قضايا

الفلسفة و(الفلفسة)

علي المرهجعُرفت الفلسفة لفظياً بأنه مُشتقة من مقطعين (فيلو) وتعني حُب، و(سوفيا) وتعني الحكمة، وفي تعريفها الإصطلاحي، هي بحث عن العلة الأولى للوجود، لذلك تترادف في التعريف مع (الميتافيزيقا) = (ما بعد الطبية) التي تهتم بمعرفة أصل الوجود، وعلاقة الإنسان بأصل الوجود هذا...إلخ، ولن أخوض في تفاصيل التعريف، فمن أراد البحث، فهُناك موسوعات وتواريخ فلسفة كثيرة تتناول تعريفها، وتحولاته.

ولكن هناك في الدارج العام رؤي ناقدة، بل وناقمة على الفلسفة، وهُناك من يعدَها (خوط إبصف الإستكان) كما يقول المثل الدارج، يعني (الناس بواد وأهل الفلسفة بواد آخر)، لماذا؟، لأنهم يغوصون في رؤى تجريدية محضة لا علاقة للإنسان العادي بها، ولا استطاعة له ولا إمكانية أو مقدرة على معرفة خفايا مقاصدها ومفاهيمها، ولربما يكون الأغلب في رؤياهم هذه مُحقَون، لأن نتاج الفلاسفة منذ طاليس وحتى يومنا هذا يحتاج لعُدَة مفاهيمية وإصطلاحية كي يتمكن البعض من فكَ مغاليق هذه المفاهيم، ولأن الناس يحتاجون لخطاب أقل نخبوية من خطاب الفلسفة البُرهاني، الذي يُطالب قارئه بالتمكن والدراية في علوم الرياضيات والطبيعيات واللاهوت، أو علم الكلام، فقد أشاح الناس عنها، وعدَوا خطابها ضرباً من ضروب العيش في (أبراج عاجية)، يعيش فيها الحالم وهو ناظر لتحولات الوجود ومُتغيرات الواقع وصراع الإنسان معه، ليضع نظرياته.

وتلك كانت مُشكلات الفلسفة المثالية، بل والتأملية على طول تاريخ الفلسفة، ولكن بعد دخول الماركسية حلبة الصراع مع المثالية ونقدها، وكذا الحال مع الفلسفة الوجودية، والبرجماتية، وكُلها، فلسفات همَها الإنسان، والإرتقاء به في عالم الناسوت لا في عالم اللاهوت، فقد تبدَلت بعض رؤى المُجتمع حول الفلسفة ومقاصدها، ولكن هذا الأمر نجح في الغرب الأوروأمريكي، ولكنه لم ينَل حظه الكبير في مُجتمعنا العربي، وظلَت الفلسفة، (حوار الطرَشان)، أو هي بحث عن أصل البيضة والدجاجة، هل أصل البيضة الدجاجة؟ أم أن أصل الدجاجة البيضة، وصارت محط سُخرية عند الكثيرين، أو ما سُميَ (مُعضلة البيضة والدجاجة)، فصار في تداولنا الشعبي حينما يطرح أحدٌ منَا رؤية عقلانية، يُقال له (بلله بروح والديك لا تتفلفس)، استهاجاناً واستنكاراً، لأن مُجتمعاتنا تعوَد أنسانها أن لا يُتعب عقله في التفكير، على قاعدة (ذبها برقبة عالم وإطلع منها سالم)، ولأن الفلسفة ترمي الحجر في بركتنا الراكدة، أو الآسنة لتكشف عن عُقم تفكيرنا وتصدمنا بكشفها عن الضامر في عقولنا ونفوسنا في التماهي مع السكون، أو الركون، والاعتماد على الآخرين في حلَ مشاكلنا، أو رميها في جُبتهم وإن رفضوا، فلا طاقة لنا لتحملها لأنها تُرينا عوراتنا، فلم يكن أمامنا سوى رفضها أو استنكارأسئلتها.

وقد تنبه العلامة الوردي لذلك في كتاباته (وعاظ السلاطين) و(مهزلة العقل البشري) لفرط ما عانى الناس من هيمنة الفكر المثالي، فظنوا أن الفلسفة رديف له، وهي تنظير ورؤية مُفارقة للواقع، بل هي غوص في التجريد، وبناء مُخيلة تنتقل من النظرية إلى النظرية من دون المساس بالواقع، أو الإحساس به.

ولأعود لمفردة (تتفلفس)، وهي رغم طابعها الشعبي والمُرام منه الاستخفاف بالقائل، إلَا أنها تحوي بين طيَاتها ما يبتغيه الفيلسوف، فـ (التفليس)، يعني التخلص من قشور الثمر للوصول إلى الُلبَ، وتلك من مهمات الفلسفة، فأن (أُفلس) مُكونات شيء ما، فإنما أنا أبحث عن علَة المُشكلة، وتلك كانت من مساعي ديكارت في منهجه الاستنباطي، أي التحليل، والتحليل يقتضي تركيباً، فخذ مثلاً على ذلك (الفيتر)، أي (من يُصلح عطل ميكانيكي في سيارة) ماذا يفعل؟ إنه (يُفلَس) بخبرته التجريبية والتحليلية مكونات السيارة، ليكشف لنا عن علَتها، وبعد الكشف يُطالبنا بتبديل الجزء المعطوب، وبأجرته، كي يستبدل هذا الجزء ويُعيد تركيب أجزاء السيارة التي (فلَسها)، وكذا الحال على بساطته في كسرنا للجوز، فنحن (نُفلَسه) كي نصل للُبَه، ولا تركيب للجوز بعد (تفليس)، لأن في بعض من (التفليس) خسارة في بعض مكونات التركيب، فحينما (يُفلَس) التاجر، فهذا يعني أنه خسرَ ماله، فلا يعني أن كُل تحليل (تفليس) ولا يعني أن هُناك إمكانية لتركيب، فبعض من التحليل (نقد) و(هدم) و(تقويض) ونسيان للأصل.

وهُناك من قال (تتبغدد علينا)، وهي لا تختلف كثيراً عن (تتفلفس علينا)، فـ (البغددة) هي دليل الرخاء، و(الفلفسة) هي دليل النخبوية في التفكير، ولكن لا لأن كلتا المُفردتين (البغددة) أو (الفلفسة) من عوالم المثال، إنما هما من عوالم الواقع الذي عاشه العراقيون في (العصر الذهبي) للدولة العباسية في بغداد، فهما دليل الرخاء والانتعاش، وهذان الأمران في الرخاء لا يعنيان أن الفيلسوف لا يعيش همَ الجمع، بقدر ما يعنيان إن في الفلسفة سعي جاد لإنصاف هذا الجمع والارتقاء به، من حيث لغة الخطاب، وإدراكه لبعدين، بُعد النص الديني (النقلي)، وبعد النص الفلسفي (العقلاني)، وسعي كثير من الفلاسفة للبحث عن توفيق بينهما، أو صلَة لا يفقد بها النص القُدسي قيمته التشريعية (اللاهوتية)، وفي الوقت ذاته، لا يفقد النص الفلسفي قيمته (العقلانية) وبُعدها الـتأسيسي للبُرهان.

ولربما هُناك علاقة وثيقة بين (التفليس) والتفلسف، أو بين (الإفلاس) و(الفلسفة)، فلا نجد سوى القليل من الفلاسفة ممن يُمكن لنا وسمهم بأنه أثرياء، فأغلب الفلاسفة هم من المُفلسين مادياً، وربما حتى اجتماعياً، وهُناك ربط بين أصحاب الفكر والفقر، فأغلبهم عاشوا بفقر، وبلهجة عراقية يبدو الإشتقاق مقبولاً، فالفكر، و(الفُكَر) إشتقاقهما اللفظي واحد، رحم الله صديقي د.ناجي جودة الذي كان يهوى التصوف ودارساً مُهماً له، فقد كان يؤكد باستمرار على الأصل الإشتقاقي لمُفردتي (الفكر) و( الفكَر)، وكل من يختار التفكير فمصيره التفقير، أو العيش بحياة لا مال فيها، أي (إمفلس)، وهُنا نعود لربط الفكر بالفلسفة و(الفلفسة)، والفقر، و(التفليس)، بوصفه تحليل وبحث للكشف عن علَة أولى للوجود.

وقد إرتبط التفكير بالتكفير، وكلا اللفظين هما باشتراك لفظي أيضاً مع تبديل بعض مواقع الحروف ومع فارق الاستعمال والتوظيف الأيديولوجي، والتفكير لا يلتقي مع التكفير، إلَا في المحاكم ورد المظالم، أو في عوالم الإنتضار لرد تُهمة التفكير من الذين يرومون قراءة مُغايرة للنص الديني وفهم السلفيين من دُعاة التكفير، و(جاهلية القرن العشرين) كي يبثَوا سمومهم ورفض الآخر وإن كان من أبناء الوطن الواحد، فهم غيضُ وجدب وصحراء ما وصلت له عقول المُسلمين، وأصحاب مشعل التفكير، هم فيض وإخضرار وزارعوا ورد في صحراء جزيرة العرب لصُنع حياة فيها تعايش وسلام وتوادد ووئام.

(تفلسفت) قليلاً و(تفلفست) كثيراً، وفي الفلسفة بعض من (الفلفسة)، وفي (الفلفسة) كثير من فلسفة ولكننا نحن البُسطاء لم نعِ قيمتها، كما لم نعِ أن في تفكيرنا رفض لكثير من نزعات التكفير، وإن كُنَا لا نعِ مقاصد أصحابها الحقيقية وفهمهم للنص القُدسي، ولكننا لا نقبل بنزوعهم الإقصائي لجار أوصديق هو من ملَة أو طائفة أو دين آخر.

فدَعونا نتفكر قليلاً ونتفلسف بأقل ما يُمكن، و(نتفلفس) بأقل مما هو مُتاح، ولكن في كل ما ذكرت هُناك قبول لآخر، في التفكَر والتفلسف و(التفلفس)، ولن يغيب الآخر وسيحضر حينما نكتفي بالتفكير لنستغني به عن التفكير، أو حينما نقبل بوصف (الفلفسة) بأنها محض هُراء، وكلام لا معنى له، بعبارة الوضعيين المناطقة حين المُرادفة بين الفلسفة والميتافيزيقا، ونتناسى أن من هموم الفلاسفة الكبار التغيير لا التفسير، وقد سعوا جادَين لتغيير الواقع الإنساني، وكثير منهم قد نجح، ولك في جون لوك وكانت وفولتير وجان جاك روسو وجون ديوي وفي سارتر، وبرتراند رسل...إلخ أمثلة تُحتذى في تغيير الفلاسفة لنمط التفكير السائد في أممهم لخلق مُجتمع أفضل.

فإن تفلسف البعض من مُفكرينا، أو (تفلفس) وكان تفكره مؤثر وبقصد التغيير أو التجديد أو الإصلاح، فنحن أمة نستحق الحياة، فأمة لا مفكرين فيها ولا فلاسفة أو مُصلحين إنما هي أمة أوشكت على كتابة تاريخ أفولها.

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم