قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (24)

ميثم الجنابيالمحور السادس: الشخصية التوتاليتارية وظاهرة القادة والجماهير (2)

• كيف استطاعت الظاهرة الصدامية (البعثية) أن تفكك طبقات المجتمع العراقي وتحولها إلى حشود جماهيرية قابلة للتشكل بأشكال مختلفة؟

إن إحدى المقدمات التاريخية لنشوء الجماهيرية في العراق الحديث تلازمت مع ظاهرة الانتقال الكبير والعشوائي من الريف إلى المدينة. فقد كانت تجري في بداية الأمر، أي في العهد الملكي بوصفها جزء ومظهرا من مظاهر صيرورة تاريخية اجتماعية اقتصادية. لكنها تحولت مع صعود الراديكالية السياسية إلى جزء من صيرورة سياسية اجتماعية جديدة. بمعنى إنها أصبحت جزء من هوس التسييس المفتعل والأيديولوجية الضاغطة على العقل والضمير الاجتماعي للأفراد والأحزاب والجماعات والدولة. ومن ثم لم يكن بإمكانها المرور بمصفاة التنقية الاجتماعية الاقتصادية القاسية والضرورية في الوقت نفسه. على العكس إنها أصبحت فوق متطلبات الاقتصاد والحاجات الاجتماعية وإمكانيات الدولة. وليس مصادفة أن يكون هذا الاندفاع أشبه من حيث أثره وتأثيره بسيول مدمرة رغم مظهرها المنعش بالنسبة للنفس المتعطشة في صحراء البؤس وأحلامه الزائغة في سراب الأماني. بينما كانت هذه كلها الرحيق اللذيذ بالنسبة للسان الأيديولوجية المتعطش لكل ما هو قادر على إثارة لعابه!

فقد أصبح الاندفاع الجماهيري والشعبي الكبير صوب المدن وتحويلها إلى أرياف كبيرة، كما أصبح كسب الجماهير للعمل في "سلك الدولة" الصيغة الفجة لتجسيد و"تحقيق" الأفكار والشعارات المعلنة للراديكاليات السياسية الشعبوية. ولم تعد الجماهير هنا وتراكمها العشوائي في المدن جزء من فوضى التمدن الحديث، بقدر ما أصبح جزء من فوضى الفكرة السياسية. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن مركزية السلطة وطابعها السحري في الفكر السياسي كما لو أنها الفانوس السحري الجديد للراديكاليات السياسية الشعبوية.

ومن بين أهم واعقد المخاطر الكامنة التي شوهت تاريخ العراق الحديث هو تحول الأطراف إلى مركز، والهامشية إلى نخبة، والحثالة إلى "طليعة" المجتمع! أي كل تلك العلمية التي صنعت وهم "الطليعة" الاجتماعية والسياسية من خلال مطابقتها مع الحزب السياسي. وهي مطابقة فجة وسخيفة. إذ ليست هناك مؤشرات قادرة للبرهنة على أن الأحزاب السياسية في العراق لا تتسم بالتخلف العلمي والمعنوي والأخلاقي. دع عنك فكرة "الطليعة" الحزبية بحد ذاتها. لكنها تصبح معقولة من جانب النفسية والذهنية الراديكالية المبنية على المصادرة. فالراديكالية عادة ما تصادر كل شيء بما في ذلك حق إعلان نفسها "طليعة" للمجتمع و"قائدة" "تاريخية" و"أبدية" وما شابه ذلك من عبارات تكشف أولا وقبل كل شيء عن انفصام الشخصية وولعها بالترهات. لكنها تصبح معقولة من حيث الوسيلة والغاية التي ترمي إليها. والمقصود بذلك تحويل النفس إلى قوة قائدة والآخرين إلى قوة تابعة، أي تجسيد معادلة الزعيم والجماهير، أو القائد والرعاع. أما الجماهير والرعاع فهي مجرد كيان هلامي، بلا حدود داخلية. إنه أشبه بالشمع الرخيص. يمكنه الذوبان السريع والتشكل بأي شكل محتمل. غير أن مضمونه يبقى كما هو. والفرق في الفتيل. لكنه أيضا لا يتغير من حيث الوظيفة والاستعداد.

إن هذه الحالة التي جرى حشر الجماهير فيها، جعل منها مجرد مادة قابلة للاستعمال والتجريب. ومن ثم افقدها دورها السياسي والاجتماعي المستقل، أي تحويلها إلى قوة خاملة بمعايير العقل الاجتماعي، وفعالة بمعايير العبودية، طائعة ومطواعة فقط من حيث الاستعداد والفعل. ولم يكن ذلك معزولا عن تدمير المجتمع المدني ومؤسساته.

لقد أدت الممارسة السياسية الراديكالية "الثورية" إلى تدمير المجتمع والمدني وفكرة التمايز والاحتراف والطبقة الوسطى التي كانت وما تزال المصدر الاكبر لديناميكية المجتمع والدولة. وبهذا تكون قد جففت منابع الحرية والحركة التلقائية للمجتمع. وربطت كل ما هو متساقط في مجرى هذه العملية بقيود السلطة وأسلاكها. وبالتالي جرى تفكيك وتمييع وتذويب الفئات والطبقات الاجتماعية في كتلة هلامية هي "الجماهير العربية" و"الجماهير الثورية" و"الجماهير الكادحة" و"الجماهير المناضلة" وما شابه ذلك من صيغ أيديولوجية.

بعبارة أخرى، لم تبق السلطة الصدامية من المجتمع إلا على "جماهير" متنوعة الأشكال. وجميعها تهدف إلى تجسيد المهمة الكبرى لها ألا وهي جعل الجماهير أداة خاضعة لإرادتها. لقد أرادت مصادرة الجمهور شأن مصادرتها للثروة من اجل إرساء أسس السلطة الممركزة والدكتاتورية الفردية (العائلية القبلية). وهنا كانت تكمن البذرة الخاصة للتوتاليتارية البعثية في العراق. إذ لا وجود للدولة بالمعنى الدقيق للكلمة. بل للسلطة فقط. وهي بنية تقليدية لا علاقة لها بفكرة الدولة والمجتمع والأمة. أما الأيديولوجية فإنها مجرد طقوس وعبادات مهمتها تأليه القائد وتمجيد حشمه وخدمه وسدنته (العائلة والقبيلة). حينذاك أصبح ربط الجميع بالسلطة أسلوبا للتحكم التام بظاهر وباطن المجتمع والفرد والجماعة، عبر تحويلهم إلى قطيع يتحرك بإرادة القائد مع الإبقاء على كل فرد مادة منعزلة لحالها.

لقد سعت الصدامية إلى القضاء المبرم على الفرد والفردية والمجتمع المدني وتحويلهم إلى توابع لأجهزة القمع أو مسامير في توابيت الحزب ومنظماته "الجماهيرية". من هنا التجييش الشامل وعسكرة الوجود والوعي، أي تحويل الجميع إلى جنود وإعدام صفة البشرية والمواطن. وبالتالي تحويل المجتمع إلى خليات مفككة أو أفراد منعزلين عبر إدراجهم في تشكيلات وترتيبات خاضعة للرقابة الظاهرية والباطنية من جانب مختلف أجهزة السلطة القمعية. وذلك لأن الهمّ الجوهري للسلطة هو السلطة فقط! لهذا كان صدام مستعدا للتنازل عن كل شيء باستثناء السلطة. وهي قضية لها أيضا بعدها الوجودي. فقد كان يدرك بأن عزله عن السلطة يعادل الموت بالمعنى المادي والمعنوي. وهو ما حدث. كما أنها النتيجة المترتبة على أية قوة تصل إلى السلطة بعده ما لم يجر التحرر الكامل من هذه التقاليد البشعة للقتل والتمويت عبر إنشاء وإرساء أسس الدولة الشرعية والمجتمع المدني وتداول السلطة السلمي عبر نظام واقعي للحرية والنظام يأخذ بنظر الاعتبار تجربة العراق الحديث بكافة نواحيها ومستوياتها.

لقد صنعت الصدامية مكوك القتل الدائم. بحيث جعلت من دماء المعارضة طاقتها. أما المعارضة بالنسبة لها فهو كل ما هو مستعد للوجود والحركة! والنتيجة هي تفريغ المجتمع من الداخل. بحيث يمكننا القول، بأن تفريغ الإنسان كان الأسلوب الصدامي في صنع "جماهير" فارغة ومستعدة للحركة فقط. وهي الصورة التي كان يمكن رؤية ملامحها الكريهة في تلك الحالة التي خرج بها صدام بوجهه الشاحب والممتقع والخائف إلى احد شوارع بغداد لكي يوحي "بالصمود والتحدي" و"الاقتراب من الجماهير" و"الوجود بينهم" بينما كانت هي مجرد مغامرة صغيرة وليست بذي معنى لأنها كانت مقدمة الهروب والاختفاء الجبان. غير أن الوجه الآخر لها يقوم في الكيفية التي اندفعت فيها "الجماهير" نحوه واخذ التحية العسكرية (مع أن الشخص كان مدنيا، وبأحذية أو نعال عتيق!). وهي صورة نموذجية تكشف عن أن "الجماهير" هي مجرد قشاشات صغيرة أو نشارة حديدية متناثرة على أرصفة الطرق الخربة التصقت بمغناطيس السلطة المسلط على أجسادهم وأرواحهم زمنا طويلا بحيث أفرغهم من الداخل وحولهم إلى كيانات هلامية لا معنى ولا قيمة لها ولا وزن ولا وظيفة غير الاستعداد التام، بفعل آلية الخوف والإرهاب الشامل، على الاندفاع شأن الشاة وراء الذئب. وقد يكون من الضروري أن تؤخذ حقيقة هذه الصورة للمقارنة الظاهرية فقط. فالذئب حيوان نبيل وجميل وذكي ومخلص. ولا معنى لمقارنته بصدام بوصفه إحدى أرذل النكرات في تاريخ العراق منذ أن ظهر على سطح البسيطة!

• لم يخضع موضوع الجماهير لنقاش علمي داخل الحقل الثقافي العراقي. فالظاهر على محيا الجماهير العراقية ملامح الخمول والضعف المعرفي، وتدني الوعي السياسي. حيث نرى ظهور الموجات الجماهيرية الهائجة ثم انكسارها اللاحق، ألا يكمن في ذلك احد عوامل إنتاج الظاهرة الصدامية؟

إن السبب الموضوعي القائم وراء عدم تحول قضية الجماهير إلى موضوع للدراسة العلمية النقدية في الوسط الثقافي والسياسي العراقي يقوم في أن العراق والحالة العراقية الحالية لم يتجاوزا ولم يذللا بعد تقاليد "الجماهيرية". فالتجربة العراقية الحالية لم تتجاوز حالة "الجماهير" وسيادة الوعي العادي والتقليدي. بل أضيفت إليه صيغ وأساليب اشد تخلفا كالطائفية والعرقية والمذهبية وغيرها. ذلك يعني أن التقاليد الراديكالية الكثيفة والخربة التي أرست طبقاتها في الوعي الاجتماعي السياسي الأحزاب الشيوعية والبعثية قد جرى صهرها مع تقاليد جديدة لا تقل خرابا مثل الطائفية والعرقية والمذهبية وغيرها.

إن تحول الجماهير إلى موضوع للتحليل والدراسة والنقد يفترض تجاوزها على مستوى البنية الاجتماعية، أي تذليل أساس البنية التقليدية ونظامها السياسي القائم على تقاليد الاستبداد وانعدام فكرة الحقوق المدنية وغياب أو ضعف أو تشوه الثقافة العامة والخاصة. وليس مصادفة أن تتحول الثقافة العراقية وتراثها التاريخي العريق في المرحلة الصدامية إلى ثقافة تقليدية ركيكة ومسطحة وأيديولوجية. إذ لا توجد في العراق الحالي ثقافة حقيقية، أي ثقافة حرة ومبدعة وفاعلة بمعايير الحق والحقيقة والهموم الاجتماعية والوطنية والقومية الكبرى. إن السائد فيها هو ثقافة فجة ومسطحة كما هو جلي في سيادة وفاعلية البنية التقليدية، ونظام المحاصصة والطائفية والجهوية. وهو وجه "موسع" لنمط الحكم الصدامي. بمعنى أنه غير مبني على أسس الاجتماع المدني وفكرة المواطنة وحقوق الإنسان. وهنا تكمن أيضا بعض مصادر سيادة وانتشار الأيديولوجيات الطائفية والدينية المتخلفة والعرقية والقومية الضيقة والمذهبية وغيرها من أصناف العقائد الميتة.

إن هذه الحالة ليست معزولة عن ظهور وسيادة فكرة الجماهير التي جرى الحديث عنها سابقا. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن ظهورها واستفحالها في العراق كان نتاجا مباشر لفعل وهوس الأيديولوجية "الثورية" و"اليسارية"، أي لتقاليد الراديكالية السياسية. فالجماهير و"الجماهيرية" موجودة على الدوام، بما في ذلك في الدول الراقية التطور بمعايير البنية الاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية.

أما في العراق فقد جرى تصنيع فكرة الجماهير والجماهيرية من حيث كونها فكرة ونموذج، من جانب الأحزاب الراديكالية التي جعلت منها مادة وأسلوبا وأداة أساسية في الصراع. الأمر الذي جعل من فكرة الجماهير ونموذجها وفعلها جزء من سيادة تقاليد الحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية. بحيث تحولت فكرة الجماهير والجماهير إلى صنم معبود عند سدنة السلطة الجدد (الأحزاب). وفي هذا كان يكمن مصدر خمول الجمهور وإخمادها التام. بمعنى خمول العقل بشكل عام والنقدي بشكل خاص. غير أن ذلك لا يفقد الجماهير فاعليتها وحماسها الهائل. حيث تصبح هذه المظاهر إحدى الوسائل الفعالة في إعادة إنتاج الخمول الذهني والعقلي وقتل الضمير الاجتماعي والوطني والقومي والإنساني. وفي مجرى هذه العملية، فإن الجماهير لا تعاني بل تنتج هذا الخمول (العقلي والوجداني) من خلال الاستعاضة عنه بغريزة الجسد الخالص والمغلفة بشعارات سياسية أيديولوجية.

إذ ليست صنمية الجماهير سوى الوجه الآخر والمقلوب لصنمية الحزب والقادة والعقائد. وهذه كلها مستويات في قتل العقل والضمير. إنها الوجه الظاهر لباطن الأيديولوجية الحزبية وأدواتها. تقييد كل فعل وقول ونية وغاية بإرادة الحزب. إذ توصلت الشيوعية إلى أن الحزب هو عقل وضمير الطبقة (الطليعة)! ثم المجتمع والدولة والأمة والأمم والعالم والماضي والحاضر والمستقبل. بينما رفع حزب البعث في العراق فكرة تمثله لعقل الأمة وضميرها ولسانها إلى مصاف المطلق والمقدس. وجعل من تصورته المحدودة وأحكامه وقيمه الأيديولوجية الصرف "رسالة أبدية". أما النتيجة فهي صنع مستنقع الجماهير. وذلك لأن حشر الجماهير وتحريكها حسب إرادة القادة والحزب يجعل منها دمى متحركة، أي قراقوش مفرّغ من قيمة اللعبة والفكرة واللهو. وذلك لأن الأحزاب ترغب بقراقوش جدي! وفيما لو نقلنا هذه المقارنة إلى ميدان الحياة الاجتماعية الواقعية فإن نتيجتها الفعلية كانت تقوم في إحباط وقتل كل القوى والطاقات الحية في المجتمع. فالجماهير تصبح (في حال انتزاعها من نمط وجودها التاريخي الطبيعي) طحالب سرعان ما تتفسخ في مستنقعات المغامرة، أو تحترق في أتون المقامرة المميزة للأحزاب الراديكالية العقائدية.

لقد أدت هذه الحالة في العراق، على خليفة صعود الصدامية وانتصار الحثالة والهامشية، إلى هزيمة ساحقة للقوى المدنية. مع ما ترتب عليه من اندثار لثنائية النخبة والعوام، أو على الأقل اندثار فكرة وأسلوب ومعنى النخبة في مختلف الميادين. لقد أرادت الصدامية جماهير فقط، أي قطيع فقط. أما النتيجة فهي غياب النخبة والأحزاب السياسية الاجتماعية والجمهور. وفي ظل واقع من هذا القبيل يصبح من الصعب تحول هذه القضية إلى موضوع للبحث والنقد. فالقادة الجدد من حيث الجوهر هم عوام و"جماهير"، بمعنى أنهم لا يفهمون ولا يتحسسون معنى وقيمة النخبة. وذلك لأن النخبة منظومة اجتماعية ثقافية تاريخية. ولا يمكنها أن تكون نتاج الفعل السياسي للأحزاب أيا كان شكلها وحجمها وإدراكها. والعكس هو الصحيح. بمعنى أن وجود منظومة اجتماعية ثقافية للنخبة هو مصدر نشوء الأحزاب الاجتماعية. الأمر الذي يجعل من الضروري البدء في تحليل ونقد الأحزاب السياسية العراقية الحالية قبل تشريح ونقد ظاهرة الجماهيرية. لاسيما وأنها المهمة التي في حال تنفيذها السليم يمكنها أيضا مساعدة الأحزاب نفسها على الخروج من نفسية وذهنية العوام. لكنها تبقى كما أشرت إليه أعلاه جزء من مهمة تاريخية مستقبلية كبرى مرتبطة بكيفية بناء منظومة اجتماعية ثقافية عراقية عربية.

إن إشكالية الجماهير والنخبة هي إشكالية كبرى ضمن سياق القضية التي أتناولها هنا. من هنا ديمومة صعود وهبوط الحماس الجماهيري، أي الفعل بأعصاب متوترة أو ارتخاء تام. وهذه أمور لا علاقة لها بالعقل الاجتماعي والثقافي للأمم. وذلك لأن صعود حماس الجماهير وهبوطها، أو ظهور وخمول الجماهير وجهان لظاهرة واحدة هو قصمها لوحدة الوجود الاجتماعي والتاريخي للدولة والمجتمع. إنه تعبير عن مرض بنبوي داخلي ليس عنف الجسد وخمول العقل سوى احد مظاهره البارزة. وفي هذا المرض يكمن مرتع جراثيم التوتاليتارية.

• هل الظاهرة الصدامية هي التي أنتجت التوتاليتارية أم الأيديولوجية التوتاليتارية البعثية أنتجت الصدامية؟

التوتاليتارية البعثية والصدامية صنوان في العراق. كما أنهما مترابطان من الناحية الزمنية والسياسية والأيديولوجية. والأهم من ذلك أنهما يتمثلان بنية واحدة أو انساق موحدة. مع أنهما لا يتطابقان. والأولوية في "الإنتاج" بهذا الصدد تعود للصدامية. بمعنى أن التوتاليتارية البعثية في العراق كانت نتيجة متراكمة في كيفية صعود واستئثار الصدامية بالسلطة والدولة والمجتمع. بعبارة أخرى، إن استحكام القبضة الدكتاتورية الصدامية، بوصفها سلطة الحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية والفئوية والجهوية والقبلية العائلية والطائفية المبطنة هي التي تكمن وراء نموذجها التوتاليتاري. فقد كانت التوتاليتارية البعثية في العراق الصيغة المناسبة لحجم ونوعية الدكتاتورية الصدامية. وبما أن الصدامية احد نماذج البعثية من هنا تحديد احدهما للآخر وترابطهما العضوي.

فالصدامية كما أشرت قبل قليل هي أحد مظاهر البعثية، أو أنها بعثية عراقية في أوج انتصارها، أي على حقيقتها. من هنا لم يكن الترابط بينهما وليد الصدفة. فالصدامية بوصفها توتاليتارية كانت تكمن في وحدة أو "منظومة" الفكرة الحزبية، والعصمة الأيديولوجية، والإرادة الثورية، والاستعداد الفعلي لقبول هذه المكونات على أنها حقائق مطلقة. كما أن الصدامية بوصفها دكتاتورية كانت نتاج غياب المجتمع المدني والثقافة الحقوقية السياسية. وبالتالي استندت بفعل مكوناتها الذاتية إلى بنية اجتماعية تناسبها هي "منظومة" الاستبداد العائلي والقبلي، والثقافة الأصولية – التوتاليتارية بمختلف أشكالها الدنيوية الدينية. وهنا كانت تكمن مقدمات الاثنين (البعثية والتوتاليتارية) بوصفهما أمراض استفحلت في ظل الأزمة البنيوية الشامل للدولة والمجتمع والثقافة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم