قضايا

الشعب في الما قبل والما بعد

علي المرهجلكل شعب حياته في ظل أنظمة الحُكم المُتعاقبة في مُجتمعاتنا الشرقية، أو العربية، وكل منهم يعيش وفقاً لنظام حضاري زراعيٌ كان أم وصناعيٌ.

بل في مُجتمعاتنا أناس يعيشون لذات الحياة ومُتعها العقلية والشهوانية، بل والغضبية، ونحن العراقيون نعيش عجيب تداخل قوى النفس، سواء أكان نظام الحُكم دكتاتورياً أم كان ديموقراطياً، وإن لم نذق طعم هذا الحُكم كما كُنَا نروم ونبتغي.

ولكن كيف لأمرء أن يعرف أنه عاش الحياة، حينما لم يذق حلاوتها في الغضب بوصفه غضب، لا بوصفه غضب مُختلط مع الشهوة ولا تعقل فيه؟، وكيف لإنسان أن يعرف أنه تعقل الحياة وتحسس مُتعة التعقل، أو التفلسف، وهو يعيش في خضم صراعات الحياة للبحث عن وجوده المُكتنز ألماً من فرط تداخل قوى الإنسان في اللحظة ذاتها، العقلية، والغضبية، والشهوية، ولكن ما قبل الشعب لا قيمة لأرض، ولا لوطن، فالأرض والوطن قوامهما وجود شعب، وكل وطن يُقال أنه وطن حي، إنما تُقاس حياته وفاعليته وحضوره بمقدار حضور شعبه وفاعليتهم وحضورهم، فلا يكون الوطن حيٌ من دون شعب حر وسعيد.

وأين يضع الإنسان القوة الشهوية ساعة لذة، فهل تغيب قواه الأخرى، أم تتداخل، وعند العراقي تداخل القوى وتتمازج إلى الحد الذي يُمكن أن تُطيح أحدهما بالأخرى، فالتعقل يغيب من فرط الغضب، والغضب يضعف من فرط الشهوة، والشهوة تضعف من فرط التعقل، والغضب يستكين من فرط حضور العقل، والشهوة تتقاذفها ككرة القدم أو كرة المضرب قوى التعقل والغضب، فلا تُسمن ولا تُغني ولا تُشبع شهوة المُشتهي، ولا تُرضي قليل من نزوته، والأمر ينطبق على قوة التعقل، فهي قوى حاضرة بامتياز في وعي العراقي، ولكنها تخفت، أو تضعف حين تطغي عليها القوى الشهوانية، وربما يُفرط العراقي باعتزازه بقواه العقلانية في الوعي والتعبير لطُغيان فعله الحضاري في صناعة التاريخ، وفي ذات الوقت قد تجد العراقي ثائراً كحصان جامح فُك لجام أسر قوى التعقل، فكسر كل القيود، فهاج وماج وإنتفض بحثاً عن الحُرية، فلا يُحب القيود في معصميه، باستعارة من (إيليا أبو ماضي)، لأن روح العراقي وكينونته مرهونة بالبحث عن الحُرية.

والحرية مرة تكون في استحضار القوى الشهوانية، وأخرى تكون في فاعلية القوى الغضبية، وحينما تروم الروح العراقية تنظيم مسعاها في التعبير عن مراميها في تحقيق الحرية وتعريف الأنظمة الحاكمة مرامي الجماهير وغايتها الحقيقية في التعبير عن مطالبها في العيش وفق ما تقتضيه نُظم الحياة المُعاصرة التي أقل ما فيها توفير الخدمات، مثل الكهرباء أو الماء، فحينذاك تكون القوى العقلية لها القدرة والتأثير والفاعلية.

وإن كانت الحكومة العراقية تعي "طبيعة النفس البشرية العراقية"، فستكون لها قصب السبق في نيل الرضى المُجتمعي والاستمرار في البقاء في السلطة.

وهذا الحال يكون له قبول حينما تعي السلطة أن وجودها مُرتبط برضا الشعب.

فلم يكن قبل وجود الشعب حكومة ولا سُلطة، لأن كل حكومة أو سُلطة، سواء أكانت دكتاتورية أم ديموقراطية إنما تستمد شرعيتها من الشعب، فالشعوب هي التي تصنع الطُغاة (الحُكام)، والشعوب هي من تُطيح بهم، فالشعوب تصنع الطُغاة حينما تتمكن السلطة هي ورجالاته وسدنتها من تغييب الفعل ىالجماهيري للشعوب وتخديرها وتسكينها بالخُطب المنبرية البليغة البيان، أو في الدفع بها واستدراج عواطفها الجياشة باتجاه نزعة قومية أو طائفية، تُحرك الغائر والضامر في نفوس المُستضعفين وتُدغدغ مشاعرهم للعب على أوتار المظلومية التي روج سدنة السلطة على أنها هي الوحيدة القادرة على ردَ هذه المظلومية وإنصاف المُستضعفين.

والحال ذات الحال عند سدنة المُعارضة للسلطة وأسيادهم، وحين تبادل الأدوار، لا يُضير ذلك السدنة، ممن كانوا في السلطة أو في المُعارضة، فكل منهم كاسب، بحسب تبادر الأدوار، أو بحسب رضا السلطة الجديدة عن بعض سدنة السلطة القديمة ممن وضعتهم في خانة الأخيار.

وفي كلا الحالين، من فقد السلطة له ديار تأويه، وسيكون بطلاً، ولمن كان في المُعارضة سيكون هو رجل السلطة والديار دياره.

والخاسر الأكبر لا السلطة ولا المعارضة، بفعل تبادل الأدوار، إنما الخاسر الأكبر هو الشعب في الما قبل والما بعد، ففي الشعب هناك بعض من نُخبه في المنافي، وبعضها في الداخل يُعاني الأمريَن، مرُ عيشه في ظل نظام دكتاتوري أحمق، ومُرُ التشكيك بوطنيته ممن هم من نُخب المُعارضة في الخارج، بل ومرٌ أمرَ هو تشكيك الشعب، أو الجماهير بمصداقية ووطنية النُخب المُثقفة، ممن هم في الداخل أو ممن كانوا في الخارج، واليوم هم من يحكموا البلاد ويُسيَروا أمر العباد.

وأظن أن الشعب في الما قبل والما بعد كان يتحسس نبض قلب الوطن الجريح، فلم يجد في النُخب الثقافية ولا السياسية ممن هم من الداخل، أو من قدموا من الخارج من الذين كانوا في المُعارضة، فصاروا في السُلطة فأصدقهم القول فطابق قوله فعله.

فجُلهم إن لم يكن كُلهم خدعوا الشعب، فصار الشعب في واد والنُخب في واد آخر، ولا تُخبروني عن أحاد من النُخب تحسس نبض الشارع، إنما أنا أتحدث عن كثيرين وأنا منهم، نكتب ونُنظر، الشعب يُعاني، وكثيرٌ من النُخب "ياكل على الفكين"، مرة يأكل من فتات ما ترمي له السلطة (الحكومة)، وأخرى (يلهم) شعارات الجماهير، ليُغيض الحكومة، حينما تغض الطرف عنه، فهو يأكل من ضفتي النهر (الحكومة) والمُعارضة)، ويرمي (شص) صيده، فحينما يكون صيد (الشص) (كطان) من الحكومة، يستكين، وحينما يرمي (الشص) فيكون الصيد (جرية) أو (زورية) ستكون الحكومة ظالمة، لأنه سيبني آمالاً على رمية جديدة لـ (شصه) كي يصطاد (كطاناً) من فيض شط المُعارضة (الشعب) التي ربما ستكون نُخبها في السُلطة.

الشعب، أو الجماهير في الما قبل والما بعد، إنما نهر أو أنهار يكسب منهم من يُتقن أوان رمي (الشص) ضبط توقيت الصيد، إن كان (كطان) في زمن السلطة، أو (زورية) ولربما (جرية) في زمن المُعارضة، والعكس صحيح، فهو ذات الشخص الذي يُتقن الصيد وأوانه، إن كان (كطان) في زمن المُعارضة، أو (زورية) وربما (جرية) في زمن السلطة.

أكرر وأُعيد أن الخاسر هو الشعب لأنه لا يُتقن لعبة الصيد، فهو ربما يثور قبل الأوان و (خارج المكان)، ومن يستفيد، هم السدنة في السُلطة أو في المُعارضة، من الذين يعرفون أوان الصيد ورمي (الشص) حينما يحين الأوان مع حُسن توقع للمكان.

 

د. علي المرهج    

 

 

في المثقف اليوم