاب السياسية الراديكالية العراقية بشكل عام والبعث بشكل خاص. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بأن الصدامية لا علاقة لها بكل هذا الموروث. ومن ثم لا علاقة للخطاب السياسي للسلطة الصدامية بالثقافة العربية بالمعنى المشار إليه أعلاه. بل يمكنني الجزم، بأنه حتى في مجال الموقف الشخصي لا اعتقد أن صدام قد قرأ في حياته كتابا جديا واحدا، أقول قرأ وليس درس وحلل. وينطبق هذا في الواقع على كافة رجال الأحزاب والسياسة في العراق. إن الصدامية هي تجسيد للثقافة الحزبية المتخلفة والضيقة والبدائية. إنها ثقافة حزبية و"سياسية" جاهلة بالمعنى الثقافي، ومن ثم لا علاقة لها بالعلم الأكاديمي. أما صدام فقد كان نصف متعلم، نصف جاهل، نصف قارئ، أي مخرب فعلي للثقافة.

• يقول البعض، بأن منظومة ميشيل عفلق السياسية عبارة عن خليط من الأفكار التي تجمع بين المثل العربية والفكر الألماني وبالأخص خطابات فيخته وكتابات نيتشه. هل يمكن اعتبار الفلسفة السياسية لعفلق احد مصادر الفاشية البعثية؟

في البداية ينبغي القول، بأن العفلقية ليست منظومة فلسفية. كما إنها ليست منظومة فكرية سياسية متجانسة. والشيء المتجانس فيها هو بلورتها لشعار القومية العربية. الأمر الذي يجعل من أراء ميشيل عفلق بهذا الصدد الأكثر تجانسا وثباتا ودقة ووجدانا مقارنة بغيرها من التيارات السياسية الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين، أو على الأقل إنها من بين أكثر التيارات الفكرية السياسية القومية تجانسا بهذا الصدد حتى الآن.

فالمصادر الفكرية الأساسية للعفلقية تختزن إرهاصات فكر عصر النهضة والإصلاح المتأثر بتقاليد الفكرة القومية الأوربية. لكنه تأثير يتسم بقدر كبير من الرؤية النقدية والاستقلال النظري. مما جعل منها إحدى المدارس الفكرية السياسية الأكثر تجانسا في محاولاتها تأسيس شعار الفكرة القومية العربية. ولا يضرها بهذا الصدد كونها خلطت بين مثل عربية وأفكار ألمانية وغيرها. فالأفكار الكبرى عادة ما "تخلط" وتمزج وتنسق وتولف وتنسج بين آراء ومواقف واستنتاجات مختلف المدارس. وأهمية الخلط والتمازج والتوليف تتوقف على مدى تأسيس هذا التيار أو ذاك لأسسه ومنهجيته الخاصة في العلم والعمل.

لقد حاولت العفلقية جهدها بهذا الصدد، وأنتجت تيارها الخاص، لكنه ذهب في حالات عديدة ضحية الحزبية السياسية الراديكالية. ونواقصها الكبرى أحيانا بهذا الصدد تقوم في كونها نتاج مرحلة قلقة وتفتقد إلى قاعدة اجتماعية وديناميكية اقتصادية مستقلة. كما إنها نشأت في ظل تجزئة وخضوع لاحتلال أجنبي ممزوج بتركة متخلفة وثقيلة وانقسام طائفي وجهوي ومذهبي وحزبي. من هنا سيادة الوجدان العارم فيها، بوصفه التعويض المناسب عن ضعف أسسها النظرية وإمكانياتها العملية. كما يمكننا العثور في ذلك على الأرضية المستعدة لقبول الخطاب الألماني وتقاليده القومية والفلسفية كما هو الحال بالنسبة لخطابات فيخته وكتابات نيتشه. وهي خطابات وكتابات رائعة وجميلة ومثيرة للوجدان والعاطفة والحس والخيال. كما تحتوي في أعماقها على نفس فلسفي عميق متعدد الإمكانيات، وبالأخص عند نيتشه. وكلاهما لا علاقة له بالنازية الألمانية. أما توظيفهما أو تأثيرهما المباشر على خطاب الهتلرية وبعض آرائها فذلك مرتبط بأمور أخرى، وبإمكانية التأويل. والتاريخ السياسي في اغلبه تأويل مفتعل. فالمسيح أيضا كان هراوة محاكم التفتيش، كما أن النبي محمد هراوة التيارات السلفية القديمة والحديثة. طبعا إنني لا أود القول، بأنه لا تأثير للعفلقية عما جرى في ظل سيطرة وغلبة حزب البعث وأيديولوجيته التي بلور عفلق اغلب مكوناتها، بقدر ما أريد القول، بأن كل ما جرى لا ينبغي نسبته إلى عفلق والعفلقية. والفرق هائل بين عفلق والسلطة الصدامية. والخطيئة الفكرية والسياسية والأخلاقية الكبرى لعفلق تقوم في استعداده للخضوع والعمل تحت إمرة الحزب الحاكم في العراق بقيادة صدام. وبالتالي ليس لآراء عفلق دورا في ظهور أو تأسيس "الفاشية" البعثية. إنها جزء من نفسية وذهنية الراديكالية السياسية العراقية. وإذا كان بالإمكان الحديث عن خطيئة للعفلقية بهذا الصدد، فإنها تقوم أولا وقبل كل شيء في دمجها بين الفكرة القومية (التحررية) والتوتاليتارية.

• الصدامية تمثل أسطورة سياسية – قومية. هل يمكننا الحديث عن أيديولوجية صدامية لها أصولها الخاصة؟ وما هي بنيتها المعرفية؟ وهل تتطابق مع أيديولوجية البعث القومي؟

إن الأسطورة إحدى المفاخر والمآثر الكبرى للأمم. كما تعكس معالم الخيال التاريخي للقوم. وفيها ومن خلالها عادة ما تتبلور رموز المعرفة والمواقف. ومن ثم فإنها تحتوي على ما يمكن دعوته بالمخزون الفعال في إنتاج وإعادة إنتاج القيم الرمزية في الأقوال والأعمال. كما تحتوي أيضا على قدرة كبيرة بالنسبة لتفعيل الوعي السياسي من خلال تقريبه إلى الوعي العام والخاص بوصفه جزء من معاناة الفرد والجماعة. فالأسطورة قابلة على صنع سياسة، لأنها قادرة على تحريك الحس والعقل والوجدان. أما مسارها الفعلي فعادة ما يتوقف على نوعية التأويل والإدماج النظري في الآراء والأحكام والمواقف. الأمر الذي يجعل منها طاقة عقلانية وغير عقلانية بقدر واحد، أو بصورة أدق إنها قادرة على أن تخدم الاثنين. والسبب يكمن في كونها مرجعية رمزية وليست منطقية. وفي هذا يكمن سرّ اختلافها العميق عن الخرافة. أما عبارة "الوعي الأسطوري"، فإنها عادة ما تتطابق مع الصيغة غير العقلانية. ومن الأدق استبدالها في مجال التقييم النقدي بكلمة الخرافة.

من هنا فإن الصدامية ليست "أسطورة سياسية – قومية" بل خرافة حزبية أيديولوجية ملازمة لبعث الأشباح والأموات! وإذا كان بالإمكان الحديث عن وعي أسطوري فيها فهو مجرد خرافات الريف والهامشية. فالصدامية تخلو من الأعماق الوجدانية السحيقة في مخزون الوعي التاريخي. وهي أقرب ما تكون إلى قوة شطارة وبلطجة مراحل الانحلال والتحلل. من هنا خلوها من بطولة وفروسية الأسطورة المميزة لمراحل الصعود التاريخي للأمم. وبالقدر ذاته لا يمكننا الحديث عن الصدامية بوصفها أيديولوجية.

إن الصدامية اقرب ما تكون إلى نمط من السلوك السياسي. وذلك لأن الصدامية لا تمتلك لحالها أي قدر أيديولوجي مستقل. و"كيانها الأيديولوجي" هو نتاج تصنيع الدعاية والإعلام الممول والمحكوم من قبلها نفسها بوصفها سلطة دكتاتورية. وخارجها سرعان ما تتلاشى وتندثر باعتبارها غبارا. بينما تفترض الأيديولوجية وجودها النسبي المستقل عن أشخاصها وموقعهم في السلطة أو خارجها.

بعبارة أخرى، إن الصدامية و"أيديولوجيتها" نتاج السلطة واستغلال قوة الدولة ومصادرها وثرواتها ومؤثراتها. وذلك لأن صدام عاجز وعقيم فيما يتعلق بإنتاج الفكر. كما أنه غير قادر على إنتاج أيديولوجية لها مبادئها وقيمها ومفاهيمها. فخارج السلطة صدام لا شيء! لنفترض جدلا بأن صدام لم يستطع الوصول إلى السلطة عبر مغامرات الأحزاب والانقلابات. فالاحتمال الأكبر لوجوده في ضني وتخميني لا يعدو تسكعه في إحدى مقاهي تكريت، أو شيء ما من هذا القبيل. بمعنى إنه لم يكن قادرا على تسطير صفحات أو مقال صغير حتى لإحدى الجرائد المحلية الخربة. وبالتالي لا معنى لعدد القراء!!

إضافة لذلك ليس للصدامية أصولا فكرية، لأنه لا وجود للصدامية في ميدان الأيديولوجية. إن صدام مشبع ببعض الشعارات والقيم والمفاهيم السياسية البعثية (العفلقية). لكن الفرق بينهما يبقى كبيرا وهائلا. كما إنه لا توجد في الصدامية بنية معرفية. إنها عبارة كبيرة بالنسبة للصدامية. فالصدامية جهل مرفوع إلى مصاف "الفكرة" بقوة السلطة وأموالها وعنفها المادي والمعنوي. فقد انتقى صدام معلوماته "الفكرية" مما هو مرمي على طرقات الأحزاب المغامرة ومقالات وخطابات البعث وبياناته وبعض ما هو متوفر من كتابات عفلق. وهي أشياء يصعب قراءتها والاستفادة منها. بل إنها مثيرة للغثيان. ودعني استعرض هنا حادثة شخصية طريفة بهذا الصدد. فقد واجهتني صعوبة العثور على المصادر الأساسية الكبرى لفكر البعث وأيديولوجيته السياسية في موسكو نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين (قبل انتشار الكومبيوتر والانترنيت). إذ لم يكن من السهل العثور على كل ما تريد. وهذا ينطبق في الواقع على كل بلدان العالم آنذاك. وكنت في وقتها منهمكا في جمع المصادر الفكرية المتعلقة بفكر البعث ضمن إطار دراستي للفكرة القومية. وقد اقترح علي احد الأصدقاء الاتصال بالسفارة العراقية بعد معرفته بأنها تنوي تفريغ "المكتبة" من الكتب. واستطعت في وقتها الحصول عبره على كل ما فيها من كتب ومجلدات عديدة عن تاريخ البعث والخطابات والكتابات والكتب. وقد كانت جميعها (وما زلت احتفظ بالكثير منها) مغبرة متربة ملصوقة الأوراق، أي أنها "عذراء" من قراء البعث وعنفوانهم الصامد! بعبارة أخرى، إنها كانت مختبئة بين جدران "المركز الثقافي" كما لو أنها بين جدران مركز من مراكز الشرطة في إحدى القرى النائية! ذلك يعني أن أي من أعضاء حزب البعث أنفسهم لم تمتد يده ولو عن طريق الخطأ إلى هذه "التحف" المرمية على رفوف "المكتبة الثقافية". وهو فعل يستحق الاستحسان! وذلك لأن اغلبها يتسم بقدر هائل من الحشو المرهق للأعصاب! ولا اعتقد أن صدام ما قبل السلطة أكثر اهتماما من "مثقفي" الحزب بعد تشبعهم بتخمة الاحتراف الفعال في القتل والجريمة، بقراءة ما لا يمكن قراءته! بعبارة أخرى، إن معارف صدام الفكرية لا تتعدى كمية من المعلومات العادية والمسطحة، التي يمتلكها في الواقع كل بعثي عادي. فصدام شبه أمي في ميدان المعرفة (وينطبق هذا على اغلب إن يكن جميع رجال الأحزاب في العراق). ولم يكن ذلك بدوره معزولا عن واقع كون الحزب والثقافة في العراق على طرفي نقيض.

لقد استقى صدام تصوراته وأحكامه من أيديولوجيا البعث دون أن يعني ذلك تطابقهما. فأفكار البعث الكبرى تحتوي على رؤية قومية وجدانية متجانسة نسبيا. كما إنها تحتفظ بقدر كبير من الأبعاد الإنسانية. وخلل الأيديولوجية البعثية يكمن في طابعها المذهبي السياسي الضيق، أي فقدانها لأبعاد الرؤية الفلسفية للتاريخ والدولة والأمة والثقافة والنظام السياسي. أما صدام فقد اخذ الأبعاد الوجدانية، أي غير العقلانية. كما كان محكوما بأصوله الاجتماعية الرثة، ومستوى معارفه الصغيرة والقليلة، ونوعية الصراع السياسي، وفكرة الانقلاب والثورة (المؤامرة والمغامرة). كل هذه المكونات جعلت من السلطة أداة سحرية. أما الدولة فهي حاضنة الأحلام. أما القومية والأمة فهي مجرد مفاهيم مجردة أسبغت عليهما "قدسية" سرعان ما جرى ابتذالها مع أول احتكاك بالواقع. وذلك لأن السلوك العملي للبعث والصدامية لم يكن (ولن يكون) محكوما بقدسية الأفكار، بل بالمكونات الفعلية للتخلف.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم