قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (20)

ميثم الجنابيالمحور الخامس: الأصول الأيديولوجية للسلطة الصدامية (2)

• الأيديولوجية البعثية (النسخة العراقية) بدأت عروبية معتدلة ثم أصبحت اشتراكية وطنية ثم تمثلت خطاب القبيلة، إلى أن وصلت أخيرا إلى النطق بخطاب الأصولية الدينية. ما هو سبب هذه التقلبات. وما هي وظيفة هذه الأيديولوجية؟ هل هي للبحث عن شرعية دعائية أم لتغطية عنف الدولة؟ أين تكمن النزعة التوتاليتارية داخل الأصول الأيديولوجية البعثية الصدامية؟

في البدء ينبغي القول، بأن الأيديولوجية البعثية هي أيديولوجية الفكرة القومية العربية، بل وأكثرها تجانسا بهذا الصدد، على الأقل في ميدان رؤيتها السياسية للفكرة القومية العربية. ولم يكن ذلك معزولا عن تراكم التيارات المتنوعة لفكر النهضة والإصلاح والفكر القومي العربي في سوريا الكبرى. من هنا تباينها عما يمكن دعوته بالنسخة العراقية لأيديولوجية البعث، رغم التقائهما الأولي. وفي وقت لاحق سوف يأخذ هذا التباين الطبيعي درجة الاختلاف العميق. والسبب يكمن بقدر واحد في الأيديولوجية واختلاف البلدان والتقاليد. ولا غرابة في الأمر. فنفس الشيء كان يمكن رؤيته على نماذج الأيديولوجية الشيوعية.

فالأيديولوجية ليست مصدرا للائتلاف والتوافق والمساومة والاعتدال، على العكس. وذلك بسبب ما فيها من تجميد للعقل النقدي. وبالمقابل تفعل كل ما في وسعها من اجل إثارة حمية الانغماس في وحل التقليد و"الدفاع المرير" عن "القيم". وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر للانغلاق الذي عادة ما ترفعه السلطة إلى مصاف "المبادئ المقدسة". أما في الواقع فإنه شكل من أشكال الاستحواذ والسيطرة والتسلط. ولعل تجارب الدول المحكومة بالأيديولوجية (العقائد الصارمة) تكرر نفس الظاهرة. بمعنى اشتداد الخلاف والعداء التام وادعاء كل منها بنموذجه الأمثل والأصدق في تمثل القيم والمبادئ والشعارات.

أما الجانب الآخر فيقوم في تباين تجارب البلدان. فالعالم العربي في بداية القرن العشرين كان يخضع بقدر واحد لتأثير البنية التقليدية والسيطرة العثمانية والتخلف المريع، أي للتجزئة الدفينة وانعدام التاريخ السياسي المستقل والهوية القومية الناضجة في وعيها الذاتي. وبما أن سوريا كانت من بين أكثر المناطق العربية تعرضا للضغط التركي العثماني والأوربي الاستعماري القادم، من هنا يمكن فهم احد أسباب صعود الفكرة القومية الصريحة، أي كل ما نعثر عليه في مختلف التيارات التي بلغت ذروتها في أيديولوجية البعث. فقد كانت تقاليد سوريا (الطبيعية) الفكرية الحديثة اشد حساسية وتطورا تجاه الفكرة القومية بسبب طبيعة وحجم الضغط التركي العثماني وتاريخ النهضة. من هنا طابعها القومي المتجانس وعمق فكرة الحرية وأبعادها الإنسانية.

أما في العراق فقد كانت المقدمات من طبيعة أخرى. إذ لم يعان العراق من تجزئة جهوية فئوية قومية طائفية ومذهبية بالطريقة السورية القديمة التي وجدت ذروتها في النموذج اللبناني. كما أن العراق لم يعان من صراعات فكرية سياسية رافقت فكرة النهضة والإصلاح والصعود القومي. إضافة إلى أن احتكاكه بأوربا كان ضعيفا. من هنا ضعف الحركة القومية التقليدية، وبالتالي غلبة الوطنية العراقية بوصفها وطنية عربية. الأمر الذي جعل من الفكرة القومية الحديثة (الأوربية – السورية) ضعيفة الجذور، أي أنها لم تتمتع ببعد تاريخي اجتماعي وسياسي وفكري عميق فيه.

وليس مصادفة أن يلاقي الفكر الشيوعي في العراق انتشارا واسعا ويهيمن لحاله لفترة طويلة نسبيا، بوصفها مرحلة المراهقة الأيديولوجية والوطنية. فالوطنية الحقيقية قومية. لكنها كانت وما تزال تعاني في العالم العربي من خلل بنيوي جعلها اقرب إلى إشكالية عصية في مجال الفكر النظري والسياسة العملية. وهي إشكالية مرتبطة أولا وقبل كل شيء في كون العرب أمة تاريخية ثقافية كبرى مجزأة سياسيا لحد الآن. وبغض عن كل حيثيات هذه الظاهرة في تاريخ العراق الحديث، فإن مما لاشك فيه هو انحسار الفكر القومي (البعثي) في بداية الأمر. أما الناصرية فإنها أيضا كانت غريبة على العراق، حيث جرى النظر إليها باعتبارها مصرية خالصة وليست عربية عامة. وفي كلتا الحالتين نقف أمام ظاهرة ضعف الفكرة القومية في العراق. أما الأفكار القومية الأخرى فلم تكن "عربية" بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي هذا يكمن احد أسباب غلو البعث في رؤيته العملية للفكرة القومية في العراق. فالبعث هو التيار السياسي الوحيد العربي العام آنذاك، الذي كان يدرك ويؤسس وينظر بصورة متجانسة إلى شعار القومية العربية.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الفكرة العربية والعروبة تحتاج إلى أسس اجتماعية متطورة نسبيا، لهذا كانت الأفكار القومية من حيث الجوهر وطنيات "متسامية" أو وطنيات عروبية. وفي هذا كانت تكمن فضيلتها التاريخية. إنها ساهمت في رفع الفكرة الوطنية إلى مصاف الفكرة القومية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. لكنه رفع أو ارتقاء أيديولوجي. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن الواقع التاريخي الذي كانت تعاني آنذاك منه القومية العربية، بمعنى حالة التجزئة والانتداب وفشل تجربة الوحدة السورية المصرية والصراع العالمي والاحتلال اليهودي الصهيوني لفلسطين. وليس مصادفة أن تتصف النزعة القومية الأولى في العراق بصفة الاعتدال. أما الصراع مع الشيوعية وغيرها فقد كان يرمي إلى تجسيد مشروع هلامي، لكنه وجداني بسبب ارتباطه بالأبعاد الخفية للعراق بوصفه "صانع الفكرة العربية" الثقافية على امتداد تاريخه العريق. في حين أدت الانقلابات العسكرية التي قام بها حزب البعث والتيار القومي إلى احتكاره السلطة عام 1963، 1968، ومن ثم وضع الفكرة القومية على محك الواقع. فقد أدى ذلك من جهة إلى انحسار الفكرة القومية بوصفها فكرة غير ناضجة. إذ أنها لم تتغلغل بعد في الوعي السياسي والضمير الاجتماعي. ومن ثم لا أسس اجتماعية متينة لها. كما إنها اتخذت صيغة المغامرة والانقلابات والمؤامرات. وهذه حالة غريبة بالنسبة للفكرة القومية. أما النتيجة فقد أدت إلى أعادة إنتاج أو "عقلنة" النخبة المغامرة والمغرمة بحب السلطة. من هنا الانتقال التدريجي إلى قومية عربية عراقية و"اشتراكية وطنية". وهي حالة متناقضة لكنها واقعية على الأقل فيما يتعلق بتخفيف حدة الأثر السياسي للأيديولوجية. بمعنى تطابق فكرة العروبة مع مركزية العراق، كما هو الحال في مصر وسوريا لاحقا. وفي هذا كان يكمن أيضا مصدر الخلل والتناقض. فهي لم تكن قومية ولا وطنية بالمعنى الدقيق للكلمة. بل هجين منهما. وشأنه كل هجين في السياسة لا يمكنه أن يؤدي إلى إنتاج فعل عقلاني. لقد كانت تلك محاولة تفصيل لباس على جسد ذي مقاييس أخرى. والسبب يكمن في تفاعل أسباب عددية منها:

1. ضعف وتيرة تطور الدولة والاغتراب النسبي للنخبة. فقد كانت العائلة المالكة في العراق مستوردة إضافة إلى كونها نخبة طائفية مبطنة.

2. الضغط المباشر وغير المباشر للاستعمار البريطاني.

3. الصراع السياسي الأيديولوجي الضيق بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونتائجها السياسية.

4. ضعف إمكانيات العراق المادية آنذاك.

5. طغيان البنية التقليدية الاجتماعية والثقافية.

6. انبعاث الشعور الوطني واشتداد المشاعر القومية خصوصا بأثر الناصرية.

لقد وجد كل ذلك انعكاسه في اشتداد دور الأيديولوجية السياسية والحزبية الذي توج في صعود وهيمنة مرحلة جديدة تتميز بانقطاع جذري (راديكالي) هي مرحلة الأيديولوجيات المتناقضة والمتصارعة والمتنافسة والعدائية في ظل غياب أو ضعف شبه شامل لقيم ومبادئ الشرعية والحرية (الليبرالية). مما أدى بدوره إلى تنافس وتصادم موجتين كاسحتين (وطنية عراقية) و(قومية عربية)، أي داخلية وخارجية جعلت منهما قوى متناحرة يقف أحدهما بالضد من الآخر على طوال الخط. مع إنهما العجلات المتوازية الضرورية لتكامل الدولة العربية الحديثة.

فقد كانت الحركات القومية العربية (المصرية والسورية) من حيث الجوهر حركات وطنية ذات أبعاد قومية. وكان ينبغي للحركات نفسها أن تسير في العراق بنفس الاتجاه (بسبب آلية وفعل التجزئة) ومقدماتها التاريخية. بينما أدت سيادة الأيديولوجية الراديكالية ويقينها الجازم والقاطع إلى أن تصبح جزء فعالا من هذا الخلل. تماما بالقدر الذي ساهمت في جعله أزمة بنيوية من خلال تقديم تصوراتها وأحكامها على إنها "رؤية علمية" في كيفية التعامل مع قضايا الدولة والمجتمع. أما زمن المغامرة الراديكالية فقد أعطى لهذا التحول "شرعية" خاصة لا تقبل الجدل. من هنا أصبح تطويع الأيديولوجية صفة ملازمة لها. بحيث تحولت إلى جزء من المغامرة التاريخية الخربة للراديكالية السياسية. وفي هذا كانت تكمن وظيفتها القائمة في دعم السلطة وتثبيت ركائزها المبنية على أساس العنف ومصادرة الدولة والمجتمع والإنسان والثروة. أما انقلابها اللاحق أو سيرها صوب التوتاليتارية، فإنه لم يكن معزولا عن الأسباب المشار إليها أعلاه إضافة إلى إنها كانت تختبئ في الاستعداد الذاتي لهذه الأيديولوجيات الكبرى (البعثية والشيوعية) في قبول وتجسيد الفكرة التوتاليتارية. وفي صراعهما أصابا بالصرع كل مكونات الوعي الحسي والعقلي للعراق. ومن ثم طحنتا وسحقتا كل براعم التراكم الطبيعي للفكر العقلاني وتقاليد الإصلاح والاعتدال. بحيث أصبح التنافس في دفع هذه العملية القاتلة "إلى الأمام" مقياسا "للثورية"، أي تتشابه من الناحية الفعلية مع سلوك الثيران! أما خصوصية التوتاليتارية الكامنة في الأيديولوجية البعثية الصدامية، فإنها تراكمت من تفاعل "المقدس" القومي الزائف وراديكالية الحثالة والأطراف التي أدت إلى دكتاتورية القمع الشامل. ولم تكن هذه الظاهرة والنتيجة بدورها معزولة عن تقليدية البنية القبلية – العشائرية وإنهاك حرية الفرد وجوهرية الهيبة والمال، أي كل ما لا علاقة له بفكرة الدولة والمجتمع والحقوق العامة المجردة.

• إن القراءة الخلدونية للتاريخ، وبالأخص في نظرتها إلى نظام القرابة والروابط القبلية يمكنها أن تسلط الضوء على (نموذج الدولة الصدامية). غير أنها جمعت في الوقت نفسه بين الموروث التقليدي للسلطة العربية والإسلامية الاستبدادية وبين وسائل الدولة التوتاليتارية الغربية. هل تستطيع هذه المقاربات الخلدونية أن تحلل الظاهرة الصدامية؟ والى أي مدى يمكننا الاستفادة منها؟

إن القراءة الخلدونية للتاريخ تتسم بقدرة كبيرة وهائلة من الناحية الفلسفية والثقافية. وقيمتها تكمن أساسا في هذا المجال والمستوى. وقضية القبلية والروابط القبلية مجرد قضايا عرضية فيها. بعبارة أخرى، لا ينبغي إرجاع فكرة ابن خلدون عن التاريخ إلى نظام القرابة والروابط القبلية. إنها مجرد مفصل من مفاصل أو عنصر من عناصرها الجزئية. فالجوهري في نظرية ابن خلدون يقوم في النظر إلى التاريخ باعتباره عملية طبيعية. كما أن ابن خلدون لم يفكر بصدام أو التوتاليتارية!! إنه يصلح لقراءة تطور الفكرة الفلسفية عن التاريخ وإمكاناتها الكبرى بما في ذلك في مجال تأسيس رؤية سياسية قادرة على تغيير الواقع آنذاك. لكنها وقفت عند تخوم الانحطاط التاريخي الأكبر بالنسبة للدولة العربية.

أما الصدامية فإنها ظاهرة القرن العشرين في عراق ما بعد الملكية وسيادة تقاليد المغامرة السياسية للراديكالية. وفي ظل واقع تاريخي تميز باشتداد الصراع بين منظومتين على مستوى الأيديولوجية والعسكرة والنظام السياسي الاجتماعي والاقتصادي. من هنا ضرورة انطلاق قراءة الظاهرة الصدامية من خلال تحليل مقدماتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية العامة كما حاولت تقديمها في مجرى الإجابة على الأسئلة العديدة المتعلقة بهذا الجانب. فالصدامية لا يمكنها أن تكون مادة حية ومناسبة للرؤية الخلدونية وبالأخص ما يتعلق منه بقضية القرابة والروابط القبلية. وذلك لأن العصبية القبيلة بالنسبة لابن خلدون هي المقدمة الأولى للارتقاء إلى مصاف الحضارة والعمران، أي مدنية الدولة والمجتمع. أما في الصدامية فإنها على العكس! إنها صدمت التاريخ وابن خلدون على السواء! بعبارة أخرى، إن للظاهرة الصدامية خصوصيتها. فهي ليست فقط نتاج الموروث التقليدي للسلطة العربية الاستبدادية ووسائل التوتاليتارية الحديثة، بل ومحكومة أيضا بطبيعة الصراع السياسي العراقي بعد 1958. فقد كان التاريخ العراقي بعد 1958 مجرد زمن الاحتراب اللاعقلاني والعنف الدموي. باختصار إنه صراع بين رؤية وبرامج متنوعة للحثالة الاجتماعية والهامشية والأطراف والأقليات الراديكالية.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم