قضايا

التوتاليتارية والاستبداد في العراق (26)

ميثم الجنابيالمحور السادس: الشخصية التوتاليتارية وظاهرة القادة والجماهير (4)

• كتب الشاعر يوسف الصائغ عن صدام حسين قائلا: "إذا كان ثمة اله نؤمن به ونعبده، فلماذا لا يكون هناك نائب للإله على الأرض، كما كان في السابق يمثله ويصبح كأنه هو مفوض منه". كيف تقرأ هذا النص لمثقف عراقي خرج من جب الماركسية العراقية وأخذ يعيد إنتاج عبادة شخصية صدام حسين؟

صنفت العرب الشعراء إلى شاعر وشويعر وشعرور. والكلام الذي تورده لا يقوله من حيث الجوهر إلا شعرور. إذ لا يمكن لشاعر حقيقي أن يقول مثل هذا الكلام. فالشاعر الحقيقي هو مشاعر صادقة وإخلاص لها في المواقف. ولا أجد غرابة في أن يقوله شخص "خرج من جب الماركسية العراقية". فالماركسية العراقية هي أيضا تسطيح وعبودية. لهذا فإن قائل هذه العبارة لم تخرجه من جب الماركسية، بل أبقت عليه في لباس الشيوعية المتهرئ. والشيوعية والماركسية لا تصنعان في الواقع غير هوس متنوع الأشكال. إنهما يمسخان العقل وقدرته النقدية من خلال جعل مسلماتهما الأيديولوجية يقينا. وهي مسلمات لا يصمد اغلبها أمام النقد البسيط. أما بمعايير النقد الفلسفي فإنها تبدو مجرد ترهات. وليس مصادفة أن تكون "منهلا" للجهلة وأنصاف المتعلمين والمراهقين. من هنا شدة الثقة بالنفس ونفي الاحتمال والتنوع والاختلاف واحتقار الشكوك. لهذا حالما يرمي المرء غطاء الأيديولوجية الكثيف فإنه سرعان ما يكتشف خشونته الفاقدة للذوق. بمعنى ظهوره عاريا أمام النفس والحقيقة. وذلك لأنه سرعان ما يرى في الأيديولوجية غطاء عتيقا. ومن خلاله تتكشف أيضا عيوب حامله بطريقة مفزعة. والسبب يكمن في كون الأيديولوجية غطاء العقل السقيم والقبح التام. غير أن احتمالات الخروج منها أو عليها متنوعة. بمعنى إمكانية الانغماس في أيديولوجية الماضي وترهاتها من خلال سلخ النفس وجلدها بسياط العبودية أو الاستعاضة عن عبودية الأيديولوجية بأخرى أشنع منها. كما أن هناك احتمال الخروج عليها بمعايير النقد العقلي والإنساني.

والعبارة التي توردها تشير إلى خروج من النوع الأول، أي إلى انغماس أتعس وأرذل من سابقه. وفي هذه الحالة ينبغي فهم سرّ هذا الهراء. الأمر الذي يجعل من الضروري هنا إهمال كلمة "الشاعر"، لأنها فكرة بلا شعور ولا مشاعر غير نفسية العبودية. إن الشاعر الحقيقي حر بفعل غلبة الوجدان الصادق. وحالما يهبط الشاعر إلى مصاف العبودية، فإنه لا شعر فيما يقول ولا شعور غير غريزة ما تدعوه تقاليد الإسلام بشهوة الفرجين.

إن الشاعر الحقيقي هو الذي يتجرد ويتسامى عن الفرضيات الخائبة للآلهة. أما محاولة المطابقة بين دكتاتور سفيه وجاهل وبين نيابته لله، فإنها تعكس بقدر واحد مستوى الانحطاط والرذيلة في الحس والعقل والوجدان. أما من الناحية الفلسفية والتاريخية فقد كان هناك على الدوام بونا شاسعا بين الآلهة والسلطة. فمن الناحية المجردة (والمتسامية في الوقت نفسه) كان هناك على الدوام تفريق بين آلهة السلطة وسلطة الآلهة. والعبارة التي توردها تصب دون شك في فلك العبودية لآلهة السلطة. وسواء جرى هنا إطلاق كلمة الله أو الملاك أو الشيطان فإنها تشير في الواقع إلى شيء واحد من حيث المضمون والغاية والوظيفة ألا وهو "تأسيس العبودية" والعمل بمعاييرها.

فمن الناحية المجردة، لا تحتاج الآلهة إلى نواب ووسائط. وفكرة الواسطة والوساطة كانت وما تزال عرضة لنقد من جانب ممثلي الأديان نفسها. وكلما يرتقي الفكر الديني بمقولات ومفاهيم الفلسفة (بما في ذلك اللاهوتية) فإنه يقف بالضرورة أمام فكرة إلغاء الوسائط. فالفكرة الإسلامية عن علاقة الإنسان بالله تتعارض مع فكرة النائب الخائبة. فالقرآن على سبيل المثال يتكلم عن خلافة الإنسان لله وليس عن نائب عنه بهيئة دكتاتور مجرم سفاح نصف متعلم. بعبارة أخرى، إن الحديث يجري عن "إنسان"، أي عن نموذج ومثال للفكرة الإنسانية فيه بوصفه "إنسانا كاملا"، قطبا، إماما، خليفة رشيدا. وهي صيغ ثقافية تعكس سمو الفكرة الإسلامية في تقاليدها الثقافية التي ابتدعها تاريخ عميق من معاناة البحث عن صيغة مثلى لعلاقة الإنسان بالله. وحتى الصيغة اللاهوتية المتمثلة لفكرة العبودية لله من خلال استجماع أسماءه الحسنى في تنقية النفس واكتمالها، فإنها تشير أولا وقبل كل شيء إلى نسبة "العبودية" للمطلق، وليس "حق" التفويض لشخص ينيب عنه في مسخ وجود الأمة والفكر والإنسان.

لكننا نقف هنا أمام صورة نموذجية لانحطاط السلطة والدولة والمثقف والثقافة. إذ تعكس العبارة الواردة عن إمكانية القبول بأن يكون صدام نائبا لله مستوى التطويع السخيف والتافه لعبارة "نائب الرئيس" إلى نائب الله! بمعنى السعي لتأليه السلطة. وهي ظاهرة ليست غريبة أو جديدة، لكن الجديد والغريب فيها هو كيفية قبولها من "مثقف" "شاعر"، أي كيف يمكن لجاهل وعابر طريق ونكرة أن يتحول على لسان "شاعر" إلى ممثل ونائب لله؟ أي كيف يمكن لشاعر أن يحتقر الحرية والمجتمع والإنسان؟ والإجابة عليه ليست صعبة. ومضمونها يقوم في أنه لا حرية فيه. وبالتالي فإن أقوال العبيد في تمجيد العبودية لا قيمة لها، وذلك لأنها مجرد صدى باهتا للعبودية الجديدة التي صنعتها الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية في العراق. وهي ظاهرة مازالت أثارها عميقة في النفس الفردية والاجتماعية والسياسية العراقية. الأمر الذي يجعل من نقدها الدائم على مستوى المواقف الشخصية والإبداع الفني والأدبي مهمة كبرى من اجل تنقية النفس وتطهيرها من خبث الدكتاتورية والتوتاليتارية ورجسها!

• يقول صدام حسين:"العراق يحتاج الرمز أكثر مما تحتاجه موسكو، لأن حالة التكوين جديدة وحالة التخلف عميقة، ولأن في العراق طوائف وأديان مختلفة. إذن ينبغي أن يكون صدام حسين حصة لكل هؤلاء". كيف تفسر هذا النص؟ هل استطاع صدام حسين أن يكون نقطة تقاطع وسيطة بين هذا التنوع القومي الديني والطائفي؟

إن الخطاب الصدامي من ألفه إلى يائه هو تسفيه للعقل وتخريب للضمير الفردي والاجتماعي والوطني والقومي والإنساني. بمعنى أنه محكوم بفكرة ونفسية الدكتاتورية وتقاليدها الرثة. كما أنها تعكس الحالة المرضية لصدام نفسه. وفي اعتقادي أن اغلب كلماته وخطبه المشبعة بالأنا ينبغي تفسيرها بمقولات ومفاهيم علم النفس وليس العلم السياسي. أما الأبعاد السياسية فيها أو المحكومة بتقاليد الفكرة والممارسة السياسية، فإنها نتاج الاستحكام والسيطرة التامة على السلطة عبر المؤامرة والمغامرة الحزبية التي ميزت تاريخ العراق الحديث بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958.

والعبارة التي توردها هي أحد النماذج "الكلاسيكية" بهذا الصدد. إذ نقف أمام جهل فضيع بمعنى الرمز والمقارنة بين العراق وروسيا واستخفاف بالعقل فيما يتعلق بتشخيصه لنفسه. والقضية ليست فقط في أن المقارنة لا قيمة لها هنا، بل ولما فيها من جهل بالواقع والتاريخ. فالأديان والطوائف والأقوام والشعوب والقوميات والأمم في روسيا أكثر مما في العراق بعشرات المرات. وإن تاريخها مليء بالصراعات الداخلية والإقليمية والعالمية، كما أن دورها لا يمكن مقارنته بدور العراق في ميدان التاريخ العالمي الحديث، وبالتالي فإن الرمز والرموز بالنسبة لها أكثر أهمية من اجل التوحيد والفعل. كما إنها أبدعت وأنتجت واستعملت الرمز والرموز بطريقة لا يمكن مقارنتها بالعراق. لكنها على خلاف صدام إنها لم ترجع فكرة الرمز إلى شخص ما واحد. رغم كونها لا تخلو من هذا الجانب أيضا. بحيث تبدو شخصية صدام مقارنة بستالين كيانا تافها وصغيرا. وفيما لو رجعنا إلى صلب الموضوع، فإن التشخيص المشار إليه أعلاه يشير أولا وقبل كل شيء إلى طابع الانفصام الشخصي في سيرة صدام الفردية والاجتماعية والسياسية.

فالقول بأن العراق يحتاج إلى رمز أكثر من غيره، عبارة لا معنى لها. كما أن مطابقة الرمز مع النفس (صدام) هي الأخرى لا معنى لها غير كونها مؤشر على محاولة مصادرة كل شيء بما في ذلك معنى وقيمة الرمز بالنسبة للوحدة الاجتماعية والوطنية والقومية وغيرها من مظاهر الوجود والوعي. أما الأسباب الكامنة وراء هذا الهراء وهذه الهلوسة، فإنها تقوم في طبيعة الانكسار والانقطاع التاريخي الذي رافق صعود الراديكاليات السياسية المغامرة للحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية.

فالرمز متنوع الأشكال والمستويات والتأثير. إذ يمكننا الحديث عن رمز ثقافي، وروحي، وسياسي، وتاريخي، وغيره. أما الحاجة إليه أو إليها فإنها مرتبطة بقيمة الرمز وإمكانية استغلاله واستعماله بما يتطابق مع أثره الفعلي والممكن في تفعيل منظومة الوجود الاجتماعي والوعي. أما حالما يتحول الرمز إلى أداة لتفعيل قيم العبودية والدكتاتورية والمصادرة التامة للعقل والضمير الاجتماعي والوطني والقومي، وتفريغ الفرد من كل أبعاد خاصة بها، بحيث يتحول صدام إلى "حصة" للجميع فهو مؤشر على انفصام لا مثيل له في الشخصية. وذلك لأنه يجهل بصورة مطبقة كون قوة الرمز تكمن في واقعيته وكوامنه المستقبلية. بعبارة أخرى، إن الرمز قوة حالما يصبح جزء من وعي الذات التاريخي والثقافي وليس عنصرا في تصنيع الذاكرة الهشة. إذ ماذا يعني أن يكون دكتاتور نصف متعلم وتفاهة لا قيمة لها "حصة" لجميع العراقيين؟ وليس هناك من مقارنة واقعية بهذا الصدد سوى أن صدام أراد أن يكون "حصة تموينية" للعراقيين من خلال تحويلهم إلى بطون فارغة مهمتها التهام هذه "الحصة التموينية" المخزية من اجل إدامة واستتباب منظومة العبودية الظاهرية والباطنية. لقد أراد صدام أن يكون ملح العراق الذائب في دقيقه (طحينه)، لكنه لم يتخذ غير هيئة الملح الذائب في سواقيه القذرة! لقد تحول صدام فعلا إلى حصة متنوعة الأشكال والمستويات في كراهية وتقزز المجتمع من اسمه ورسمه وفصله وشكله ومحتواه. ولعل في خاتمته المادية والمعنوية إجابة شافية على ذلك. فخاتمة المرء حقيقته!

• يقول صدام حسين في إحدى كلماته "يستطيع القائد أن يصوغ شعبه كيفما يريد. يستطيع أن يجعله سلبيا أو ايجابيا". كيف نفهم هذه الفكرة والموقف بمعايير تحليل ونقد الإرادوية السياسية البعثية، التي تجعل من القائد شخصية قادرة على فعل ما تريد، أي إلى مصدر ومرجع وصانع كل شيء. ومن ثم هل يمكننا القول بان الارادوية السياسية هي احد العلامات الدالة على صناعة القائد المفصول عن تاريخ الأمة؟

تعكس هذه العبارة ما سبق وإن أشرت إليه من أن الخطاب الصدامي من أوله إلى آخره هو تسفيه للعقل والضمير. ففي هذه العبارة نعثر على نفسية وذهنية الصدامية التي تتعامل مع المجتمع والإنسان كما لو أنه مادة شمعية رخيصة. وهي نفسية وذهنية تقليدية وبدائية ومتخلفة. لكنها تحولت إلى فكرة سياسية ومرجعية أيديولوجية بسبب الانقطاع الراديكالي في تاريخ الدولة والمجتمع والثقافة. بحيث جعل من الممكن انتقال الأطراف والهامشية إلى مركز السلطة والدولة، كما أصبح من الممكن "قيادة" الدولة من قبل أنصاف المتعلمين والجهلة. وعموما يمكننا القول، بأن فكرة القيادة وانتشارها في العصر الحديث هو بحد ذاته دليل على ضعف بنيوي في الوجود الاجتماعي والفردي، المادي والمعنوي، وغياب منظومة سياسية وحقوقية وثقافية مستقلة في إدارة شئون الدولة.

فمن الناحية النظرية ليس مفهوم وفكرة القيادة فيما يخص الدولة والمجتمع سوى الصيغة الحزبية لبقايا وفعل الأيديولوجيات الراديكالية. وبالتالي فإنها تختزن إلى جانب نفسية وذهنية العقائد المتحجرة بقايا التقاليد البدائية. وهي بقايا البنية التقليدية. ولا ينفي ذلك أو يلغي قيمة "القائد" وأهميته بالمعنى التاريخي. كما أن هناك فرق كبير بين القائد التاريخي والمغامرين. فالقائد التاريخي يتمثل مرجعيات الثقافة القومية ومصالح الشعب الكبرى وتلقائية التاريخ الذاتي للدولة. وفي هذا يكمن الفرق بينه وبين "القائد" المغامر بوصفه نتاج الصدفة المرافقة للخلل التاريخي في مسار الدولة.

أما بالنسبة لصدام فقد كان مغامرا صغيرا ومقامرا كبيرا. وكلاهما من صنف واحد. من هنا إمكانية ظهور أوهام إمكانية "صياغة الشعب" كما يريد "القائد". بمعنى النظر إلى الفرد والمجتمع باعتبارهم مادة شمعية أو طينية يمكن التعامل معها كما يريد. غير أن هذه الفكرة والعلاقة تعكس أساسا طبيعة الموقف الأيديولوجي ومرجعياته النظرية والعملية. فالدكتاتورية تحكم وتسيطر ظاهريا، أما التوتاليتارية فإنها تتوجه أيضا صوب الباطن. بمعنى محاولتها بسط سيطرتها وحكمها على ظاهر الفرد والمجتمع وبواطنهم، أي على أرواحهم وأجسادهم. وليس ذلك معزولا عن العناصر الأساسية في الفكرة التوتاليتارية، وبالأخص عنصر العندية والإرادة المطلقة وضمور العقلانية. إذ لا تعني فكرة قدرة القائد على صياغة شعبه كما يريد سوى الوجه الفعلي لتفريغ الفرد والمجتمع من كل مقوماته الخاصة، أي صنع تجمع مستعبد قابل للتدجين. وهذا شيء لا علاقة له بالشعب والقومية والأمة، بقدر ما يعكس طبيعة وحجم الانفصام والانحطاط الروحي والأخلاقي والذهني لقائله.

• إن القاسم المشترك بين ثالوث العسكرتارية والعشائرية والجماهيرية يقوم في صناعة الزعيم التوتاليتاري. هل خرج صدام حسين من هذا الثالوث؟

إن هذا الثالوث لا يصنع زعيما توتاليتاريا، بقدر ما يقدر على صنع دكتاتورية شرسة و"قائد" يناسبها. وقد ترافقت هذه الحالة في العراق مع صعود صدام للسلطة وتثبيت سطوته الفردية. وبالتالي لا معنى لاستعمال كلمة القائد والزعيم على صدام. انه لم يكن كذلك. إن القادة والزعماء عادة ما ترتبط بالشخصيات المؤثرة في تاريخ صعود الأمم. أو على الأقل أنهم يتميزون بكاريزما تاريخية ومعنوية في زمنها. وعادة ما تستثمر تاريخها الشخصي أو تاريخ الحركة الفعلية التي تنتمي إليها. وكلاهما لا وجود له بالنسبة للبعث في العراق.

فقد كان صدام أنموذجا لمغامرة الحثالة الاجتماعية. من هنا استعمالي لكلمة دكتاتور ومستبد ومغامر. ولهذا السبب أيضا استعمل عبارة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فالتوتاليتارية بالمعنى الدقيق للكلمة هي حصيلة تطور اجتماعي كبير لكنه متأزم. ولا اثر فيها للبنية التقليدية لما قبل الدولة الحديثة. أما العشائرية فإنها بنية تقليدية. من هنا أثرها الهائل بالنسبة لتثبيت بنية الدكتاتورية. فقد كان صدام نتاجا تاما وخالصا للبنية العائلية والقبلية والجهوية والفئوية الضيقة. من هنا تلازم اغلب معالم الانحطاط والهامشية في شخصيته.

أما العسكرتارية فهي أيضا بنية قبلية في عراق الصدامية. إنها اقرب إلى عصابة مرتزقة. ومن ثم لا ترتقي عن مستوى كتائب قبلية. ولعل الحرب الأخيرة تكشف بجلاء عن ذلك. إذ كشفت بصورة مرعبة عن انعدام الشخصية الوطنية سواء في التصدي للغزو الأمريكي أو كيفية الاستسلام أمامه. لقد كانت ردود فعله جزئية منحسرة خائفة جبانة بل ومخجلة. وانحلاله بالطريقة المشهورة هي الأخرى صيغة لا يمكنها أن تكون شيئا غير استسلام قوات قبلية لأخرى. بمعنى خلوها من أي بعد وطني واجتماعي. لقد كان جيشا فئويا جهويا طائفيا. فقد كان في كل حروبه الدموية بما ذلك ضد غيره (ولا يمكنني استعمال كلمة شعبه. فهو نفسه كان يحبذ استعمال كلمة غوغاء، أي عبيد ومخربين يسعون للاستيلاء على سلطته) يقسّم جيشه إلى حطب الحروب وولاعاته! القادة جهوية فئوية طائفية، والجنود من غيرهم معدّون للقتل والأضحية. إنني لم اسمع بأن جنرالا انتحر بعد كل تلك الهزائم المخجلة. بل نرى اغلبهم سرق ويسرق ويهرب إلى الخارج!! إلى جانب الفئات العليا من العائلة والقبيلة الصدامية والبعث المتهالكين على شراء القصور في الأحياء "الراقية" في مختلف الدول!

أما الجماهيرية، فإنها الحالة الوحيدة المصطنعة في الحكم الصدامي. وقد تناولت إشكالاتها العديدة في معرض إجابتي على الأسئلة المتخصصة بهذا الشأن.

وعموما يمكنني القول، بأن كل ما في الصدامية لا يحتوي على مقومات تلقائية باستثناء نفسية وذهنية الحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية، التي استولت على السلطة بأثر انتشار وسيطرة تقاليد المغامرة السياسية، أي كل ما أدى إلى استفحال احد أتفه الأشكال الدكتاتورية. من هنا الطابع المصطنع للتوتاليتارية البعثية في العراق الصدامي. ومن هنا أيضا غياب صفة الزعامة أو القيادة التوتاليتارية بالمعنى "الكلاسيكي" لهذه الكلمة. وقد تكون الطريقة والنتيجة التي جرى بها الإمساك به ومحاكمته وإعدامه تكشف عن انه لا قيادة فيه ولا زعامة. إن أقصى ما يمكن قوله بهذا الصدد إنه رئيس عصابة مخذولة!

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم