قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (21)

ميثم الجنابيالمحور الخامس: الأصول الأيديولوجية للسلطة الصدامية (3)

• نظام القرابة أو العصبية السياسية مفهوم مفتاحي لتحليل الظاهرة الصدامية، رغم أن هذا المفهوم لا يمتلك فاعلية سياسية بدون قوى اجتماعية وأيديولوجية داعمة (العصبية السياسية). كيف استطاعت الصدامية "تأسيس" العلاقة والروابط بين القرابة والطائفية وأيديولوجية البعث القومي؟

إن نظام القرابة مفهوم مفتاحي للمرحلة المتأخرة من عهد الدكتاتورية الصدامية، أي تعبير عن آخر مراحل انحطاطها. وفي الوقت نفسه يعكس البؤرة الدفينة والكامنة في نشوئها الأول. فالشيخوخة تكشف عن الطفولة أيضا. إذ إننا نقف أمام خط بياني نازل من الفكرة القومية الرفيعة إلى حضيض الغريزة القبلية والعائلية والطائفية. بمعنى تراجعه مع كل تمركز للسلطة واستفحال للدكتاتورية وانتظامها في توتاليتارية إلى مستنقع القبلية السافرة. لكنها في الوقت نفسه شبه حتمية بالنسبة للراديكاليات السياسية المتخلفة، أي المتمثلة لتقاليد الحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية. وهو أمر جلي حالما ننظر إلى الصدامية وكيفية هبوطها من قومية عروبية متشددة في بداية حالها إلى قبلية عائلية مفرطة وطائفية مبطنة قوية. والتفسير الأدق لهذا التحول ينبغي البحث عنه في ظاهرة ما ادعوه بتقاليد نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة.

فمن الناحية الفعلية لم يكن حزب البعث قبل مؤامراته ومغامراته في الوصول إلى السلطة حزبا اجتماعيا سياسيا، بل عصابة مؤامرة ومغامرة. وهذا ينطبق عموما على كافة الأحزاب الراديكالية. وليس مصادفة أن يكون الاحتراف والتنافس الخبيث الأكثر انتشارا بين "المناضلين" بحيث لا يقف احدهم عن أخس وأوضع الأساليب من اجل النيل أو قتل "رفاق الدرب". بعبارة أخرى، إننا نقف أمام نفسية وذهنية العصابة، أي أمام ما يمكن دعوته ببذرة العصابة القائمة في القبيلة والجهوية والفئوية وغيرها من مظاهر البنية التقليدية الاجتماعية والثقافية. فقد كان قادة انقلاب 1963 ممثلين نموذجيين للفئوية والطائفية والجهوية. والشيء نفسه يمكن قوله عن انقلاب 1968. بمعنى إننا نقف أمام ظاهرة إعادة توسيع وتعميق الهوية الفئوية والطائفية والجهوية بطريقة جديدة. إذ تحولت على سبيل المثال مدينة تكريت الهامشية والصغيرة إلى مركز العراق ومنبع مده بالكوادر المتخلفة. والقضية ليست في تكريت بقدر ما هي في نمط التحول العنيف الجديد الذي وضع بداية ما يمكن دعوته بزمن سيطرة الأطراف على المركز، والقبيلة على المجتمع، والعائلة على السلطة. والنتيجة اضمحلال وتلاشي فكرة المجتمع المدني والدولة الشرعية والنظام السياسي. ومع كل تزايد في قوة السلطة السياسية، بوصفها سلطة عصابة ومن ثم انحلال أسسها المعنوية، كلما ازداد التشابك بين القبيلة والعائلة في مواجهة المجتمع والدولة. من هنا ازدياد قوة وقابلية استهلاك القيم الأيديولوجية.

فقد كان الخطاب السياسي الأيديولوجي لصدام على سبيل المثال مستعدا لقبول كل الأشكال القادرة على ترسيخ وتوسيع وتعميق السيطرة والعنف المنظم. غير أن السيطرة وإحكامها في ظروف العراق آنذاك كانت بحاجة إلى منظومة سياسية وقيميية بدائية. من هنا دور الأيديولوجية الكبير بهذا الصدد، بمعنى الانهماك المنظم والمنتظم في تهذيبها وشحذها وتوظيفها. وذلك لأنها ترتكز على مفهوم مبادئ السيطرة والتحكم. ومن ثم تحتوي في أعماقها على عناصر الدكتاتورية. ومن خلالها جرى صنع "منظومة" المصادرة الشاملة للدولة والمجتمع والثقافة والعقل والضمير الفردي والاجتماعي. فإذا كان الشعار البعثي الظاهري هو شعار القومية الشامل، فإن الحامل الفعلي والمستقبلي هو القوة المدنية والعقلانية المناسبة.

فإذا كانت الأيديولوجية البعثية ليست منظومة، بل عناصر مفككة تربطها شعارات عامة كبرى في اغلبها ليست عقلانية، بمعنى إنها ليست محكومة برؤية فلسفية عن التاريخ والأمة والدولة، فإن الصدامية هي ممثلة الحثالة والأطراف والعائلة والقبيلة. ذلك يعني أنها من حيث مرتعها وأصولها كانت أقوى من عناصر الأيديولوجية البعثية الهشة والمفتتة. من هنا غلافها القومي أما مضمونها الفعلي فهو قبلي جهوي عائلي تقليدي. مما أدى في ظروف العراق إلى غرس طائفية سياسية جهوية فئوية قبلية عميقة. وابتدأ ذلك بسن قوانين إلغاء الألف واللام من الألقاب، ثم الألقاب نفسها. وقد كانت تلك "القوانين" شكلا من أشكال تغطية الفضيحة الجهوية الفئوية الطائفية للسلطة الصدامية. وتدور في العراق نكتة بهذا الصدد عندما دعا احد المدراء شخصا باسمه (عباس) فقيل له أي عباس؟ التكريتي أم الدليمي؟ كما أنها المرة الأولى في تاريخ العراق منذ السومريين حتى صعود الصدامية التي يصبح اسم مدينة أو منطقة واحدة لقبا لكل ساكن فيها! بحيث أصبح اسم صدام التكريتي (والتكريتي فقط!) لقبا وهوية وحالة ومستوى وفئة وطبقة وقومية. وهي حالة تتصف بقدر من الغرابة لا مثيل لها في تاريخ العراق بل والعالم اجمع! لكنها حالة أصبحت مقبولة ومعقولة بالنسبة لصدام التكريتي! وفيها يظهر احد النماذج الكبرى الكلاسيكية لهذه البنية التي لا يفوقها نموذج آخر في التخلف والبدائية. وفي الوقت نفسه أكثرها تبجحا وصياحا وإلحاحا في الدعوة الأيديولوجية الشرسة للقومية العربية!! كما لو أنه يريد القول، بأن الجميع عرب أما تكريت فخالصة لحالها! كل ذلك أدى إلى أن تسحب هذه البنية الاجتماعية والنفسية والذهنية شعارات البعث جميعها وتجعلها مجرد أداة وغلاف لها. فهي البنية الوحيدة التي تفعل بوصفها "منظومة" وآلية تستجيب لمكونات الصدامية وطبيعتها.

• ما هي الآليات التي تحكم أجهزة الدولة البعثية الصدامية؟ وكيف استطاعت التلاعب بالتوازنات الهشة للعشائرية العراقية وأخضعت الدولة للعلاقة الجديدة بين البنية القبلية والعصبية السياسية؟

قد يكون من الأفضل الحديث عن الحوافز والبواعث التي تحكم أجهزة السلطة البعثية الصدامية. وذلك لأن آليتها مجرد أدوات للبواعث العميقة الكامنة في أجهزة السلطة الصدامية. وهي بواعث المصادرة والسيطرة. مصادرة كل شيء، والسيطرة التامة على كل شيء (الفرد والمجتمع) من اجل إخماد كل معارضة مهما كان شكلها وحجمها. الأمر الذي جعل من الصدامية شرا مطلقا. إنها الكارثة الكبرى في تاريخ المدنية العراقية. ولا اعتقد أن هناك سلطة في التاريخ الحديث (على النطاق العالمي) اشد قبحا من الدكتاتورية الصدامية. بحيث يفترض ذلك من وجهة نظري سن قانون تجريم الصدامية والعائلة الصدامية لمدة 300 مليون سنة كحد أدنى على قدر عدد أفراد الأمة العربية التي كان يدعي تمثيلها!!

إن الصدامية لم تتلاعب بالموازنات الهشة للعشائرية، بل هي التي صنعتها. فتقاليد البنية القبلية في العراق جزء من تقاليد ثقافية وبنية اجتماعية لها فضيلتها الخاصة. لكنها كانت تتحلل ضمن مسار معقد ومتناقض ودرامي لصيرورة بنية وطنية قومية عراقية جديدة. أما بقاء الألقاب فهو جزء من بقاء واستمرار تقاليد عريقة لها قيمتها المعنوية. في حين جعلت الصدامية من الألقاب هوية سياسية تقسم المجتمع إلى أفراد مقربين من السلطة وبعيدين عنها. وقد تكون الألقاب الأكثر شيوعا آنذاك مثل التكريتي والعاني والدوري والدليمي مجرد احد نماذجها الفاقعة بهذا الصدد. بحيث كان أساتذة الجامعات يتندرون في أقوالهم مثل وصف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بعبارة "وزارة التعليم العاني والبحث الدوري"!! أو شيء ما من هذا القبيل كما رواه لي الكثير من أساتذة العراق الذين بقوا وعاشوا في ظل الدكتاتورية الصدامية.

لقد استطاعت الصدامية في غضون عقدين من الزمن إخضاع السلطة بصورة تامة لحكم العائلة والقبيلة والجهة والطائفة (المبطنة). من هنا هشاشتها. إنها دولة وسلطة بلا قانون ولا كفاءة ولا احتراف ولا إخلاص. بحيث أدى إلى أن تكون السلطة والدولة أجزاء تابعة للعائلة والقبيلة والفئة والجهة. بمعنى تحولهما إلى أجزاء تابعة لفاعلية الغريزة البدائية. وهي الصفة الكامنة في الصدامية باعتبارها احد الأنماط المغامرة للحثالة الاجتماعية والأطراف الهامشية التي ركبت موجة القومية (كما جرى ركوب الأقليات والأطراف والحثالة موجة الشيوعية).

لقد كانت الصدامية من حيث مكوناتها وصفاتها الذاتية غريبة ومغتربة عن التاريخ العراقي والعربي والمستقبل والثقافة والحق والحقيقة. من هنا تلذذها برائحة الغريزة. ومن هنا أيضا طابعها المغامر، شأن كل عصابة محترفة في السرقة والجريمة. أما الأسباب القائمة وراء رجوع الصدامية إلى القبيلة وتوسيع مدى الروابط بينها وبين البنية القبلية، فإنه مجرد دليل على نفسيتها وذهنيتها وبنيتها الداخلية، بمعنى أنه تعبير عن ظاهرة الرجوع إلى الأصل.

إن نفسية وذهنية الصدامية قبلية عائلية صرف. فهي تفتقد إلى أي بعد اجتماعي ووطني وقومي. فالقومية بالنسبة للصدامية مجرد غلاف. لأن كل ما فيها يتعارض مع الفكرة القومية. إنها اقرب إلى طقوس الحثالة والهامشية، شأن المجرم المتمسك في الوقت نفسه بمظاهر العبادات (من صلاة وصوم وحج). وهذا ينطبق على كافة المظاهر الأخرى. لكنه الأكثر وضوحا وبروزا عند القوى الراديكالية السياسية "اليسارية" بالأخص. فقد جعلت الصدامية من كل سلوكها ومسالكها "طقوسا" مهمتها خدمة عبادة الفرد واستحكام الاستفراد والغطرسة البليدة. وأدت إلى صنع معادلة تستقيم مع ما فيها، ألا وهي أيديولوجية + هامشية + راديكالية = قبلية + ذهنية عصابة + عصبة سياسية. أما الرجوع إلى القبيلة والعائلة، فلأنها الأكثر تماسكا. فحقيقة الصدامية دم وثقافة ضيقة، أي زمن الغريزة فقط.

• هل يمتلك حزب البعث العراقي منظومة نظرية متكاملة عن الدولة والمجتمع؟ ما هي هذه المنظومة؟ وخاصة بعد استلامه الحكم في العراق؟

إن الصفة العامة والخاصة لحزب البعث تقوم في طابعه الراديكالي. كما أنه لا يمتلك في العراق جذورا معرفية وثقافية واجتماعية عريضة وعميقة. وهو السبب القائم وراء صعود نزعة المؤامرة والمغامرة فيه. وإذا كانت هذه النزعة جزء من التقاليد السياسية السائدة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فإن خصوصيتها في العراق تقوم في توحدها المتصارع بين مد شيوعي وآخر قومي. فقد طبع المد الشيوعي آنذاك المرحلة، وأثر على مزاج وتوجه مختلف القوى بإغراء الأوهام الأيديولوجية. وذلك لأن المد الشيوعي آنذاك قد حوّل كل شيء إلى إغواء وإغراء. بحيث جرى تبسيط الأمور من خلال سحبها إلى ثنائيات مباشرة وسهلة في الموقف من كل شيء، بما في ذلك من الدولة والمجتمع. وكان بالإمكان وضع كلمة ضد أو نفي ما هو موجود لكي يمكن تقديم صورة عن البديل. وهي الصفة المميزة للتيارات الراديكالية عموما. فالراديكالية تهدم ولا تبني. وتعتبر الهدم بناءا. وهو الشيء الذي ميز التيار البعثي بصورة أشد بسبب فقدانه للرؤية التاريخية الثقافية عن الأمة والدولة والمجتمع. فالجوهري في فكرة البعث هي بعث "الأمة". وتحتوي هذه الفكرة على اثر مباشر وغير مباشر لبواعث فكر النهضة. وفي هذا تكمن فضيلتها. لكن الخطأ الجسيم للفكرة البعثية يقوم ليس في تسييس الفكرة والبواعث بل في ادلجتها التامة. وليس مصادفة أن تخلو الأيديولوجية البعثية وشعاراتها الأساسية من الأبعاد الاجتماعية والثقافية.

مما لا شك فيه، أن أولوية الأمة والدولة تحتوي على فكرة متسامية أيضا. غير أن محاولة جعلها فكرة "مقدسة" تحتوي على إمكانية تدنيسها لكل شيء. إذ لا قدسية في الدولة والأمة. كما لا يمكنهما الارتقاء إلى هذا المستوى. وعموما أن المقدس هو كل ما لا يمكن ابتذاله. وبالتالي، فإنه من عالم الروح المتسامي. أما الدولة والأمة فهما صيرورة من صراع المصالح. الأمر الذي يجعل من تقديس الدولة والأمة الوجه الآخر لسيكولوجية البطش والاستبداد. وهي "المنظومة" الوحيدة التي جسّدها حزب البعث قبل 1963 وبعدها حتى سقوطه. انه كشف عن كونها أيديولوجية الحثالة الاجتماعية وإعادة نتاج وتوطين البنية التقليدية والجهوية والفئوية والطائفية المبطنة والصريحة. من هنا مهمة إعادة النظر النقدية العميقة والشاملة بفكرة البعث بشكل عام وتجربته السياسية بشكل خاص من اجل تذليل إحدى أتعس وأرذل الصيغ الراديكالية (إلى جانب الشيوعية) في تاريخ العراق الحديث والمعاصر.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم