قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (22)

ميثم الجنابيالمحور الخامس: الأصول الأيديولوجية للسلطة الصدامية (4)

• يقول سامي الجندي احد مؤسسي حزب البعث "كنا عرقيين معجبين بالنازية. نقرأ كتبها ومنابع فكرها وخاصة واتسمرلين في كتابه (نشوء القرن التاسع عشر). وكنا أول من ترجم كتاب (كفاحي). وكان لدى ميشل عفلق النسخة الفرنسية من كتاب (أسطورة القرن العشرين) لروزنبرغ. ماذا يعني ذلك؟

إن ماهية الفكرة النازية محكومة بنفسية وأسطورة الأمة القوية. وبالتالي، ينبغي البحث عن مقدماتها في التاريخ الذاتي "للفكرة النازية". وفي حال الحديث عن صيغتها الألمانية، فإن من الضروري البحث عن مقدماتها في أزمة التاريخ والوعي الذاتي الألماني ونتائج الحرب العالمية الأولى. فالفكرة النازية الألمانية كانت فكرة الدولة والأمة المقدسة. وعادة ما تلازم هذه الفكرة صعود الفكرة القومية المتطرفة. لكن اتجاهها عادة ما يتحدد بطبيعة القوى الاجتماعية ورؤيتها السياسية والفلسفية.

فقد كانت النازية الألمانية محكومة بشعارات أيديولوجية راديكالية وليست بفكرة فلسفية متزنة، أو على الأقل إنها ليست محكومة بفكرة فلسفية عقلانية. بينما العقلانية هي الصيغة المثلى للفكرة القومية الصاعدة. أما بالنسبة للحالة الألمانية فإنها لم تكن معزولة عن ثقل التاريخ الألماني وحالة التجزئة والمهانة القومية بأثر نتائج الحرب العالمية الأولى والطفيلية اليهودية (الاقتصادية والسياسية) التي عادة ما كانت تعتاش وتنتعش في مراحل الخلل والانحطاط أو الانتقال العاصف. من هنا انتعاشها بين الأوساط العادية والجماهيرية والحثالة والعمال والكادحين. وضمن هذا السياق يمكن اعتبارها إحدى "البدائل". لاسيما وأن التيارات التوتاليتارية عموما هي أحد أشكال ومستويات البحث عن بدائل ومحاولة تجسيدها بالقوة. فالفكرة التوتاليتارية هي فكرة البديل الشامل.

والفكرة البعثية أيضا من حيث بواعثها وغايتها هي فكرة البديل القومي الشامل. من هنا فإن التأثر بالنازية كان فعلا عاديا وطبيعيا. تماما كما تأثر "اليسار" بالشيوعية والاشتراكية. والفرق بينهما يقوم في أولية الفكرة القومية أو الطبقية. ويشتركان في الأسلوب والمنهج والبواعث. لكن القومية أقرب إلى الواقع. والنازية لم تكن شرا مطلقا. إن هزيمتها العسكرية جعلت منها "رذيلة". ولو تصورنا انتصارها العسكري، فإن القضية سوف تكون من نوع آخر تماما. فقد استطاعت النازية الألمانية على سبيل المثال في غضون عقدين من الزمن أن تجعل من ألمانيا قوة عالمية عظمى، بينما لم تفعل الشيوعية في ألمانيا الديمقراطية على امتداد خمسة عقود إلا إلى تخريبها وانحطاطها المادي والمعنوي. طبعا ليس المقصود من وراء ذلك تفضيل احد هذين الاتجاهين على الآخر، بقدر ما أود الإشارة إلى أن التأثر بكليهما في العالم العربي كانا من طينة واحدة، ألا وهو الاستلاب الفكري وضعف المقدرة على إنتاج منظومات فكرية مستقلة تنبع من الواقع وتتأمل الآفاق بمعايير التجربة الذاتية والتراث القومي.

غير أن فكرة البعث كانت مع ذلك أقرب إلى الواقع والتاريخ والقومية من الأحزاب اليسارية قاطبة. أما التأثر بكتابات بعض الشخصيات النازية، رغم قلتها، فإنه لا يعني شيئا كبيرا بهذا الصدد. فقد ترجمت هذه الكتب إلى اغلب اللغات الحية. وقرأها اليساري واليميني والقومي والليبرالي وغيرهم. وينطبق هذا على كتب كثيرة. تماما كما جرى قراءة الكتب الماركسية الشيوعية من قبل الجميع، بما في ذلك من جانب البعث. بل أن الأيديولوجية البعثية في وقت لاحق "تمركست" بصورة أخذت تنافس فيها في العراق (وسوريا) الشيوعية "العربية" بل وتتفوق عليها! ذلك يعني أن جوهر القضية في مكان آخر ألا وهو الاستلاب الثقافي والفكري والسياسي الذي جعل من الركض وراء فتات الأيديولوجيات الأوربية بمختلف مشاربها جزء من هزيمة المشروع النهضوي والتنويري العربي المستقل. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن صعود الراديكالي السياسية المستعدة من حيث الإمكانية على التهام كل ما يخدم مشاربها ومآربها.

• استندت النازية الألمانية على بحوث غوستاف لوبون عالم الاجتماع الفرنسي، الذي أكد على إمكانية تحويل العرق إلى سياسة. وقد أشار هتلر في كتابه (كفاحي) إلى أهمية كتاب غوستاف لوبون (سيكولوجية الجماهير). وهناك تماثل بين الأدبيات البعثية والأدبيات الفاشية في تحديد معنى العنصر باعتبار العرق والأمة؟ كيف تعلل ذلك؟

إن إشادة هتلر بكتاب أو إهماله إياه لا يعني الحقيقة في شيء. أما سبب إشارته إلى أهمية كتاب لوبون (سيكولوجية الجماهير)، فإنه مرتبط بما في فكرة الجمهور والجماهيرية من قيم وأهمية دعائية وعملية سياسية بالنسبة للأحزاب التوتاليتارية.

فقد كانت فكرة الجماهير والجماهيرية إحدى المرجعيات الأيديولوجية الكبرى للقرن التاسع عشر – العشرين. ولم تفقد أهميتها في العالم المعاصر. وقد لا تفقد أهميتها النظرية والعملية على الأقل من حيث كونها جزء مهما وجوهريا بالنسبة لثنائية الخواص – العوام. لكنها قد تفقد أهميتها من حيث كونها فكرة جوهرية بالنسبة لبناء الدولة والأمة. أما بالنسبة لكتاب (سيكولوجية الجماهير)، فإن صداه الوجداني في الرؤية السياسية لهتلر يقوم في كونه احد الكتب البسيطة والمسطحة، ومن ثم الأكثر قربا إلى جسد العوام والأحزاب (الجماهيرية)، كما هو الحال بالنسبة لكتاب (كفاحي) لاحقا، وقبله (البيان الشيوعي) وأمثالها من "أناجيل" اليتامى والعوام!

لقد قدم كتاب (سيكولوجية الجماهير) "مفتاح" الرؤية وكشف عن قناع القوة الكامنة في هذه الكتلة العاقلة والجاهلة، المحيية والمميتة، الغنية والفقيرة، الفاضلة والشريرة، باختصار تلك التي تحتوي في أعماقها على كل إمكانيات الوجود المتناقضة. أما تحول فكرة العرق إلى سياسة، فإنها ليست جديدة. لكنها اتخذت في مرحلة صعود القومية والطبقية أبعادا جديدة. ولا معنى لربط ذلك بكتاب (سيكولوجية الجماهير) والنازية فقط. وذلك لأنها ظاهرة وثيقة الارتباط بالفكرة التوتاليتارية. فقد كانت الشيوعية على سبيل المثال في كل مكان انتصرت فيه، الأشد عرقية من غيرها (رغم غلافها الأممي).

أما إجراء موازاة بين فكرة البعث عن القومية والفكرة النازية، فإنه ليس دقيقا. فالبعثية ليست عرقية ولا قومية مغلقة. إنها قومية متجانسة لكنها ليست اجتماعية وليست ثقافية. بل قومية حزبية. أما النازية (الألمانية) فإنها قومية عرقية مغلقة. والتشابه الجزئي ممكن ووارد، تماما كما يمكننا العثور على قواسم مشتركة بين ملاك الرحمة وملك الموت. فكلاهما من إبداع الخيال اللاهوتي، كما إنهما يؤديان وظائف لا يمكن الفصل بينها. ويندثر احدهما بزوال الآخر. فالرحمة معقولة في ظل وجود هلاك وزوال. وفي حال الخلود فلا معنى للتخصص بمهمة الرحمة! (على الأقل من الناحية المجردة والمنطقية). بعبارة أخرى، إن الاشتراك بين بعض الأفكار البعثية والنازية ليس أمرا غريبا، وذلك لاشتراكهما في الفكرة القومية. ومن الممكن أيضا العثور عليه أيضا في مختلف التيارات القومية (الأوربية والأمريكية والروسية والصينية وغيرها). وبالتالي، فإن المهمة تقوم في دراسة وتحليل ونقد التجربة السياسية للبعث بالشكل الذي يكشف عن حدودها وضيقها في العراق والعالم العربي ككل، لكي يجري تجاوز وتذليل تقاليد الراديكالية والتوتاليتارية.

• اخذ ميشل عفلق من العرقية (الأمة ذات الرسالة) واعتبر هذه الرسالة النهوض الروحي للعالم، وإنها نوع من التفويض الإلهي، التي تعتمد الفهم الطبيعي العرقي من اجل ربط الأمة ووحدتها بالدم واللغة والدين وفق التصور الألماني العرقي. حيث يربط ميشل عفلق انحطاط هذه الأمة العرقية بسبب الاختلاط، بعد "أن فقد العرب التجانس القومي". لذا تقوم فلسفة البعث على الانغلاق والعصبية العرقية وكراهية الآخر من اجل بناء لحمة الأمة. ألم تكن طبيعة أيديولوجية البعث محكومة بفكر قومي وشوفيني وعنصري؟

في البدء يلزم القول، بأن فكرة الأمة والرسالة ليست بعثية فقط، بل وأمريكية وألمانية وروسية وبريطانية وفرنسية وغيرها. باختصار أن الجميع تشترك في التأسيس لفكرة المهمة الروحية للأمة، حالما تأخذ الأمة بوعي أهميتها وقيمتها الفعلية. وبالتالي، فإنها تحتوي على وظيفة التوحيد والتكامل والتنظيم والإثارة والتوجيه. لكنها وظيفة تختلف في حالة السيادة والقوة وما يقابلها من حالة الخضوع والضعف. ففي الحالة الأولى تصبح مقدمة للهيمنة وفي الحلة الثانية للنهوض والحرية.

فقد تحولت الفكرة الإسلامية القائلة، بأنكم خير أمة أخرجت للناس، إلى شعارات مختلفة بالارتباط مع تحول "الجماعة" إلى "أمة". كما أن معناها يتخذ أبعادا أخرى في حالة الانحطاط والخضوع للقوى الأجنبية. ففي الحالة الأولى تصبح شعارا روحيا وأخلاقيا وليس صفة أبدية، أما في الثانية، فإنها تصبح شعارا لتفعيل القوى الذاتية. ولا تشذ الفكرة القومية عن هذا الإطار العام فيما يتعلق بقيمة ومعنى وفاعلية الشعار.

فالفكرة القومية تعيد إنتاج هذا التوجه ولكن بمعايير القومية والاقتصاد والعسكرة والسيطرة. من هنا اشتراكها جميعا في الأوهام والألغام. وفكرة الأمة العربية ورسالتها جزء من وعي النهوض القومي ومجاراة الأمم. ومن غير الدقيق القول، بأن الفكرة البعثية عرقية تامة وتسعى لبنائها الذاتي على أسس عرقية وعدائية للآخرين. حقيقة، أن بعض عباراتها وصيغها لا تخلو من هذا المنحى، لكنه ينبغي النظر إليها باعتبارها جزء من الحماس القومي لتلافي الخلل التاريخي. وهي أبعاد "سورية" الأصل. بمعنى أن من الضروري النظر إليها ضمن تاريخ تطور الفكرة القومية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص. وهذه بدورها ليست معزولة عما تعرض له الشام في أواخر المرحلة العثمانية، بوصفها أتعس مراحل التحلل العثماني وقسوته تجاه الفكرة العربية. وفي وقت لاحق جرائم الاحتلال الفرنسي والبريطاني. هنا كانت البواعث الخفية للدفاع عن "النقاوة" العربية. إنها ردة الفعل المتشدد أحيانا على ضعف الفكرة القومية العربية. كما أنها الصيغة المناسبة على انتشار الشيوعية بوصفها أيديولوجية الأقليات القومية والمذهبية والطائفية والجهوية.

لقد كانت تلك حالة المرحلة الضرورية لهذه الهلوسة القومية من اجل أن تتكامل الفكرة القومية بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. أما الخل الأكبر في الفكرة القومية البعثية فيقوم في طابعها الأيديولوجي الصرف والحزبي الضيق. ومنهما تراكمت عناصر الرؤية التوتاليتارية، التي لم تكن بدورها معزولة عن تأثير النزعات التوتاليتارية الأخرى مثل الشيوعية والفاشية وغيرها.

• يقول حنا بطاطو في تفسيره لبعض مسار التاريخ العراقي الحديث، من أن تمركز بنية المؤسسة العسكرية العراقية على "المثلث السني" (ليس بالمعنى المتداول إعلاميا) يعود إلى فقر الزراعة في تلك المناطق إضافة إلى التغيرات التي طرأت على مسار الطرق التجارية فضلاً عن السياسة التي اتبعها كبار العسكريين العراقيين، التي أخذت منحى طائفيا في تشكيل النخب العسكرية واندماجها بالنظام القبلي. كل ذلك أدى إلى صنع نظام سلطوي متكامل بسبب استمرار الطابع العصبي البدوي المتماسك؟ هل يشكل هذا جزء من البنية التوتاليتارية في العراق؟

إن هذه المكونات أو العناصر الفعلية التي استحكمت في بنية الدولة الحديثة في العراق قبل سقوط الصدامية تحتوي دون شك على تأثير كبير وهائل بهذا الصدد. وعموما أن التركيبة السياسية العراقية وتاريخ الدولة الحديثة بحاجة إلى إعادة مسح سوسيولوجي عريض وعميق ومتعدد المستويات والجوانب من اجل فهم أعمق وأدق لحالة ما ادعوه بتكرار الزمن وانعدام التاريخ الفعلي للدولة والقومية. وليس البقاء ضمن أفكار حنا بطاطو سوى أحد النماذج المثيرة بهذا الصدد. بمعنى أن البحث السوسيولوجي العراقي مازال لحد الآن أسير رؤية قديمة وتوصيفية وبدائية لحد ما. مما يعكس بدوره الفقر الفكري الهائل للدراسات والأبحاث السوسيولوجية العراقية.

إن الفكرة التي توردها في استعراض آراء حنا بطاطو تعكس جزء ظاهريا من الواقع وتعقيد تفاعلاته التي أدت في وقت لاحق إلى صعود الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية. فالأولوية هنا ينبغي أن تعود إلى تفسير وتحليل ودراسة الأسباب القائمة وراء فشل مشروع الدولة الحديثة والمجتمع المدني والتقدم العلمي والتكنولوجي والثقافة القومية الراقية. مما يفترض بدوره الانطلاق من المقدمات الخفية التي كانت وما تزال تعتمل في الإبقاء على منظومة الخلل البنيوي للعراق التي أشرت إليها وشرحتها في أماكن عديدة. ذلك يعني أن من الضروري الانطلاق عنها مما ادعوه بدراسة اثر التاريخ المستلب للعراق في ظل العثمانية والصراع التركي الفارسي، الذي جعل من العراق على أطراف ذاته التاريخية والثقافية والقومية، بعد أن كان في مجمل تاريخه مركزا إقليميا وعالميا.

بعبارة أخرى، من الضروري الانطلاق من هذه الفرضية واستكمالها المنطقي في مختلف الأبحاث العلمية بما في ذلك السوسيولوجية. حينذاك يمكن فهم سرّ الأبعاد الواقعية لصعود تقاليد السنّة، واثر البداوة والقرصنة، بوصفه الوجه الآخر لتقاليد العثمانية في مراحل انحطاطها. من هنا جدية وتعقيد تأسيس وإرساء الفكرة الوطنية والقومية السليمة. لقد فشلت الملكية في تحقيق هذه الفكرة. وكشفت في نفس الوقت عما في هذه العملية من تعقيد. بمعنى أنها ليست سهلة في ظل وجود تمايز وافتراق هائل في البنية الاجتماعية والثقافية وتاريخ مختلف لحد ما من التربية والانتماء الوجداني. ويكفي المرء هنا تذكر نموذج سياسة البعث الصدامية مما يسمى "بالتبعية الفارسية" في مقابل "الجنسية العثمانية". الأولى مزيفة والثانية خالصة!! وهي مفارقة من طراز نموذجي تنعكس فيها تقاليد هذه الرؤية والتربية والمزاج، أي انعدام فكرة ونفسية وذهنية الوطنية العراقية. وهذه بدورها نتاج ضعف أو انعدام فكرة المواطنة والإنسان، وبالتالي انعدام التقاليد الإنسانية وفكرة الحرية والنظام الاجتماعي والقانون. وهذه كلها من بقايا المرحلة العثمانية. ولم تفلح المرحلة الملكية في تذليل هذه التركة. وهو السبب الذي يفسر سرّ الصعود الوطني العارم بانقلاب الرابع عشر من تموز باعتباره "ثورة وطنية". كما أنه يفسر طبيعة الانقلاب العسكري للثامن من شباط عام 1963. فهو الانقلاب الذي أراد إعادة مسار الزمن إلى هبائه الأول، أي إلى تقاليد الماضي (الجهوية الفئوية الطائفية) ولكن من خلال ربطها بالبنية القبلية والعائلية. وبلغت هذه الممارسة ذروتها في الحكم الصدامي، باعتباره الصيغة المتكاملة للحكم العائلي القبلي الجهوي الفئوي الطائفي المعجون بسبيكة الدكتاتورية والتوتاليتارية! أي أتعس وأرذل أشكال الحكم الممكنة في الوجود! إذ لم تكن التوتاليتارية في الواقع سوى الغلاف الضروري لتثبيت هذا النوع من الحكم.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم