قضايا

الفلسفة والسعادة

علي المرهجلا أعرف كيف ذهب كثير من الفلاسفة إلى القول أن الحكمة ترتبط بالسعادة، كما في قول العامري في رسالته (الأمد على الأبد): "السعيد المغبوط هو الحكيم العفيف" (ص201، أربع رسائل فلسفية، تحقيق سعيد الغانمي)، وما عرفت فيما قرأت حكيماً عاش سعيداً إلَا في مُخيلة من نظَروا من الفلاسفة التأمليين للربط بين الحكمة والسعادة، وذلك ضرب من ضروب توهماتهم ـ كما أظن ـ فذو العقل يشقى بالنعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

لقد ذهب إلى رأي العامري هذا من قبله الفاربي في رسالتيه "تحصيل السعادة" و "التنبيه على سبيل السعادة"، وفي رسالته هذه يقول الفارابي: "أما أن السعادة هي غاية ما يتشوقها كل إنسان" (ص47، تحقيق: جعفر آل ياسين، دار المناهل) وقد "تبين أن السعادة هي آثرُ الخيرات وأعظمها وأكملها" وهي "نهاية الكمال الإنساني" (ص49)، "وتكون لنا جودة التمييز بحيث ننال بها السعادة لا محالة متى صارت لنا قوة الذهن ملكة (بفتح الميم والكاف) لا يُمكن زوالها أو يعسر، فالخُلق الجميل وقوة الذهن هما جميعاً الفضيلة الإنسانية" (ص54).

ولا تعليق عندي سوى أن الفارابي كما العامري حالمان، يعيشان في عوالم يوتوبية حالمة رسمها أفلاطون بمثاليته من قبل، بل وحتى تلميذه أرسطو في تأمليته، فقد عدَ أرسطو حياة التأمل من مُتطلبات تحقيق السعادة، ولم يختلف عن أستاذه إفلاطون بربط السعادة بالفضيلة، وإن كان هُناك بعض من اختلاف، فأفلاطون وأستاذه سقراط ربطا الفضيلة بالمعرفة، ولم تكن "الجمهور ية المُثلى" سوى حُلم لتحقيق السعادة، وبناء دولة تتوافق فيها الأنفس.

لكن الخطين يسيران معاً، خط الفضيلةـ المعرفة، وخط الفضيلة = المعرفةـ السعادة، ورغم أن أرسطو يرى أن "السعادة مُتعلقة بنا بالذات" نجده يطرح مفهوم (الوسط الذهبي) للنظر للفضيلة على أنها: وسط بين طرفين كلاهما إفراط وتفريط، فالشجاعة فضيلة، وهي وسط بين التهور والجُبن.

ولكن كيف يُمكن لمن عرف الفضيلة وارتباطها بفطنة الذهن وجمال الخُلق في مُجتمع لا تقدير فيه لحكيم ولا قيمة لمن يتذوق الجمال ويعيش الاحساس به؟!. ستكون الإجابة عن هذا السؤال ليعش مثل هكذا حالم في عوالمه، وليدّعنا نتصارع، فسعدتنا في الغلبة في حلبة الصراع!.

السعادة أنواع، فبعض من البشر سعادته في مُمارسة اللذات الجسدية والشهوية، وآخرون يرون أن السعادة في الحياة الروحية والممارسة العملية لحياة الزُهد والتنسك، وهناك من لا يرضَ بهاتين السعادتين، لأنه راغب بسعادة أخرى هي سعادة العُقلاء والفلاسفة التأمليين والحالمين كما بيَنا سابقاً.

ولا زالت حيرتي كبيرة، فالسعادة هي الرضا التام، ومثل هكذا حالة لا تجدها في نفوس وعقول الفلاسفة الشكية، إنما تجدها في عقول (الجمع)، فالجمع مسرور بما هم فيه، ويسير الفرد وفق هواه فرحاً، راضياً مرضياً، وهواه هو هوى ااجمع كما يسيروا يسير.

أما الفيلسوف، فتجده مُغرداً خارج سرب الجمع، فلا رضى عنه من قبل الجمع، لأنه صادم للمألوف من مُعتقداتهم، ولا يكون في حياته سعيداً ومرضيا.

أي سعادة يعيشها المُتعقل (الفيلسوف) وسط الجمع من الذين لم يألفوا رؤاه النقدية للوصاية الدينية والأخلاقية (الأبوية)، فإن إدعى أنه عاش، أو يعيش بسعادة، فهو لا عقل له، ولا يُمكن لنا أن نعدَه من الفلاسفة وإن كتب مئات الكتب عن السعادة والإسعاد وربط السعادة بالحكمة.

لقد كشف شوبنهاور عن قيمة التشاؤم بوصفه ركيزة أساسية لوعي الإرادة، فالشر هو منبع الوجود وجوهر الحياة الإنسانية، لأن الألم والحزن هما المُعبران الحقيقيان عن معنى الوجود. (يُنظر: بدوي: شوبنهاور، الكويت).

يرى نيتشه أن السعادة هي إعادة ترميم للعلاقة مع الشقاء، ولك فيما كتبه من مؤلفات في البحث عن السعادة مثل: "إنسان مُفرط في إنسانيته" و "العلم المرح" أو الجذل.

سنعود والعود أحمدُ لعلاقة الفلسفة بالسعادة، وإن نظَر المُنظرون، وأفتى كبار الفلاسفة بأن الفلسفة سبيل للسعادة، سأقول أنها هذه رؤية من بقايا زمن الفلاسفة الحالمين من أمثال افلاطون والفارابي، وتوماس مور، ولكنها رؤية حلمة، وليست بالضرورة لها مصداق إلَا في تصوراتنا لا في واقعنا المُتغير.

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم