قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (25)

ميثم الجنابيالمحور السادس: الشخصية التوتاليتارية وظاهرة القادة والجماهير (3)

• يرتبط ظهور التوتاليتارية بسيطرة النزعات الجبرية بوصفها منظومة ثقافية اجتماعية تشرعن الخمول والقبول التام بالعبودية. كما تؤدي بدورها إلى عزل الإنسان بوصفه فردا عن وجوده الخاص وعن الآخرين أو جعله كائنا (مخلوعا) أمام "القادر". هل يمكن اعتبار هذه المنظومة إحدى حواضن الصدامية؟

في البداية أود تدقيق المفاهيم. فالسائد في الكتابة العربية الحديثة هو قلب بعض المفاهيم، مع أن مضمون الكلمة جليا في مظهرها. فالجبرية من الجبر والإجبار، والقدرية من القدرة والاقتدار. وهي المصطلحات التي كانت سائدة في الفكر العربي الإسلامي للتفريق بين اتجاهين القدرية (المعتزلة) والجبرية بمختلف تياراتها. ومفارقة الظاهرة تقوم في أن الجبرية ليست مصدر الشر، كما أن القدرية ليست مصدر الخير. مما يجعل من الضرورة إدراك النسبة المعقولة بين مضمون التيار العام (الجبرية أو القدرية) وبين صيغ تمظهره أو تأثيره على بلورة قيم الخير والشر. وهي نسبة مرتبطة أساسا بالتاريخ والقوى الاجتماعية والنزوع الفردي.

فالجبري المتسامي أفضل من القدري المتهور. والقدري المتنور بالنزعة الإنسانية وفكرة الحرية والقانون أفضل من الجبري المتسامي. أما التوتاليتارية، فإنها خارج نطاق الاثنين. والسبب يكمن في أن التوتاليتارية مسخ يجمع في ذاته نسب متقلبة وانتقائية ونفعية ضيقة من تقاليد الجبرية والقدرية. فهي تريد جموع متحركة غاضبة مستعدة للفعل. ولكن من خلال غسل الأدمغة المحكومة مسبقا بالعنف والإكراه. إنها تتمسك بالقدرية من حيث كونها إرادة منفلتة من كل قيود باستثناء ما تريد. لكنها تعمل وتفعل ضمن سياق انساق أيديولوجية مهمتها تأليه الحزب والقادة، أي صناعة أصنام و"كتب مقدسة" لها أناشيدها وتراتيلها وتجويدها! وفي هذا تكمن أيضا تقاليد ما يمكن دعوته بالجبرية المبطنة للقادة والأيديولوجية.

إن التوتاليتارية تريد استحكام السيطرة الشاملة على الروح والجسد من اجل إحكام سطوتها التامة. وفي هذه المقدمة تكمن آلية فعل القائد القادر. وهذه بدورها ليست معزولة عن تقاليد الجبرية اللاهوتية وتأويلاتها المتنوعة لما يسمى بأسماء الله الحسنى، إضافة إلى فعل التقاليد القبلية المتحللة، ونمط الأحزاب السياسية (غير الاجتماعية). وهذه كلها مقدمات شرسة في تفعيل آلية نزع فردية الإنسان وإنسانيته وتحويله إلى كيان متسيب له "قيمته" ضمن حشود وجماهير مؤيدة وخاضعة فقط لإرادة الحزب والقادة. وضمن هذا السياق أثرت هذه التقاليد بصورة قوية على إرساء أسس المقدمات المادية والمعنوية للصدامية.

• يؤكد صدام حسين باستمرار أن دولة البعث في العراق تمتد إلى أعماق الحضارة العراقية. هل هناك من علاقة فعلية بين المخزون الأسطوري في الثقافة العراقية والظاهرة التوتاليتارية البعثية الصدامية؟

عادة ما تتطفل التقاليد الأيديولوجية الراديكالية وتعيش على المصادرة. فالراديكالية مصادرة مستمرة. إنها لا تنتج. من هنا محاولاتها توظيف كل ما يمكن توظيفه من اجل مصالحها. ومن هنا أيضا كثرة الشعارات الفارغة والمصادرة الفعلية للثروة والواقع والتراث. وبما أن الراديكالية الرثة بلا مستقبل، بمعنى فقدانها للرؤية المستقبلية من حيث كونه منظومة عقلانية معقدة، لهذا عادة ما يصبح الرجوع إلى الماضي أسلوبا للتعويض. لكنه تعويض من طراز خاص. بمعنى تفعيله ضمن انساق الرؤية الأيديولوجية. وبما أن الأيديولوجية البعثية قد حصلت في مجرى استتباب الدكتاتورية الصدامية على نمطها التوتاليتاري، من هنا أصبح توظيف التراث والماضي جزء من نفسية مصادرته السياسية. ومن ثم فهو موقف لا علاقة له بتمثل التراث.

إن تمثل التراث بطريقة عقلانية وإنسانية ونقدية عمل غاية في الأهمية بالنسبة للدولة والأمة ووعيهما التاريخي الذاتي. وهي نتيجة يمكن بلوغها حالما يجري تمثل التراث بمعايير الرؤية الثقافية وليس التطويع السياسي والأيديولوجي. في حين أن الأحزاب الراديكالية (من شيوعية وفاشية وبعثية وأمثالها)عادة ما تتعامل مع التاريخ بطريقة انتقائية. فالتاريخ بالنسبة لها صندوق أشياء قديمة. بعضها يمكن رميه وآخر يمكن إعادة ارتداءه من جديد "بعد نفض الغبار" العالق به! تماما كما أراد صدام على سبيل المثال إعادة بناء بابل الأثرية بأحجار جديدة!! وتشير هذه الحالة إلى نوعية الذهنية الساذجة والمتخلفة والشرسة في الوقت نفسه.إذ نعثر فيها على ملامح الرؤية التي تعتقد بأن التاريخ حجارة ومظاهر. وليس مصادفة أن يجري التعامل مع التاريخ الذاتي بوصفه كمية أحداث وشخصيات ويوميات يمكن التقاطها وتوظيفها كما هي. بمعنى تحويل أحداث التاريخ في انتصاراته وهزائمه ومعاناته ومآثره وغيرها إلى مجرد أشياء. وهو جهل بحقيقة التاريخ.

إن حقيقة التاريخ روح، أي عنصر مكوّن وجوهري في وعي الذات القومي والثقافي. والشيء نفسه ينطبق على الدولة من حيث كونها فكرة أو أنموذج ومثال أو واقع. فالدولة امتداد تاريخي. إنها جزء من التاريخ. وبالتالي يمكنها أن تمثل وتتمثل تاريخ الدولة. والعراق، كما هو معلوم، ذو تاريخ دولتي عريق. بل قد يكون الأعرق في تاريخ المدنية الإنسانية. إنه باني المدينة، وواضع أسس الكتابة، وفكرة الحقوق، ومبادئ التفكر الوجودي والمعنوي للبشر (الديني والأسطوري والأخلاقي)، أي المكونات الجوهرية للتاريخ الثقافي. والدولة هي ذروة هذا التاريخ. بينما لم يصنع البعث في العراق دولة. على العكس إنه هادم الدولة، وصانع سلطة البطش والقهر والإرهاب والعنف. باختصار إنه صانع "منظومة" الرذيلة السياسية. وهذه لا علاقة لها بتاريخ الدولة. إنها مجرد احد المظاهر العابرة لزمن السلطة.

وإذا كان بالإمكان الحديث عن دولة البعث وامتدادها العريق في العراق، فإنها تمثل إحدى موجات الغزو العابرة لمختف أصناف القوى الهمجية. إما العلاقة بين المخزون الأسطوري في الثقافة العراقية والظاهرة التوتاليتارية، فإنه من هوس السلطة الصدامية. فقد حاولت الصدامية تطويع شخصيات تاريخية (نبوخذ نصر- حمورابي) وأحداث كبرى (كالقادسية) وغيرها وشخصيات عربية إسلامية لامعة من اجل دمجها في شعارات سياسية وأنماط أيديولوجية لخدمة مطامح السلطة ومساعيها في مصادرة التاريخ الذاتي للأمة، أي مصادرة وعيها الذاتي. غير أنها مصادرة وهمية. إذ لا يمكن مصادرة التاريخ الفعلي وبالأخص حالما يرتقي إلى مصاف المرجعيات الروحية الكبرى، أي حالما يصبح روحا قوميا. وبالتالي فإن الإمكانية الوحيدة للسلطة التوتاليتارية هنا تقوم في إعادة كتابته وتزويره وتزييفه واستخدامه الجزئي والمشوه والانتقائي. لكنها إمكانية بلا مستقبل، أي مجرد اجترار فارغ للاماني والأوهام. وإذا كانت الصدامية قد استطاعت بفعل القوة والعنف والإكراه والمال توظيف تصوراتها وأحكامها عن الشخصيات والأحداث الكبرى للتاريخ العراقي القديم، فإنها لم تنتج في الوقع غير خرافة بعثية! من هنا انحلالها السريع واضمحلالها المريع أمام أول تحول بسيط في بنية السلطة!

• لماذا وكيف تشكلت العلاقة بين الجماهير العراقية والزعيم التوتاليتاري (صدام حسين)على أسس أسطورية لاعقلانية؟

إن فكرة الزعامة هي فكرة أسطورية – تقليدية تعكس تخلف العلاقات الاجتماعية. مع أن ذلك لا يقلل من أهميتها التاريخية، أو حتى كينونتها الخاصة، ولكن فقط في تلك الحالات التي تؤدي وظيفة تاريخية سياسية وروحية كبرى. فقد كان ظهور فكرة الزعيم ونموها التاريخي يعكس من حيث الجوهر كمية الغريزة الفاعلة في الوجود الاجتماعي للبشر. أما في العالم الحديث والمعاصر، فإن قوة الزعيم على قدر قوة الحثالة والرثة. كما إنها الوجه الآخر لبقايا ومستوى فاعلية الغريزة والعبودية (المادية والمعنوية) أو ضعف التطور الاجتماعي في فكرة الحرية. وليس مصادفة أن ترتقي فكرة الزعامة إلى مصاف "المقدس" في الأيديولوجيات التوتاليتارية والحركات الراديكالية. وفي حال دراسة تاريخ وسيرة مختلف الزعماء المعاصرين، وبالأخص ضمن أنماطها التوتاليتارية، فإننا نعثر فيها على مختلف مظاهر الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والأمة والثقافة وعلى قدر يناسبه من ازمة البنية الروحية للزعيم. ومن تلاقي هاتين الأزمتين ونوعيتهما تتبلور نوعية العلاقة بين الجماهير والقادة.

ففيما لو نظرنا على سبيل المثال إلى طبيعة العلاقة بين الجماهير والقادة (التوتاليتارية) كما هو الحال على نموذج ستالين وهتلر وموسوليني، فإننا نعثر فيها على نتاج أزمة تاريخية ثقافية دولتية كبرى، بوصفها جزء من تاريخ دولة إمبراطورية أو قوية، لها أسسها المادية والمعنوية. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته على مثال وواقع روسيا بعد الانقلاب البلشفي عام 1917 (ثورة أكتوبر) وألمانيا بعد صعود الهتلرية في ثلاثينيات القرن العشرين. فقد كانت روسيا قوية وهائلة بأسسها المادية والمعنوية لكنها اصغر من حجمها الجغرافي السياسي. أما ألمانيا فعلى العكس. فقد كان إبداعها النظري والأدبي والعلمي غزيرا هائلا، بينما كانت تعاني من ضعف كينونتها الجغرافية السياسية. وهي معادلة لا ينبغي رفعها إلى مصاف الحكمة المنهجية بقدر ما ينبغي النظر إليها باعتبارها مؤشرا لما أود التأكيد عليه عن كيفية انعكاس العلاقة بين القادة والجماهير في ظل أزمات تاريخية دولتية ثقافي كبرى. وليس مصادفة أن تظهر شخصية الزعيم التوتاليتاري بوصفه المعوّض المادي والمعنوي عن هذا التناقض، أو على الأقل أن يسعى للتعويض عن هذا التناقض. ولكل حالة نموذجها الملموس من خلال محاولته طوي هذه الهوة عبر إدراج الجماهير فيها والعبور على ظهورها في حركة فلكية عنيفة تتجاوز "خلل الزمن" إلى وحدة التاريخ. هنا يصبح دور الأسطورة والأيديولوجية هائلا. والسبب بسيط هو أن الأيديولوجية إحدى اشد الأساطير قوة وفاعلية.

وحالما ننقل هذه الرؤية العامة إلى واقع العراق، فإننا نقف أمام تناقض كبير بهذا الصدد: تاريخ هائل وواقع مزري. وهي المقدمة القادرة على إثارة مختلف الذكريات الخرافية. لكنها غير قادرة على صناعة تاريخ واقعي قوي للدولة والأمة في حال استنادها إلى رؤية أيديولوجية صرف. ففي أيديولوجية البعث تنعدم أو تضعف فكرة الدولة والمجتمع. أما صدام فإنه خارج التاريخ العراقي. إنه نتاج زمن محلي وتقليدي. وإذا كان حزب البعث هو حزب المؤامرات والمغامرات، بمعنى أن وصوله إلى السلطة لا يشبه وصول أي حزب أو قائد توتاليتاري "كلاسيكي"، فإن صدام هو تجسيد نموذجي لتقاليد المؤامرة والمغامرة. مما جعل من الصدامية، بعد استتباب دكتاتوريتها، توتاليتارية عصابة. إذ تعاملت مع المجتمع على هذا الأساس.

فمن الناحية المجردة عادة ما يكسب القائد التوتاليتاري جمهوره من خلال إثارة المزاج الجماهيري (القطيعي). ولكل حالة تاريخها وتراثها الخاص. فقد تراكم المزاج الجماهيري (القطيعي) في تاريخ العراق الحديث بأثر حركات اجتماعية وسياسية عديدة بلغت ذروتها في خمسينيات القرن العشرين في الراديكالية الشيوعية. وقدمت الحركة الشيوعية وخدمت النزوع الدكتاتوري عند عبد الكريم قاسم بحيث تحول لقبه العسكري إلى لقب سياسي بأثر الانقلاب العنيف الذي أحدثه بعد القضاء على النظام الملكي عام 1958. بعبارة أخرى، لقد استحوذ عبد الكريم قاسم على المزاج الجماهيري (القطيعي) وصادره بقوة المثال الشخصي وخلل البنية النقدية والاجتماعية العراقية. ولم تكن هذه المصادرة معزولة عما فيه من جاذبية فردية وإنسانية واجتماعية ووطنية وعسكرية.

أما البعث فقد كان تنقصه هذه الصفات والمقدمات. وصدام، شأن كل "قيادات البعث" كان يفتقد إلى ابسط مظاهر الجاذبية. وليس مصادفة أن يتحول حزب البعث وقادته إلى مغامرين ومحترفين في ميدان المؤامرات والمقامرات. بحيث جعل منهم مجموعة لأفراد العصابة المغامرة. وهي الصفة الجوهرية الوحيدة التي لازمت "الزعيم التوتاليتاري" صدام حتى رمقه الأخير. فقد كان يقامر على "زعامته" حتى شنقه الرخيص. إذ كان يعول على الأمريكيين، بل كان يعتقد أنهم يمكنهم الاعتماد عليه من جديد في "ضبط" العراق من "خراب" الحرية! وهي حالة نموذجية تكشف عما فيه من "إخلاص" خالص للمغامرة والمؤامرة، وعما فيه من نفسية وذهنية تقليدية قبلية عائلية جهوية فئوية طائفية، أي كل المكونات المتخلفة للبنية الاجتماعية والأخلاقية والثقافية.

وإذا كان القائد التوتاليتاري عصابي بالضرورة، بما في ذلك في ملبسه كما نرى بساطته وانضباطه ونمطيته شبه الثابتة عند ستالين وهتلر وموسوليني وماو وكيم ايل سونغ وأمثالهم، فإن صدام كان يستبدل في اليوم ملابسه الغالية الثمن ما لا يقل أحيانا عن عشر مرات!! كما تكشف عنه بصورة غير واعية التقارير المصورة المنشورة بصورة شبه يومية على صفحات جريدة "الثورة" (ثورة!!؟؟). وفيها نعثر على ما يمكن دعوته بشخصية العبد المتسيد. ولم يكن ذلك معزولا عن طبيعة الأمراض الاجتماعية التي عادة ما تميز الحثالة الاجتماعية والبنية التقليدية في مجرى تحللها وفسادها. وأقلّ ما فيها انفصام الشخصية. غير أن صدام كان مصابا أيضا بمرض الانفصام السياسي. وهي من بين أخطر الصفات. بعبارة أخرى، إن صدام ليس قائدا سياسيا أو زعيما وطنيا بل رئيس عصابة توتاليتارية! والعصابة بحاجة إلى "أساطير" تتلهى بها، بوصفه الوجه الآخر للرعب والخوف المصنوع في أفئدة العوام. كما أنه الوجه الآخر لخواء الروح المعنوي والذاكرة وانعدام تاريخ الحكايات الكبرى. الأمر الذي يجعل من أساطيرها خرافات مثيرة للسخرية والاشمئزاز.

• هل يمكننا اعتبار نظام التربية الشعبوية والحرمان والهامشية مصادرا كبرى لإنتاج الدولة التوتاليتارية، التي تحمل في داخلها وسائط أيديولوجية أو دينية؟

من خصائص الشعبوية فقدانها للنظام. من هنا فإن المضمون الفعلي لنظام "التربية" الشعبوية هو إفساد التربية بالمعنى الدقيق للكلمة. والسبب يكمن أساسا في كون الشعبوية هي أحد عناصر الأيديولوجية التوتاليتارية، لكنهما لا يتطابقان. فالشعبوية نتاج تحلل أو ميوعة القوى الاجتماعية. إنها على قدر كمية ونوعية الحثالة الاجتماعية. كما إنها التعبير المناسب عن مستوى وفاعلية الحثالة الاجتماعية، أو على الأقل حثالة الوعي الاجتماعي (التقليدي). وفيما لو نظرنا إلى مختلف نماذج وأشكال ومستويات ومراحل الخطاب السياسي للبعث وصدام، فإن السمة الغالبة فيه هي الشعبوية. بعبارة أخرى، إنه خطاب شعبوي خالص. مع ما يترتب عليه من تصنيع فج لسقم المعرفة، وسطحية الأحكام، وفاعلية القيم الأيديولوجية، ونفسية العداء والكراهية، والخضوع والخنوع، والانتقام والتشفي، واحتقار قيم الحرية والإخلاص والحق والحقيقة. وهذه كلها تصنع أرضية خصبة لزرع نبتات التوتاليتارية. بمعنى إفراغ الفرد من ذاتيته الإنسانية، ومن ثم إمكانية تحويله إلى أداة طيعة، إلى شمع رخيص!

فقد ارتبطت في العراق الصدامي "التربية" الشعبوية أو بصورة أدق معاداة التربية بالقمع والإرهاب الشامل. والترابط بينهما ينبع من مضمونهما الفعلي. فالتوتاليتارية تصنع في البداية الخوف والهلع. ومنهما تصنع صروح الطاعة والعبودية. وعليها تبني "مجد البطولة" المزيفة للقادة. بمعنى استثمار الخوف والهلع من اجل تحويلهما إلى "حب القائد". لكنه حب مزيف ومقلوب، لأنه حب الخوف والهلع. إنه الوجه المقلوب والمشوه لحب الحياة (الغريزية)، أي كراهية الموت. ومحبة القائد هو الوجه الآخر لكراهيته لأنه "ملاك الموت". لقد كانت النسوة تقول "صورة عزرائيل ولا صورة صدام!". وهو تصوير دقيق يقترب من حيث مستواه الحسي والحدسي من مستوى الحقيقة المطلقة.

أما الحرمان الشامل فهو أسلوب تفريغ الشخصية الفردية من كينونتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. بمعنى حرمانه من الحقوق، والفردية والشخصية، من الفكر الحر والحرية، أي حرمانه من كل شيء باستثناء الإخلاص للحزب والقائد! وهذه كلها صفات جوهرية للهامشية. إنها بلا بؤرة ولا تراكم. وبالتالي لا تصنع شيئا غير تكرار واجترار الزمن، أي الزمن التقليدي، الذي لا يعني من حيث حقيقته سوى اجترار للوجود بلا وجد ولا مستقبل. وتعادل هذه الحالة ثبات الأموات في القبور! أما الوسائط الأيديولوجية والدينية التي تساهم في إعادة إنتاج التوتاليتارية فهي كل من الأجهزة الإعلامية للدولة (ولا إعلام آخر)، وتقنين الثقافة وإضعاف أهمية وقيمة الكتاب، والرقابة الشاملة، وجهاز أيديولوجي أمني قمعي، وأخيرا صنع كتلة من المثقفين المرتزقة، أي ألسنة بلا قلوب مهمتها الهرج في مهرجانات الذم والمديح!

 

ا. د. ميثم الجنابي

في المثقف اليوم