قضايا

رصانــة الفكر وجدليته

جاسم عاصيالمقياس الأساس في تحديد طبيعة المفكر؛ أن تجد في أُطروحاته رصانة مبدئية، وأن يتعامل مع المختلف بود واحترام، من منطلق تقديره لبنيته الفكرية . ذلك لأن لكل ذات موقعاً في المجال الإنساني . فلا تعدي على وجودها المادي والمعنوي . وهذه مبادئ عامّة . فالفكر له قيمة تاريخية، حتى لو كان فكراً شوفينياً . فالمحك الجدلي والتربية المستدامة، من يؤسس لها النمط الذي يكون، ولهذا يتم التواصل مع الوجود خلال تعايش الأطراف بود واحترام، أسوّة بما ابتدأته الشعوب الأخرى، التي اختارت السبيل الأمثل لنشر السعادة وبناء الحياة، دون جعجعة بلا طحين، جعجعة لا تخلف سوى طحين مداف ببقايا شوائب الوجود . فالأفكار لا تنقطع صلتها بالواقع والتاريخ، بل يتجدد حراكها نحو الأفضل مجالاً وحيوية، موهوم من يستر الشمس بغربال أو يُشوه وجه الحقيقة بتصورات مريضة . إن الدخلاء والموتورين على هذا الفكر أو ذاك، هم وحدهم من يضع العراقيل في طريق الحوار والنمو، بينما هم يعانون من ولادات خدجية ــ إن صح التعبير ــ، فتراهم في تحركهم لا يفرقون بين السالب والموجب، ويستخدمون القوة في تصفية حساباتهم إذا اقتضى الأمر . وهو مقتضاهم بطبيعة الحال، لأنهم وكما حدث في التجربة العراقية، لعبوا دور المخرب الفكري في تدهور البلد إلى الأسوأ من الحال . فالإيمان بالقوة مهما كانت وسائلها، دليل قاطع على فشل الوسائل الأخرى والتراجع لغياب الحجة الفكرية. إن التشويش المتعمد دال على طبيعة المشوِّش، لأنه تربى على المنافع . ففي هذا المجال صادفت وتعمدت معرفة عدد من ــ المفكرين ــ، سواء بالتماس المباشر مع طروحاتهم، أو ممن قرأت لهم . لكني في المحصلة النهائية، وجدت هؤلاء يتعمدون في سياق تأسيسهم لبنية فكرية جديدة ــ حسب اعتقادهم ــ إنما يبدؤون بالاعتراض، وايلاء الحراك اليومي ذريعة لفرز بناهم واعتراضاتهم . وحين تدقق في سيرتهم، وطروحاتهم، تجدهم كمن ينفخ في قربة مثقوبة . هؤلاء خدعوا العامّة، وأسسوا لخراب يتسع يومياً، وهي آفة نجدها تُصادر تاريخ البلد، وتعمم الخطأ . كما نجد ذلك في انتشار فوضى القتل (التصفيات) دون مسوّغ، إلا نشر البلبلة والتذمر قصد العودة لتعميق الخراب، ففاقد الشيء لا يعطيه . ولنا في هذا الطرح، ما هو بديل عند البعض،الذي يبتعد عن الادعاء، ونقف بصف من يحترم الحياة والوطن . إن الفكر الأصيل لا يؤسَسْ له، سوى من الاحتكاك الجدلي بفكر الآخر . وإلا كان منذ البداية دين واحد يعم الأرض، ونبي واحد ونظرية واحدة في كافة المجالات، وتعطيل العقل عن الإنتاج . إن احترام جدلية الوجود، خلال وضع العالم في محك جدليته التاريخية، فلا وصيّ على إيمان المرء، يوقف تطوره المعرفي، فكل يمارس اجتهاده المعرفي، وكل له سبيله في تأسيس وجوده الفكري على قاعدة .. احترم فكري، احترم فكرك .. دعونا نعمل بالمشتركات ولا نسيء لبعضنا، ولا نتذرع بالفكر لكي نتطاول على الوجود العام .علماً أننا نعتقد وبقوة أن ما يُسمى (داعش) لم ينته وجودهم، بل تبلور في صياغات أُخرى ومنها الفكرية والاجرائية، وهي من صلب وسائل التخريب المتعمد للبلد.

إن الشذرات الفكرية تستهوي القارئ كثيراً سواء كانت تلك المبثوثة لذاتها ووفق حراك بين الأفكار أو تلك المحاوِرة لذات الآخر، ثم تلك المتداولة في النص الإبداعي . إنها المادة الأكثر قوة أمام حراك الوجود منذ الأزل . فالبنى الفكرية تتطور وفق منظور الأزمنة، وتطور المعرفة التي بدورها تبحث عما يلائم الوجود . وقد تنمو تلك البنى مخلفة وسائل تطوير الحياة، أو تنتكس وتتراجع، فيكون مصير الحياة التخلف عن ركب التطور البشري، والأمثلة كثيرة على ما ندّعي ونتصوّر . ففي المجال الإبداعي وجدت في رواية (شبح نصفي) للكاتب (محمد خضير سلطان) مثل هذا التداول، المبني على الكيفية التي يكون فيها التاريخ محبّكاً وفق تصوّر عقلاني، محفوف بالمخيال السردي . فوحدات النص تحاكي التاريخ باعتباره يسير وفق بنى فكرية خلقتها الجماعة والأفراد بكيفية التشفير والعلامة، لا بالتفاصيل التاريخية . فالوعي الفكري للكاتب دفعه إلى خلق بنية كتابة تطرح رؤاها بالشكل الذي لا يشبه شكل آخر . كما وأنها لا تنفصل عن أسلوب التجريب في السردية بشكلها العام .إنه تجريب له مقوماته الذاتية المبني على رؤى سردية .

أما على الصعيد الفكري الخالص؛ فأجد إن المفكر(ماجد الغرباوي) وعبر قراءة لكتابين حواريين له؛ إنه قادر على محاورة الواقع والتاريخ بروح شفافة، وتمكّن قوي من أُصول الفكر الذي يتداوله ونقصد به الفكر الإسلامي المتبصر بالحقائق. موصلاً بين أن يكون الفكر العقائدي الديني متشبثاً بالأصول الفكرية، وبين أن يشيع بين العامّة على شكل خزعبلات وتشنجات شعبية، تتخذ لها مساراً لا يعمل دون أن تدري الجماعة أنها لا تمارس إلا التخريب . فالمعتقِدْ يمارس تأثير الأصول في حياته العملية، إنما يقع في الاشتباك عفوياً ووفق التصوّر الذاتي أو إغراء الجماعة، إنه متوّرط في نوع من تخريب الفكر عبر التاريخ . وبذلك تكون مساهمته سلبية وداعمة للخراب الفكري . وبمثل هذا تعرضت كثير من الأيديولوجيات إلى التخريب خلال حقن الذهن الشعبي بالبِدَعْ والممارسات الخاطئة والمضرة. أجد في أُسلوبه الرد الحاسم بالنص . وهو السبيل الأمثل عنده . وهو كاتب غير متشنج، ولا يعير أهمية للأثر السلبي الذي تتركه ردود أفعال الآخر، ولا صياغاتهم الارتجالية والمدروسة بحق الفكر الذي يعالجه . وهي تصح كدفاعات عن الأفكار التي تهدف إلى بناء الحياة، لا تهديمها . تلمست في أُسلوبه الرد على ذوي الفعل السلبي المضر . إذ يمتاز حواره بالحيوية الفكرية، والثبات الذي خضع لامتحان عسير حتى أصبح قاعدة، وسلوكاً بديهياً . وتلك هي صفة المفكّر حين يتداخل مع بنية الإنسان الوجودية . فهي تخضع لامتحان عسير ومضن، لتكون قاعدة غير مبدِلة لسلوك الفرد . أي إنها تصبح نوعاً من السلوك المستدام لبنيته الفكرية غير المعلنة في كثير من الأحيان، إلا إذا اقتضى الأمر غير هذا .

 

جاسم عاصي

 

في المثقف اليوم