قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (23)

ميثم الجنابيالمحور السادس: الشخصية التوتاليتارية وظاهرة القادة والجماهير (1)

• التحليلات السياسية للنموذج التوتاليتاري تثبت أن الشخصية التوتاليتارية تتسم بجمود الإدراك وهشاشة المعرفة وسيادة الموقف الانتقائي. هل تنطبق هذه التوصيفات على النموذج الصدامي من خلال قراءتكم لخطاباته السياسية والفكرية؟

مما لاشك فيه أن التوتاليتارية تصنع شخصياتها، تماما بالقدر الذي توثر فيه هذه الشخصيات أيضا على شكل أو نمط النظام التوتاليتاري. ومع ذلك يمكننا رؤية سمات مشتركة بينها، قد يكون من بين أكثرها وضوحا في ميدان الوعي هو سطحيته وطابعه النفسي والأيديولوجي. وهي ظاهرة ليست معزولة عن تداخل عاملين أو مكونين، الأول هو عامل اجتماعي – سياسي- ثقافي، والثاني هو عامل تاريخي.

ومن بين أهم مكونات العامل الأول هو تداخل وتفاعل الحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية والراديكالية الحزبية والأيديولوجية المغلقة (العقائدية). أما العامل التاريخي فيرتبط أساسا بصعود وهيمنة أيديولوجيات البدائل الكبرى المميزة للقرن العشرين. وبالتالي ليست صفات جمود الإدراك وهشاشة المعرفة والانتقائية التي تتسم بها الشخصية التوتاليتارية سوى النتيجة الحتمية المترتبة على تلازم وتفاعل المكونين المشار إليهما أعلاه. وبالأخص حالما تنتظم الحثالة الاجتماعية بالسلوك الراديكالي والأيديولوجية المغلقة في قوة قادرة على مسك السلطة. عندها يصنع هذا "الانتظام" شخصية تناسبه. وليس جمود الإدراك وهشاشة المعرفة والانتقائية سوى أحد ملامحها الكبرى. وذلك لأن الشخصية التوتاليتارية مغلقة من حيث المبدأ والغاية. ويرتبط ذلك بواقع أن جميع الأمور بالنسبة لها واضحة جلية على قدر ما فيها من تسطيح للوعي، هو عين تصورتها وأحكامها الأيديولوجية الجاهزة. من هنا احتقارها ومحاربها للشكوك والاعتراض والاحتمال وتنوع البدائل. ومن هنا أيضا محاربها العنيفة للحرية بشكل عام والإبداع الحر بشكل خاص.

إن السبب الرئيسي القائم وراء اتصاف الشخصية التوتاليتارية بجمود الإدراك وهشاشة المعرفة وطابعها الانتقائي في مجال النظر والعمل يقوم فيما يمكن دعوته بالعصمة الأيديولوجية. فالأيديولوجية بحد ذاتها قوة مناهضة للعقل والاجتهاد. إذ تقترن من حيث بنيتها الداخلية بالدين والإيمان. وهذا ينطبق على كافة الأيديولوجيات. بل يمكنني القول بن الأيديولوجية وعي طفولي وارعن. باختصار أنه بلا منطق. وهي نتائج "العقل المسطح" المقترن بفقدان الرؤية النقدية. ومن الممكن أن نتخذ من الماركسية التي يمكن اعتبارها من بين أكثر الأيديولوجيات الحديثة رقيا بما في ذلك في رؤيتها العقلية والعقلانية والنقدية والأخلاقية نموذجا لذلك. فكل نزوعها النقدي يتسم أيضا بقدر كبير من التسطيح، أو بصورة أدق إنها الوجه الآخر لفقاعة اليقين الإيماني. من هنا يمكن توقع مستوى الإدراك والمعرفة التي تميز الشخصية التوتاليتارية التي تتمسك في أقوالها وأفعالها بيقين العصمة الفكرية (الأيديولوجية). فالشخصية التوتاليتارية لا تضع أسئلة بل أجوبة فقط. إنها بلا عقل، بل مجرد لسان. ومن ثم لا بصيرة فيها بل غريزة فقط. أما إلى أي حد تنطبق هذه الصفات على صدام؟ فإن الإجابة تفترض النزول إلى الواقع كما هو من خلال وضع السؤال القائل: من هو صدام، وما هي أصوله العائلية، والاجتماعية، ومستوى احترافه العلمي، وتأسيسه الثقافي، وتربيته السياسية؟ أما الجواب فإنه جلي بهذا الصدد. بمعنى إننا نقف أمام نكرة تامة لولا صعودها المغامر إلى سدة الحكم. فهو نموذج خالص للحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية والجهل المعرفي والتعليم الجزئي والأولي. فهو بمعايير الاحتراف العلمي شخص لم يتعدى غير درجة محو الأمية. أما تربيته السياسية فلا تتعدى الحزبية الضيقة وتقاليدها الخاصة في المؤامرة والمغامرة. كل ذلك يجعل من الانتقائية صفة ملازمة لها. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الثقافة الأيديولوجية بطبيعتها وطبعها انتقائية في المواقف والتقييم. وفي هذا يكمن خلافها على سبيل المثال عن الانتقائية الفكرية الفلسفية. فالفرق بين الانتقائية الأيديولوجية والفكرية الفلسفية، يقوم في أن الأولى جزء من لعبة المصالح الضيقة، أما الثانية فإنها جزء من حالة معرفية. من هنا ضعفها المحتمل في ميدان تأسيس المعرفة ونظامها المنطقي، لكنها تصب حتى في صيغتها هذا ضمن تيار التأسيس المبطن وغير المباشر لفكرة التسامح والانفتاح المعرفي والثقافي. أما الثقافة الأيديولوجية (التوتاليتارية) فإنها لا تعرف معنى ومضمون ووسائل الانتقائية الفكرية الفلسفية. من هنا عدم جدية الحديث عن خطاب فكري عند صدام. إن خطاباته لا علاقة لها بالفكر، وذلك لأنه خطاب السلطة والثروة المصادرة. وخارجها لا خطاب قط.

• هناك فكرة تقول بأن الحقل المعرفي للمجتمع هو خريطة ذهنية عادة ما تحدد صورة الفرد باعتباره فاعلا سياسيا. كما تحدد صورة العلاقة بينهما وطبيعة السلوك الاجتماعي والاقتصادي والفكري. في ظل هذه الموقف العام كيف يمكننا الحديث عن الأطر المعرفية التي أنتجت الظاهرة الصدامية؟

إن نوعية المعرفة ومرجعياتها العامة في الثقافة القومية عادة ما تحدد مسار التيارات الفكرية ومدارسها. كما تحدد بدورها الأطر الفعالة في تعميق وتوسيع المعرفة والإبداع الشخصي فيها. فالمعرفة الحقيقية تراكم. وضمن هذا السياق فقط يمكننا الحديث عن أثرها الفعلي في رسم صورة الفرد ومن ثم تفعيل مكوناتها في الحياة السياسية. فالشخصية المعرفية سياسية أيضا، أو على الأقل أن مشاركتها في الحياة السياسية محكومة بالضرورة بما في المعرفة من قدر وأثر في إرساء أسس الواقعية والعقلانية وتوسيع الرؤية النقدية وشحذ العقل الثقافي. كما أن غياب هذه المعرفة أو ضعفها يصنع بدوره "صورة الفرد" السياسية المناسبة لها.

بعبارة أخرى، إن البنية المعرفية للمجتمع هي الآلية الخفية والعلنية، الكلية والجزئية التي تحكم في نهاية المطاف السلوك الاجتماعي للفرد. وذلك عبر تحديدها للمبادئ والقيم والمفاهيم بوصفها نسيجا يصنع الأطر العامة والخاصة للفرد والمجتمع على السواء. والسياسة جزء من بنية المجتمع المعرفية. والبنية المعرفية بالمعنى الدقيق للكلمة تفترض تضافر وتفاعل مكونات أساسية لعل أهمها هي العلم والعقلانية والتجريب والاحتراف والتخصص والتراكم المنتج والإبداع الحر. إذ تصنع هذه المكونات على قدر ما فيها من طاقة اجتماعية واقتصادية بنية سياسة موافقة لها بوصفها إدارة منظمة وباحثة عن حلول علمية عقلانية ومنظمة ضمن تقاليد متراكمة للإبداع الحر. وضمن هذا السياق فقد تصبح السياسة علما وفنا ومنظومة. ذلك يعني أن السياسة ونوعيتها ترتبط بنمط أو أنماط المعرفة السائدة.

وفيا لو حاولنا تطبيق هذه الصورة العامة والمنهجية على واقع العراق الحديث، فإننا نتوصل إلى أن تقاليد العلم والعقلانية والتجريب والاحتراف والتخصص والتراكم المنتج والإبداع الحر في العهد الملكي كانت عملية نامية، أي جزء من صيرورة تاريخية ثقافية دولتية وطنية. أما في المرحلة الجمهورية فإنها أصبحت اقرب ما تكون إلى جزء من تجريبية الأحزاب ونزوعها الراديكالي (اللاعقلاني).

فقد أدى التحول الراديكالي لعام 1958 إلى فتح الطريق أمام موجة الهمجية الجديدة للأحزاب والحزبية. ومن ثم سيادة التجريب الفج و"خوض المجهول" المعلوم بمعايير الأيديولوجية فقط. أما النتيجة فهي تهشيم كل شيء. الأمر الذي جعل من المرحلة الجمهورية مجرد زمن المغامرة الخالية من معاناة البحث والمعرفة المؤسسة. من هنا فقدانها للوجدان الصادق وبواعث الاكتشاف. وفي هذا يكمن سرّ صعود الصدامية ومصدر وجودها السياسي. إذ أصبح بإمكان كل مغامر أن يكون وزيرا ورئيسا وحاكما مطلقا. فالمعيار هنا لم يعد له علاقة بالمعرفة والعلم والعقلانية والاختصاص والاحتراف، بل بالمغامرة فقط. وهي صفة لا علاقة لها بالمعرفة بل تعارضها بصورة مطلقة.

• إحدى المقاربات السوسيولوجية لولادة الظاهرة الصدامية تكمن في انحطاط الثقافة العراقية. ولم يكن ذلك معزولا عن النسيج التاريخي للثقافة العراقية الحديثة وانغلاقها البنيوي. ما هي مرتكزات الظاهرة الصدامية داخل الحقل الثقافي العراقي؟

إن العلاقة بين الثقافة ومختلف مظاهر الحركات السياسية علاقة عضوية. إذ يحدد كل منها الآخر بما فيه وعلى قدر ما يحمله من قيم ومفاهيم وتأثير فعلي في الحياة المادية والمعنوية للمجتمع والأمم. فكل منهما مرآة للآخر و"أداة" قادرة على الفعل. وفيما لو تجردنا عن المطلب المتسامي بتحرر الثقافة والمثقف عن السلطة، فإن ذلك لا يتعارض مع ضرورة تفعيل دوره السياسي. فالثقافة قوة سياسية من طراز خاص. وبالقدر ذاته يمكننا وصف السياسة بقوة ثقافية من طراز خاص. سواء ارتقت الثقافة والسياسة إلى مصاف المنظومة أو انحّطت إلى مصاف العبارات والشعارات المتفرقة والطائشة. ففي حالة كونها منظومة فإنها تعمل على تنظيم الوعي والعمل، وفي حال خلاف ذلك فإنها تنتح أيضا تشتيت الوعي والمواقف.

إضافة لذلك أن الحركات والتيارات السياسية تعبير عن واقع الثقافة، وذلك لأنها تمثل وتتمثل القيم الثقافية السائدة وأنماطها. وهي العلاقة الجلية فيما آلت إليه أحوال العراق الحالية. بمعنى أن انحطاطه الحالي ليس معزولا عن انحطاط حالته الثقافية. بل أن المشكلة الكبرى بالنسبة للعراق في ميدان الثقافة تقوم في انعدامها أو ضعفها بمعايير المنظومة. إذ لا توجد منظومة أو منظومات ثقافية فيه بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فالسائد فيها أشياء اقرب ما تكون إلى الأعراف والتقاليد والتقليد (العصري ايضا!).

فقد كانت المرحلة الملكية، مرحلة التراكم الثقافي. إنها مرحلة التجريب الحر. ومن ثم فهي ثقافة متراكمة وطبيعية. لكنها لم تبلغ درجة الثقافة الاجتماعية الوطنية والقومية لكي يجري تحوّلها النوعي صوب النفس، بوصفه المسار الطبيعي والتلقائي لوعي الذات التاريخي. وبدون ذلك لا يمكن تأسيس المسار الطبيعي لارتقاء الثقافة صوب الرؤية الثقافية المتسامية. أما التحول الراديكالي وصعود الفاعل السياسي والأحزاب منذ خمسينيات القرن العشرين فقد أدى إلى قطع هذه العملية الطبيعية. وهنا ظهرت للمرة الأولى فكرة ورغبة وممارسة وأساليب جعل الثقافة خادما وضيعا للسياسة والأحزاب.

ففي تحول الثقافة إلى خادم وضيع للأحزاب، والمثقف إلى تابع لرجال الأحزاب يكمن المصدر الاكبر لانحلال وتخلف الثقافة وسقوطها شبه التام. مع ما رافق ذلك من أزمة ذاتية بنيوية. ولعل أهم سماتها وخصوصيتها في العراق تقوم في تحول الأحزاب إلى ملجأ شبه وحيد للمثقفين. بحيث أصبح الصراع من اجل كسبهم لحضيرة الأحزاب مرجعية سياسية فكرية ثقافية كبرى، وليس للعقل الثقافي للأمة. وأصبح "المسئول الحزبي" يتحمل "مسئولية" تقديم المثقف للمجتمع! بمعنى فقدان المسئولية التامة. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ونوعية وحجم الجهل المعرفي المميز لرجال الأحزاب الراديكالية في العراق. عموما أن الحزبي لا يمكنه أن يكون مثقفا. تماما كما أن المثقف لا يمكنه أن يكون حزبيا. فالثقافة الكبرى منظومة حرة، أي متحركة وعاملة ومبدعة بمعايير المرجعيات المتسامية للأمة وتاريخها الذاتي. بينما الأحزاب أيا كانت تبقى جزئية وعابرة وأيديولوجية.

إن سيطرة الحزب السياسي على الثقافة والمثقف أدى أولا وقبل كل شيء إلى انحلال وتحلل فكرة ومؤسسة النخبة بشكل عام والثقافية بشكل خاص. وتكشف نماذج الشيوعية والبعثية، بوصفهما التياران الاكبر للفكرة والممارسة الراديكالية للأحزاب السياسية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، عن أن معيار الارتقاء في سلم الحزب هو الجهل والحثالة والهامشية الاجتماعية أو القومية أو الدينية أو الثقافية أو مختلف تركيبتها أو بمجموعها! وهي إحدى المفارقات الكبرى للتاريخ الحديث والمعاصرة في العراق. إذ نقف أمام أحزاب تدعو للمعاصر والحداثة بينما في جوهرها هي تمثيل وتمثل لقيم التقليد والتخلف. مما أدى بدوره إلى ظهور ثقافة حزبية مسطحة ومثقف حزبي أجير ومثقف مرتزق. أما الثقافة فقد أصبحت جزء من مغامرة الأحزاب الراديكالية والحثالة الاجتماعية. وحصلت هذه الظاهرة على ذروتها وتجسيدها التام في الصدامية بوصفها الممارسة التي أكثر من تمّثل ومّثل هذه الظاهرة. وذلك لأنها كانت نتاجها الأكثر تشوها في الوقت نفسه، كما نعثر عليه في دفعها هذه الظاهرة إلى أقصى وأقسى أطرافها وأشكالها.

• الأيديولوجية التوتاليتارية تقوم على الحشود الجماهيرية. والمعروف في حقل السوسيولوجيا أن الجماهيرية مفهوم هلامي؟ متى ظهرت الجماهير بوصفها ممارسة في تاريخ العراق الحديث؟ وهل ظهرت تحت وطأة الأحزاب الراديكالية؟

إن إحدى السمات الجوهرية للتوتاليتارية هو ارتباطها بفكرة الجماهير والجماهيرية. بحيث يمكننا القول، بأن التوتاليتارية غير معقولة دون فكرة الجماهير والجماهيرية. وإذا كانت الجماهير تشكل على الدوام المادة الضرورية لكل الحركات الاجتماعية الكبرى بما في ذلك التي أثرت بصورة حاسمة في تغيير وتطوير المجرى التاريخي للإنسانية، فإن ما يميز التوتاليتارية بهذا الصدد يقوم في طبيعة الانقلاب الذي أحدثه وأدخلته على فكرة ووظيفة الجماهير.

فالجماهير فيما سبق مرتبطة بالأفكار المتنوعة عن العوام والرعاع والجمهور بوصفها طبقات أو فئات اجتماعية وقيم أخلاقية وأنماط ذهنية، أما بالنسبة للتوتاليتارية فإن الجماهير أصبحت مهمة ووظيفة وشعار مجرد وأداة وقوة. بمعنى تغير موقعها في المنظومة الأيديولوجية والمواقف العملية والغايات المعلنة. ولم يكن هذا التحول معزولا عن التغير النوعي والبنيوي الذي أدخلته الرأسمالية على تنظيم الفئات والطبقات الاجتماعية في مراحل تطورها الأولى. بحيث جعلت من فكرة التجمع والتمركز أسلوبا لوجود المجتمعات والأمم والدول. وهي ظاهرة ايجابية كبرى لكنها كانت تحتوي على طاقات عنيفة ولا عقلانية بسبب عدم ارتقاء النظام الاجتماعي الاقتصادي للرأسمالية آنذاك إلى مستوى أولوية الفكرة الاجتماعية وتنظيمها في قوانين ملزمة للدولة والمجتمع والفرد. الأمر الذي جعل من الجماهير قوة قائمة بذاتها وقابلة من حيث كونها مادة قابلة للاشتعال بأثر اللهيب المحرق للأيديولوجية السياسية الراديكالية. لاسيما وأن إحدى الصفات الجوهرية الملازمة للتطور الحديث (الرأسمالي والتكنولوجي والقومي) يقوم في صنع "الجماهيرية" على مستوى الوجود والوعي والتنظيم والنفسية. فالوعي الجماهيري الحديث والثقافة الجماهيرية هي نتاج التصنيع السريع والتمدن. إنها صانعة الأنماط الكبرى والصغرى والنمطية الحادة في الذهنية الثقافية والسلوك الاجتماعي، بما في ذلك ما يمكن دعوته بنفسية القطيع المتمدن! لكنها ظاهرة معقدة ومتناقضة ومن ثم تاريخية وطبيعية بالنسبة للتقدم والتطور الحديث. وبالتالي فإنها كانت ومازالت تحتوي على مختلف الإمكانيات والاحتمالات.

ويمكننا العثور على نفس الظاهرة في "العالم المتخلف". ولكن باختلاف جوهري يقوم في تراكمها الفعال والشديد والعنيف والسريع بسبب البنية التقليدية للقيم وضعف النخب بشكل عام والثقافية بشكل خاص. فالجماهيرية ليست رذيلة بحد ذاتها، لكنها تتحول إلى رذيلة سياسية خطرة وهمجية حالما تقع في شباك الأحزاب الراديكالية ذات الأيديولوجيات الكبرى. هنا تصبح الجماهير بمختلف ألقابها من عمال وكادحين صعاليك بلا أصول! وليس مصادفة فيما يبدو أن يجري ترجمة شعار "يا عمال العالم اتحدوا" (البيان الشيوعي) في أول الأمر بعبارة "يا صعاليك العالم اتحدوا"! وأن يتحول هذا الكراس البائس إلى "إنجيل" الجماهير الجديدة، شأن عبيد الماضي المصابين بمختلف الأمراض العقلية والنفسية والعاهات الجسدية في اعتناقهم لفكرة الخلاص الخرافية! وفيما لو جرى نقل هذا الشعار إلى مستوى الرؤية العادية، بمعنى استظهاره الفعلي ضمن سياق التربية العادية للجماهير فإنه كان يعادل من حيث محتواه الأيديولوجي الصرف شعار "يا نصارى أو مسلمو العالم اتحدوا بحبل الله ولا تفرقوا". وهو شعار جميل المظهر قبيح المضمون. بسبب ما فيه من إمكانية للزيف والطوباوية القاتلة للرؤية النقدية والأخلاقية العقلية. كما أن خطورته تقوم في تحوله إلى ثغرة الأقليات غير المندمجة. وقد يكون هذا هو الاختلاف الوحيد بينهما. ففي الأيديولوجيات الراديكالية عادة ما يحتوي الشعار السياسي على مظهر اجتماعي أو اقتصادي صارخ. أما في الأديان فأن الأتباع يشتركون جميعا بأوهام القيامة والثواب والعقاب.

إن فكرة الجماهير طوباوية خالصة. تقليدية. بدائية. إنها تثير وتصنع نفسية القطيع مع ما فيها من احتقار للفردية والحرية. من هنا دناءة وخسة النفس الغضبية للأفراد والأحزاب الراديكالية الجماهيرية. إذ عادة ما تلازم وتميز قياداتها (وبالتالي جماهيرها) صفات الحذلقة والاستعداد للخيانة والإسراع في اقتراف الرذيلة باسم "القيم والمبادئ الكبرى". أما الجماهير فإنها مجرد غطاء دعائي وضروري في الوقت نفسه لهذه النفس الغضبية أو الروح الخائب. فقيادة الأحزاب الراديكالية فارغة نصف متعلمة. من هنا تلذذ الجماهير بالعبارات الجوفاء ونفسية التلقين. وهي الحالة التي تجعل من الجماهير قوة هلامية لزجة يمكن رميها في كل مكان من اجل اكتساب طبقات كثيفة جديدة مهمتها سحق الخصوم وبلوغ المرام (السلطة والجاه والثروة). وتاريخ العراق الحديث، وبالأخص بعد سيادة الراديكالية السياسية للأحزاب (البعث خصوصا) يكشف بصورة "كلاسيكية" عن هذه الحالة.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم