قضايا

الجنة والنار وتبادل الأدوار

علي المرهجلست كاهناً أو رجل دين، ولا نبي أو وصي أو ولي، كي أُمنح حق الحديث عن مثل هكذا موضوع، ولا أروم مُنافسة لمثل هؤلاء، فهم أحق وأبقى مني ومن الذين خلفوني في الحديث عن الجنة والنار، ولكني سأتحدث عن جنة عرضها حياة الإنسان وطولها أطول من أطول لحية الدَجلة من سدَنة رجال جعلوا من الدين ألعوبة بيد الساسة، وسأتحدث عن دُنيا تُصلى بها أجداث أحياء لا عقول لهم ولا قلوب من فرط تملقهم لمن بيده مفاتيح جنان الأرض في المال والجاه والعيش الرغيد على وسادة وفيرة، وأبناء جلدتهم يلتهمون الحصى ويستغيثون بالرمضاء من النار، يلتحفون السماء، ويفترشون أرض تستعر إوراها من شدة الحر. وبعض من فقراء وطني ممن ضحكت له دُنيا هارون يفترش حصيرة.

الجنة خارج التصور اللاهوتي الديني هي جنة الذين يرومون بناء قصور لهم في دُنيا الواقع لا المثال، فيها ولدَان وحوريات غير مُخلدين، ولكنهم يُمكن أن يُستبدَلوا بغيرهم، أو بغيرهن، وفيها إماء وجواري وما ملكت أيمانهم، ولهم في الشرعة إجازة في التمتع والتعدد الزوجات، مثنى وثلاث ورباع، يُمتعون أنفسهم بلذائذ الجنة ولكن قبل الأوان، إنهم يتمتعون بلذئذها في دُنياهم قبل آخرتهم.

ومنهم من يهب من الجواري الحسان لمن يُحب، فهن محضيات كُتب عليهن أن يكُنَ فتيات لا مهمة لهنَ سوى أن يُفرغن لذة المؤمنين وأصحابهم الغُرَ الميامين، وللوِلد من الغُلمان تشويق وتفريغ لكبت عند المُجاهدين في سبيل إحقاق الحق!، وهذه هبات من الله لهم كي ينعموا بها، فيحسن إيمانهم بعد تفريغ طاقاتهم المكبوتة، فهم أحق الناس بجهاد النكاح، لأن في نكاحهم إقبال على الحرب والجهاد في سبيل الله، سبيل الله الذي صيروه على أنه تقتيل ونكاح ومُلك يمين، وبيع وشراء لأبناء وبنات دين آخر، كل ما فيهن وما فيهم مُتاح، من أخمص القدم حتى الفرج، والرأس مصيره فصله عن الجسد في حال لم يمتثل صاحبه لطلبات أمير الجماعة. فهم وهن متاع للمؤمنين، وغنائم حرب يُوزعها قادة الحرب المُنتصرين، بحسب درجات الإيمان التي يُقسمها قادة الجهاد للتابعين بحسب مراتب الولاء والطاعة لأوامرهم.

أظن أنا حدثتكم عن لغة الجنة عند بعض من المؤمنين. كلا، وألف كلا إنما أنا حدثتكم عن نار تُصلى بها جباه المؤمنين ممن ظلوا يعيشون خارج تاريخ التطور الأنسني في بناء العلاقات الإنسانية وفق مبدأ "الإعتراف" أو وفق قوانين الإنسانية الحقة وحقوق الإنسان في العالم الحديث.

فعن أي جنة ونار أتحدث، أ هي جنة يرسمها دُعاة الإسلام "الراديكالي" في رسم خارطة الأرض وتقسيمها لقسمين، دار إيمان، ودار كُفر، أو دار جنة، ودار نار، دار جنة ينعم بها "دواعش" العصر بفطور صباحي فيه بيض عراقي وجبنٌ هولندي، لبن أربيل من شمال العراق، وحاسوب أمريكي وفق تجميع صيني، وسيارات دفع رباعي بصناعة غربية تعبر كل رمال الصحراء، كي تُحقق النصر على أعداء الإسلام!.

بنى أبناء الجنة من المؤمنين بتخاريف التراث رؤية لهم تستخدم كل نتاج الشياطين (أمريكا وأوربا) دولة الإيمان، بما فيها من لذيذ العيش في مُعاشرة الحوريات والغُلمان، بل هي دولة أبناء النار، الذين يستبيحون دماء خلق الله من البشر، لا لشيء سوى أنهم لم يُعلنوا أو لم يعلموا بأن هناك برابرة أو "سراسنة" يتلذذون بُسقيَا الأرض بدماء الأبرياء من الذين خالفوهم في الرأي والمُعتقد!.

كأنني أُحدثكم عن مصاصي الدماء أو آكلة لحوم البشر، كلا، إنما أنا أُحدثكم عن أُناس لهم تاريخ وعاشوا بيننا وتميزوا في نتاجهم وقدرتهم على الفهم وتفسير الحياة، فمنهم الطبيب ومنهم من تميَز في الدراسة، ولم نسمع عنه خبر، غير النجاح في الحياة وكل ما في حياته يسر أهله حينما كان في مُقتبل العُمر، فخذ مثلاً أسامة بن لادن، صاحب الثروة الهائلة، ففضل تركها، واختار العيش والحرب في جبال (تورابورا) ومن قبلها دارفور، وعبدالله عزام مُنشئ القاعدة ومُنظرها ورائد الجهاد الافغاني ضد السوفيت، وهو من المُميزين في الدراسة ومن الذين نالوا دكتوراه الشرف بعلوم الفقه من جامعة القاهرة.

أما أيمن الظواهري فهو جراح عيون ومن عائلة مُميزة من جهة الأب والأم، واغلب القادة الباحثين عن الجنة، هم أناس من علية القوم ممن هم بوزن بن لادن أو أقل منه بقليل على مستوى الثروة، ولكنهم على مُستوى التحصيل العلمي أو العسكري، فهم من المُميزين، كل في اختصاصه، فمنهم الثري والاقتصادي مثل بن لادن، ومنهم الفقيه مثل عبدالله عزام، ومنهم الطبيب الجراج مثل أيمن الظواهري، ومنهم قادة عسكريون من شتى بقاع أرض المُسلمين، ومنهم البغدادي، دكتوراه في علوم الفقه، ومنهم، ومنهم أناس وصلوا لأعلى درجات المعرفة العلمية أو الفقهية...

فهل هؤلاء من أبناء الجنة أم من أبناء النار؟

أظن أن الجنة والنار هما مفهومان في دنيا التأويل الديني للواقع يُرادف بعضهما بعضاً، بحسب تغير الواقع والحال، فما نظن أنه جنة، هو نار عند من يُناقضنا في فهم النص وتأويله وتفسيره وفق مُقتضيات المصلحة، والعكس يصح، فالنار جنة بحسب المصلحة عند جماعة ما، والجنة نار عند جماعة مُناهضة، أو مُناقضة لها.

فالجنة والنار هو تبادل للأدوار بحسب تصورات المُنتصر والخاسر، فالجنة تُعدَ جنة حينما يكون المُعبر عنها هو المُنتصر، وربما تكون الجنة ناراً عند الخاسر، وحين تبادل الأدوار بين الخاسر والمُنتصر، ستكون نار المُنتصر جنة، وجنة المُنتصر ناراً.

الجنة لها وصف لم يخطر على بال بشر، والنار لها وصف لا يُدركه بشر، وفي الجنة درجات وفي النار درجات، ولا لجنة عُدَت للمؤمنين، والنار عُدَت للكافرين، ولكن خارج التشخيص الإلهي لمن هو من أهل الجنة، أو هو من أهل النار، النص المُقدس حمَال أوجه، وربما تكون الجنة والنار وجهان لعُملة واحدة، حسب تأويل الرجال للنص المُقدس، فـ "كل حزب بما لديهم فرحون"، "فإن حزب الله هم الغالبون"، وكل يدعي وصل بليلى، فالجنة مكان يستكين به أحباب الله ممن هم من حزبه، ولكن من هُم هؤلاء، فأمة محمد (ص) بحسب الحديث النبوي "ستقترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كُلها في النار، إلَا واحدة"، وكل فرقة أو نحلة يظن أصحابها أنهم من هم الفرقة المقصودة، أي "الفرقة الناجية"، وطبقاً لهذذا التصور، فالجنة والنار وجهان لعملة واحدة كما قُلنا، كل فرقة يرى أصحابها أنهم من أهل الجنة، ومن يُخالفهم، فهو من أهل النار، فالنار جنة، والجنة نار، وذللك بحسب تبدل الرؤى والأفكار، أو بحسب موقع الغالب والمغلوب، فالغالب هو من أهل الجنة، والمغلوب هو من أهل النار، وحينما يتم تبادل الأدوار بفعل مُتغيرات الحال والأحوال، وحينما يأفل نجم الغالب ويسطع نجم المغلوب، فستكون الجنة نار تُصلى بها أجساد من كانوا غالبين، وستكون النار جنة عند من كانوا مغلوبين، فالجنة والنار خارج التوصيف والحصر الفقهي واللاهوتي لها إنما هما مفهومان يُوظفان توظيفاً أيديولوجياً بحسب التصور العقائدي لكل فرقة أو نحلة أو دين، ومن له الغلبة في الحرب والقدرة على تصدير الخطاب، فسيجعل من أفعاله جنات خُلد للمؤيدين "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً"، ولن تُزال عنهم نعمة الله، ومصداق ذلك الأبدية، ولن يكون المُعارضون لهم "إلَا طريق جهنم خالدين فيها أبداً"، ولن يُزال عنهم العذاب، ومصداق ذلك الأبدية بكلمة "أبدا".

هذه الأبدية والخلود في النص المُقدس له بعده "الميتافيزيقي" أو الغيبي، الذي لا يُدرك كُنهه أو حقيقته سوى الله سبحانه وتعالى، وأنبيائه من بعده والأوصياء والأولياء، ولكن هذه الأبدية والخلود وفق الفهم البشري، إنما تُفسر حسب الأهواء والمصلحة، وكل جماعة ترى أنه هي الخالدة في الجنة أبداً، وكل من عارضها فهو خالد في النار أبداً، والعكس صحيح، فكل جماعة مُعارضة تتبنى رؤية وفهم للنص الديني المُقدس مُغاير لفهم من هم في السُلطة من الذين يتبجحون بأنهم الأقرب لفهم النص المُقدس وتفسيره وتأويله، ترى أن من حكموا بإسم الدين إنما هم من أهل النار خالدون فيها أبداً، ولا يُخفف عنهم العذاب.

 

د. علي المرهج

  

 

في المثقف اليوم