قضايا

الحرب والثورة.. رؤية نظرية

علي المرهجالحرب هي كما يُعرفها (كلاوزفيتز 1780ـ 1831) بكتابه (في الحرب) بأنها "فعل عنيف المُراد منه إرغام خصمنا على تلبية إرادتنا"[1]. والحرب تستدعي إتباع خطوات ثلاث طبقاً لكلاوزفيتز هي: المفاجئة، والسرعة، والتفوق في القوة"[2]. والحرب هي صراع طبيعي ينبغي أن ينتصر فيه أحد الطرفين بالقوة، ومن يمتلك الإرادة والتقنية والتخطيط السليم والموهبة التي يحتاجها القائد في لحظات استثنائية وهو يخوض غمار المعركة لكسبها وإن كان في الكسب إراقة للدماء، فالحرب صراع بقاء، والبقاء فيها للأقوى، بحسب نظرية دارون التطورية، ولا حرب من دون مُمارسة جادة للعُنف وإرغام العدو على الاستسلام، ومن ينتصر في الحرب سيبني مجد أمته، وهو القائد "الكاريزمي" الذي يعي أهمية الدبلوماسية أولاً، ويعي أهمية الحرب ودورها في حسم الصراع ثانياً[3].

والحرب هي عادة ما تقوم بين دولتين، أو تحالفين، لكل منهما غاية سياسية، يرومن تحقيقها، والإنتصار لها، هذه الغاية السياسية مُرتبطة بلا شك بتحقيق المصلحة.

وهناك حروب بين (ميليشيات)، ولكن نشوء هذه الميليشيات عادة ما يكون خارج هيمنة الدولة المركزية. وحروب الميليشيات هذه هي حروب ليست نظامية ولا تخضع لشروط التشكيل والبناء العسكري بهرميته وإلتزامه والضبط الذي تتصف به القوات النظامية.

وهناك حرب العصابات، التي كان لنا في في حروب (فيدل كاسترو وتشي جيفارا) مثالاً يُحتذى في صدق نضالها المُسلح ضد أنظة الهيمنة والسيطرة الإمبريالية الرجعية، وهي لا تختلف كثيراً عن حرب الميليشيات، لأنها في الأغلب الأعم تكون حرباً بين جماعات تتبنى رؤية عقائدية أو أيديولوجية مُعينة تهتدي بأمر قائد لها آمنت برؤاه، وبين قوات نظامية، وليس شرطاً أن تكون حربها مع القوات النظامية هي حرب بين نظام أحدهما عادل والآخر ظالم، لأن كثيراً من حروب الميليشيات كانت ضد قوات أنظمة فاسدة، يروم أصحابها تحقيق العدل وإنصاف أبناء وطنهم من ظُلم الفاسدين، فخذ مثالاً على حرب العصابات، حروب (جيفارا) في رؤيته لـ "حرب العصابات، أسلوباً التي ينشد بها هو وجماعته تحرير الشعوب من هيمنة الأنظمة المُستبدة والفاسدة. "والعصابات الثورية في عملها وتنظيمها العسكري مُستقلة عن السُكان المدنيين، وإذا قررت الظهور فسيكون ذلك في الزمان والمكان اللذين يختارهما القائد"[4]، وكل حروب العصابات هي حروب لا نظامية ضد قوة عسكرية نظامية تأتمر بأمر القيادة العسكرية ذات التراتب الهرمي، ولكنها تخضع لهذه الأوامر بفعل تدريبها الذي تأسست عليه قوى الجيش في الطاعة التراتبية للقيادة العسكرية. وحينذاك سيكون في حرب العصابات كل جُندي مُنتمٍ في صفوف الجيش النظامي، ؟إن لم يتنح عن المهمة المُناطة به عدواً، وفي هذه الرؤية يتفق دُعة النضال المُسلح من السلفيين مع اليساريين "الراديكاليين" من الذين يؤمنون بأن قتل جُندي من المُنخرطين في أجهزة السلطة، سيكون له تأثير وفاعلية تفوق مئات الخطب الوعظية في دعواتها للإصلاح والتغيير!.

غالباً ما يكون مادة حرب العصابات أو الميليشيات، ولا نقصد هُنا بالميليشيات كما عرفناها في العراق، لها رجل في الحكومة، فهي تدعمها حينما تتعرض مصالحا للتهديد والخطر، ولكنها تضع رجلها الأخرى بوضع آخر، يعمل أصحابها مع أعداء الوطن ممن يُضمرون له الشر، ويرومون خرابه، إنما الذي نقصده بعبارة (الميليشيات التحررية) هي تلك الجماعات التي تنتمي للطبقات الدنيا من الشعب، من الذين ذاقوا مرارات الحكومات المُستبدة وتسلطها ونسيانها لهم، وتُدافع عن حقوق المقهورين والمُستضعفين من أبناء جلدتهم، يعملون على تخليص المُستضعفين من سُلطة الفساد التي هيمنة على رأس المال، فيسعون لخلق قاعدة جماهيرية لهم وقيادة كاريزمية تحمل على عاتقها الدفاع عن الحقوق المُستلبة من أبناء الطبقة المسحوقة، وتسعى عبَر المظاهرات السلمية أولاً، فإن استجابت السلطة وتفاعلت بصدق مع مطالب الجماهير، فستكون مُهمة هذه القيادة هي التحاور مع السلطة والعمل معها لوضع برنامج عمل واقعي لتحقيق المطالب المُمكن تحقيقها في التو واللحظة، وإن تمادت السلطة في غيَها، فمهمة القيادة (الكارزمية) والعاملين معها هو السعي بالقوة المُتاحة لإسقاط الحكومة، وعلى الجماهير المُنتفضة أن تعمل على إيجاد (أنتلجسيا) تختارها هي وتكون موضع ثقتها كي تستطيع تنسيق جهودها وتكون بمثابة الناطق الرسمي بإسم الجماهير، والمُعبَر الحقيقي عن مطاليبها وصياغتها صياغة معرفية وقانونية، وعلى الجماهير أن تمتثل لرؤى هذه (الأنتلجسيا) وتصيرحاتها الثورية أو الإصلاحية، كي لا تكون المُتظاهرات مجرد رفض ورفع لشعارات، وكل جماعة تعمل بحسب أهوائها ورغباتها، لأن مهمة تنظيم التظاهر وصياغة برامج الثورة إنما تكون من مهام هذه النُخبة الفاعلة (الإنتلجسيا)، وعلى الجماهير أن تستمع لها وتنتظم وفق ما تطرحه هذه النُخبة الواعية المُدركة لهموم الأمة والناشئة من رحم المُعاناة.

إن مهمة الجماهير المُنتفضة أو الثائرة ضد الظُلم والفساد هي الصبر والمُطاولة في التظاهر أو الإعتصام، ومُمارسة حقهم في التعبير عن الرأي الذي كفلته كل دساتير العالم، ولكن مهمتهم هذه تحتاج لطبقة مُثقفة واعية (أنتلجسيا) كما أكدت، يسيرون على هديها وينتظرون توجيهاتها، وإن جزعت الجماهير من تغافل السلطة وتغاضيها السافر عن تلبية مطاليبها، فعلى نُخبة الإنتفاضة أن يُوقفوا الحوار ليُتحون للجماهير التعبير عن رفضها عبر بعض المُمارسات العُنفية، بعد أن عجزوا عن توصيل مطاليبهم بالطُرق السلمية.

بعد يأس الجماهير من السلطة، وإصرار السلطة على تجاهل مطاليب الجماهير أو تسويفها، فأظن أن لا بديل للجماهير من المُستضعفين سوى اللجوء لمُمارسة العُنف، ومن هنا تبدأ مرحلة (حرب العصابات) القائمة على مبدأ الإيمان بحقانية المطالب وبطاعتهم للقيادة الكارزمية، لتجدهم أكثر الناس إيماناً بالتضحية بالنفس والتصدي والمواجهة، وممارسة لعبة (الحرب الخاطفة) على قاعدة (الضرب والإختفاء) المفاجئ.

لقد كان ريجيس دوبريه من المُدافعين عن (حرب العصابات)، بقوله "إني مسؤول عن تبرير وتمجيد (حرب العصابات)، وأقبل هذه المسؤولية كإمتياز"[5].

لقد كان (دوبريه) من أنصار (فيدل كاسترو، ومن المؤمنين بنظرية "الكفاح الثوري"، الكفاح ضد سلطة الدولة البرجوازية.

ومصير كل الثورات غير المُرتبطة بقيادة (كارزمية) تُنظم صفوف الثوار، كي تكون هي المُنظمة للجموع البشرية المُنتفضة من المُستضعفين، لتكون هي القيادة التي تُنظم تحركات هذه الجموع الثورية، الفشل، ففي حال غياب هذه القيادة سيكون مآل كل ثورة الفشل، أو "التعثر والتأخر في استجابة الحكومة لمطاليبها الشرعية"[6]. ولكن الفشل لا يعني اليأس، فالفشل "بالنسبة للثوري، هو عامل مُساعد: والفشل ـ نظرياً ـ أكثر إغناء للنجاح، فهو يجمع بين التجربة والمعرفة".

إن (حرب العصابات) ضد الجيوش النظامية لهي شبيه بـ (حرب الاستنزاف) لقوة هذه الجيوش النظامية.

لكن ما يُميز الجيوش النظامية هي أنها أكثر تنظيماً من الجيوش غير النظامية، فيها الكثير من تنظيم والبناء هرمي بتشكيلات مُتنوعة تخضع لهيمنة الدولة، بل هي جزء أساسي فيها لفرض هيبتها، وإحتكار مُمارسة العُنف، وفق شروط تكوين الدولة ومصلحتها، والحروب في حال التحديات تُعد فعلاً اجتماعياً مقبولاً، لأن مهمة الجيوش فيها حماية الدولة وحدودها من الخطر الخارجي، وهي من لها الحق في مُمارسة العُنف ضد كل الجماعات الخارجة عن القوانين أو المُهددة لأمن الدولة في الداخل والخارج، وهنا نقصد بالجيوش، كل التشكيلات الأمنية التابعة للدولة التي تأتمر بأمر القائد العام للقوات المُسلحة في الدولة.

في الحرب عادة ما تغيب الإرادة الفردية، لتكون في خدمة الإرادة العامة التي تُمثلها القيادة العسكرية وتوجيهها للجُندي على وفق تنمية وعيه الوطني وولائه للأمة أو الوطن، لذلك تجد آلاف الشباب يهبَون للدفاع عن وطنهم حينما يستشعرون بأن هناك خطراً حقيقياً يُهدد أمن دولتهم، فهنا تغيب الإرادة الفردية لتكون ذائبة في الإرادة الوطنية التي يُمثلها خير تمثيل الجيش في دفاعه عن الأرض والعرض.

وحينذاك لا يكون هناك قبول للتساؤل عند الغالبية من المواطنين عن حرب بلدهم مع بلد آخر، هل هي "حرب مشروعة"؟ أم غير مشروعة، لأن فعل المشروعية تُحدده المصلحة العامة، وحينما تتهدد المصلحة العامة للوطن، فستكون كل حرب ضد من يُهدد هذه المصلحة هي "حرب مشروعة" من دون البحث أو الكشف عن أسبابها وإخضاعها للتفسير العقلي.

لكن مُميزات المُحارب المُهاجم أنه "يبحث أولاً عن أضعف نقطة في البناء الاجتماعي للدولة التي ستكون فريسة له. ويستخدم هذه النقطة الضعيفة للتسلل قبل أن تُعلن الحرب فيقوم بعمل شروخ صغيرة في البناء الاجتماعي عن طريق بعض الأفراد غير النابهين أو غير المُهمين غير أن الضغط عليهم يظل في ازدياد، وتتسع الشروخ لتصبح القاعدة صالحة للتسلل التالي"[7].

وفي الثورة، أيضا ينبغي على قادتها تنظيم صفوف الجماهير الثائرة، ومعرفة مكامن القوة والضعف في الأجهزة الأمنية للنظام الحاكم، والعمل على الكشف عن افجوات والثغرات ونقاط الضعف في منظومة هذه الأجهزة، كي يُمكن إختراقها بمد جماهيري عارم ليس بمقدور السلطة وأجهزتها الأمنية مواجهته، أو بتخطيط عسكري عالي الدقة يتخذه الثوريون من القادة العسكريين الرافضين لنظام الحُكم بمعونة الجماهير الثورية المُنتفضة لاختراق صفوف أجهزة أمن الدولة النظامية.

إن الفعل الإيجابي في الثورة هو هدوء وتعقل قادتها وتنظيمهم لحركة الجماهير الذي ستحصد الثورة ثماره بفضل قوة الرفض الجماهيري أولاً، وتفاعل أو تخلي بعض أجهزة أمن الدولة عن مُلاحقة الثوار ثانياً، لأن كل من هُم ينتمون لأجهزة الدولة الأمنية، ولكنهم أفراد ومواطنون ينتمون لهذا الشعب الثائر، ولا مصلحة لهم بقمع ثورة شعب هُم جُزء منه، لذلك فهدوء قادة الثورة يخدم الجماهير في سحب البساط من تحت (السلطة الغاشمة) حينما تستطيع أن تجعل من بعض رجالات النظام السابق يتفاعلون مع الثوار، أو بأقل الأحوال يُخففون الوطأ في سعيهم لقمع الجماهير المُنتفضة أو الثائرة، لأن هدف كل ثورة هو البناء لا الهدم، وحينما يستجيب بعض رجالات النظام الحاكم لمطاليب الثوار، فينبغي على قادة الثورة التعامل معهم والحرص على الحفاظ على حياتهم.

 

د. علي المرهج استاذ فلسفة

.......................

[1]ـ ماري كالدور: الحروب الجديدة والحروب القديمة، دراسات عراقية، أربيل ـ العراق، ط1، 2009 ص27.

[2]ـ الكولونيل ف. و. ميكشه: الحرب الخاطفة، تر:كمال عصمت الشريف، دار الطليعة، بيروت ـ لبنان، ط1، 1970، ص28ـ 30.

[3]ـ يُنظر: الجنرال كارل فون كلاوفيتز: في الحرب، تر: أكرم ديري، والهيثم الأيوبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ لبنان، ، ط2، 1980.

[4]ـ يُنظر: ريجيي دوبريه،، ثورة في الثورة، تر:الياس سحاب، دار الآداب، بيروت ـ لبنان، ط3، 1969، ص58.

[5]ـ ريجيه دوبريه: المصدر نفسه، ص14.

[6]ـ المصدر نفسه، ص36.

[7]ـ المصدر نفسه، ص23.

 

 

في المثقف اليوم