قضايا

الإصلاحيًة الإسلامية: نظام الحكم والحداثة

علي رسول الربيعيلقد شغلت قضية التحديث السياسي الأولوية في خطاب الإصلاحية الإسلامية منذ فجرما يعرف بعصر "النهضة" في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وهي تندرج اساسا تحت قضايا الدولة وشكل نظام الحكم، فقد أقتنع الاصلاحيون أن السبب وراء قوة أوربا هو تنظيم الدولة وفق مفهوم الدولة / الأمة وأن وراء انحطاط المسلمين غياب ذلك التنظيم للدولة، فأدركوا أن مأتى تلك القوة هو قيام الدولة الحديثة على الدستور، وتقييد السلطة، وكفالة الحقوق العامة على قاعدة "العدل" في ممارسة الحكم (أومليل 2005، 83).

ففي تلك المرحلة التاريخية لم يعني مفهوم الدولة ككيان سياسي مفارق للخلافة، بقدر ما كان مدركاً منها المجال التنظيمي، فالتنظيمات كانت المدرك الوحيد من مفهوم الدولة آنذاك، وفي أطار هذا الفهم للدولة بوصفها تعبر عن التنظيمات سعى "محمد على باشا، مثلا " مؤسس الدولة الحديثة فى مصر إلى وضع إطار لعلاقاته مع أوروبا باعتباره التاجر المسيطر والوسيط الأول والرئيسي بين المنتج الزراعى فى ريف مصر والأسواق فى أوروبا . (1969, p.65 William

فالإصلاحيون الإسلاميون لم يتعرفوا في بادئ الامر على الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة ولم يكن شأنها هنا سوى رد فعل لما كان قد وقع فعليا: ذلك انه كان قد بدأ عمليا ادخال تنظيمات وعلى فترات متباعدة ...مبتورة من جهاز متكامل (الدولة) " (أومليل، 2005، 82).

كان معنى الإصلاح بالنسبة لأغلب الإصلاحيين، هو إصلاح الدولة العثمانية ذاتها وليس ضدها، فقد سعوا من اجل الوحدة الاسلامية، ومن اجل الرابطة الدينية الى اعادة توحيد المسلمين في اطار السلطنة العثمانية بأعتبارها المثال الأعلى لنظام الدولة الإسلاميًة (السيد، 1988، ص 18) وكان المحرك الأكثر نشاطا فيها هو الأفغاني الذي دعا الى أن تكون العصبية الإسلاميًة تحت ظل الخلافة العثمانية (الأفغاني، 1979، 15 فما بعد) وقد بدت الوحدة الإسلامية في خطاب الأفغاني كردة فعل دفاعية إيديولوجية .

المشكلة الحقيقية المؤثرة فى صياغة الخطاب السياسي الإسلامي الحديث ليست فقط القطيعة الفكرية مع نمط الدولة العثمانية باستبدادها المطلق الذى لا يتيح الفرصة لتحقيق المواطنة، بل تبعية الفكر السياسي لذلك الحضور الطاغى للدولة وغياب الوعى باختلاف نمط الدولة فى أوربا، إذ إنها محصلة حراك اجتماعى وسياسي واقتصادى له طبيعته الخاصة، " إنه فى النمط الشرقى تقوم الدولة عادة بـ"خلق طبقتها" بينما فى النظام الرأسمالى تقوم الطبقة "بصياغة الدولة على هواها." (الأيوبى، ١٩٨٩) ١٤)

أنَ جوهر اشكالية الاصلاحيون الدعوة الى تقييد السلطة المطلقة؛ فكانت مسألة الدستور قضية محورية في الفكر السياسي العربي الاسلامي (أومليل 2005، 23)؛ فأختزلوا الدولة فى بيان أوجه السياسة التنفيذية، فيلجأ الطهطاوي مثلا إلى الحديث عن فصل السلطات بالمعنى الذي أوضحه "مونتسكيو" للحد من سلطة الحاكم المطلقة، فتوقف عند فصل السلطات، لكي يعيد الأمر فى النهاية إلى السلطة التنفيذية التى على رأسها الملك (الطهطاوى2002، 349-350) ومن منطلقات خطاب الطهطاوى نفسها، استعان التونسى في تقديم أفكاره عن الاصلاح بمفاهيم سياسة حديثة يتم تطويعها لتخدم مفاهيم السياسة الشرعية لكنه لا يلبث أن يبدأ بخلط واضح بين مفهومى الدولة والحكومة، فركز على مهام السلطة التنفيذية التى على رأسها الحاكم أو الملك الذى به تتقوم الدولة وتترقى (التونسى ١٩٨٥، ٢٤٢ - 256)

وعموما لم تتمكن الإصلاحية الإسلامية من إقامة دولة، ولا من الأمتداد الى كل الحقل الاجتماعي. لقد بقيت أعمالا متناثرة وجزئية.(جعيط، (2004، 103) فلم يلتفت الإصلاحيون لدلالية مفهوم الدولة فى سياق بيئته المعرفية – الاجتماعية الأصلية. فهما يتحدثان باستنارة سياسية فى دفاعيهما عن التنظيمات السياسية التى تستمد فعاليتها من الدستور، أى نظام حكمٍ دستورى يجد سنده في الإسلام من خلال فكرة الشورى .

الشورى

اعاد الإصلاحيون جراء اتصالهم بأوربا اكتشاف بعض القيم الكبرى للاسلام، ومنها الشورى باعتبارها نص قرآني وبالتالي خصيصة اسلامية عريقة؛ ولعل الطهطاوي والتونسي هما أول من أثارها في الفكر السياسي الإسلامي الحديث، وتعبيرا عن هذا الوعي الجديد بالشورى، فقد طرحت من قبل الأفغاني والكواكبي باعتبارها أداة نضالية ضد استبداد الخليفة و والنظام السياسي العثماني، و ليس باعتبارها مفهوماً نظرياً وسياسياً ضمن إطار مشروع الدولة الحديثة.

اتخذت المواءمة بين الحكم الدستوري والشورى صيغة شاملة وواضحة في خطاب الإصلاحية، فدعا الأفغاني إلى الحكم المقيد الخاضع للمشاركة الأهلية الدستورية، كما أكد على النظام السياسي النيابي، وأكد على على أهمية " الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الشوري " (المخزومي، 1980، ص53)، الذي يعني أجراء أنتخابات نواب عن الأمة تسن القوانين وتنفذها ( قلعجي، 1993، 35) فالنظام الشوري هو ضمان لإستقرار الأمًة وسعادتها. وكذلك قام عبده بالمصالحة بين الشورى والنظام الدستوري على طريقة الأفغاني. فكانوا من المتحمسين الليبرالية الأوربية. (البرقاوي 1998): محاولة في، 31)

مضى الإصلاحيون الى خطوة أبعد في الفكر السياسي الإسلامي عندما دعوا الى نزع القدسية عن السلطة اذ يقول الأفغاني أن بأن أختيار الحكام وعزلهم أمران دنيويان، (الأفغاني، 1979، ص329-331) فكانت هذه الدعوة تمثل أختراقا كبيرا من قبل الإصلاحية للفكر السياسي الإسلامي الذي تحكمه " السلالات المقدسة" و دعوا الى العمل بمبدأ الشورى، وبناء مؤسسات دستورية نيابية كما هو الشأن في التجربة الأوربية، ووضع السلطة التنفيذية موضع المراقبة؛ وعلى هذا الأساس انتقل التفكير الإصلاحي إلى إثبات أن النظام البرلماني، التنافسي التمثيلي، ليس سوى بعث لمبدأ الشورى الإسلامي، لأنه وجد في آليات النظام البرلماني ومؤسساته التطبيق الملائمة له، لذا يصبح من المنطقي، أن يصل التفكير الإصلاحي ممثلا في عبده إلى «إن الشورى واجبة، وإن طريقها مناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب، وأدنى مظان المنافع ومجاليها»، وهي أيضاً «واجبة وجوباً شرعياً، ومن صلب الشريعة الإسلامية .(توفيق مجاهد، (بلا تاريخ)، ص547) واعتبر رشيد رضا أن حكم الشورى والعدل يعني حكم الدستور(السيد، 1997)، ص 165) وأن أعظم درس يمكن أن يستفيد أهل الشرق من الأوروبيين هو معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة (رضا، (1980، ص99) أما عبد الرازق فمن وجهة نظره، أن الإسلام لا يؤيد شكلا معينا من أشكال الحكم، وقد ورد رايه هذا في سياق الدعوة لفصل الدين عن الدولة (السيد، 1997، 162) .

والحال نفسه ينطبق على مفهوم الإجماع مثلا الذي كان يستخدم في المدونة الفقهية بمعنى إجماع الصحابة أو العلماء على مسألة فقهية أصبح يحمل دلالة سياسية أوسع عند الإصلاحيين ليدل على الإجماع السياسي للأمة واحتل مفهوم " أهل الحل والعقد " (أيً النخبة القائدة التقليدية)، ايضا، نظير للبرلمان الحديث موقعاً بارزاً في خطاب الإصلاحية، بأعتباره النظام الأكثر مدعاة للإعجاب في مؤسسة الدولة الحديثة.

حققت الإصلاحيًة الإسلامية فيما بين القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين إنجازات بارزة في شتى المجالات، العام منها والخاص. وأبرزُ ما يمكن الأشارة اليه هنا: مفاهيم المواطنية، وعلاقة المسلمين بغير المسلمين، ومسالة الدستور الذي أعتبر ضروروة لتقييد سلطات الحاكم من جهة، وتحقيق ولاية الامة على نفسها من جهة ثانية . (السيد، 1997، 159)

وبناء على ما تقدم يمكن القول: اتفق الإصلاحيون الإسلاميون على أن فكرة الشورى الإسلامية قرينة بالترتيبات الدستورية لأنظمة الحكم، فالشورى كان يتم سحبها نحو الحكم الدستوري باعتباره الثانية يشكل الآلية المناسبة لتطبيق حكم الشورى، والشريعة كانت تماثل القانون الطبيعي ما لم يكن هناك تعارض مع الشرع، الشورى أصبحت تعني منهجا وأسلوبا لإدارة الحكم وما عادت تعني مجرد موعضة وتذكير للسلطان على نحو ما كان معروفا في كتابات السياسة الشرعية والآداب السلطانية الإسلامية، وبالتالي فقد استنتجوا أن السلطة السياسية، هي سلطة مدنية أساساً، تستمد شرعيتها من الأمة /الجماعة/ وأن رأس هذه السلطة: إماماً أو حاكماً يعود إلى الأمة أمر انتخابه وعزله.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

..............................

المصادر

الأفغاني، جمال الدين (1979): الاعمال الكاملة، الكتابات السياسية، تحقيق محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

الأيوبى، نزيه نصيف (١٩٨٩)، الدولة المركزية فى مصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.

التونسى، خير الدين ١٩٨٥، أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك، تحقيق ودراسة معن زيادة، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

السيد، رضوان (1988) "المصطلح السياسي العربى الحديث" نظرة فى أصوله وتحولاته الأولى"، مجلة "الحوار" العدد (١٠)، السنة الثالثة .

السيد، رضوان (1997): سياسات الإسلام المعاصر، بيروت، دار الكتاب العربي.

الطهطاوى، رفاعة، : ٢٠٠٢، مناهج الألباب المصرية فى مناهج الآداب العصرية، تقديم حلمى النمنم، دراسة مصطفى لبيب عبد الغنى، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة.

المخزومي، محمد باشا (1980): خاطرات جمال الدين الأفغاني، ط2، بيروت، دار الحقيقة.

توفيق مجاهد، حورية (بلا تاريخ): الفكر السياسي من أفلاطون الى محمد عبده، القاهرة، مكتبة الأنجلو – المصرية.

جعيط، هشام (2004): أزمة الثقافة الإسلامية، ط2، بيروت، دار الطليعة.

أومليل علي 2005، الاصلاحية العربية والدولة الوطنية، ط2 (الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي.

رضا، رشيد (1980): مختارات سياسية من مجلة المنار، تقديم و دراسة وجيه كوثواني، بيروت، دار الطليعة.

William Polk and Richard L Chamber (1969) Beginnings of Modernization in the Middle East: Nineteenth Century (Centre for Middle Eastern Studies, University of Chicago.

 

 

في المثقف اليوم