قضايا

القراءة العربية التعسفية للتأريخ!!

صادق السامرائيالنبي العربي هو قائد الإنطلاقة التأريخية للعرب، وكان النبي والرسول والقائد، فهو قائد دولة ودين، ولديه قدرات ومواهب قيادية متميزة ونادرة وفائقة التأثير والتقرير.

فهو الذي أسس دولته في يثرب التي أصبح بحضوره إسمها المدينة، وقد وضع مبادئ الدولة فيما يُعرف بوثيقة المدينة، والتي في جوهرها ترتكز على ثلاثة محاور ذات قيمة إنسانية وعملية وهي، أن لا أحد يحكم بإسم الله، ومبدأ التعددية، ولا أحد فوق المساءلة.

وبعد وفاته إجتمع قادة المسلمين في سقيفة  بني ساعدة، وكان الحوار بينهم سياسيا، لأنهم كانوا يتحاورون في شؤون قيادة دولة، أسقط فيه مبدأ التعددية " منا أمير ومنكم أمير أو وزير"، وكان الحوار منطقيا محاججاتيا غلبت به حجج عمر وأبو بكر، وتحقق الإتفاق أو التوصل إلى مخرج للأزمة القيادية للدولة.

ويبدو أن الإجتماع الفوري قد أوجبته ضرورات قيادة الدولة، كما يحصل في دول الزمن المعاصر التي لا يمكنها أن تخلو من رئيس لبضعة ساعات، فالوارد فيما حصل في ذلك الإجتماع كان سياسيا بحتا وليس دينيا كما يتم تصويره للأجيال، فالعرب صارت عندهم دولة إنطلقت من المدينة التي يمكن القول بأنها كانت عاصمة دولتهم التي أسسها رسولهم وقادها لعشرة سنوات متواصلات.

فالرسول الكريم قائد ديني وقائد سياسي، وامتلك المواهب اللازمة للتمييز  والموازنة ما بين الحالتين التفاعليتين مع الواقع البشري الذي يقوده وينفذ برؤيته إلى أجياله المتعاقبة من بعده.

وحال وفاته تغلبت السياسة على الدين، ومضت في تغلبها عبر الفترات اللاحقة حتى إنتهت إلى قيادات سياسية تمتطي الدين وتتخذه وسيلة للحكم وحسب.

وفي هذا السلوك الذي تحقق توافق مع الطبيعة البشرية ومفردات وعناصر الدوافع والنوازع، والتي هي قائمة منذ الأزل وستبقى مؤثرة بالحياة إلى الأبد، بينما القراءة التعسفية تنكر ذلك وتميل إلى المثالية وتحسب البشر مخلوقات ملائكية ليست من دم ولحم، وفيها نفس تواقة للسوء والشرور والبغضاء.

فالذي يدّعي أن الدين قد هذب النفس العربية في غضون عشرة سنوات، وغيّرها تماما إنما يتقاطع فيما يراه مع بديهيات السلوك البشري، وطبائع النفوس وما فيها.

وما حققه النبي الكريم في عقد من الزمان لا يقدر على تحقيقه أي قائد في الأرض لقرون وقرون متواصلة، فالقوة التعبيرية والتأثيرية التي إمتلكها محمد النبي غير مسبوقة في التأريخ ولن تتكرر أبدا، فهو الذروة القيادية القصوى وما بعده دونه بكثير وكثير جدا.

فأي قائد من بعده لا يمكن مقارنته به، وما سيقوم به محاولات للإقتداء بذلك السلوك القيادي الألمعي المتميز الفريد، وفي المحاولات فشل وإجتهاد وآليات يفرضها الزمن الذي هو فيه، وعناصر المكان القائمة.

وكلما كان الزمن أقرب، كانت المحاولة أصوب، وكلما إبتعدنا زمانيا ستقل صوابية المحاولة ورجحانها، وهذا واضح وجلي في مسيرة الذين قاموا بدور خليفة رسول الله، فكل منهم أصاب وأخطأ حسب إجتهاده ورؤيته وتمثله للقدوة النبي.

 

فنحن أمام قضية سياسية وليست دينية، وأمام تحديات دولة وحكم، الدولة تسعى لتكون ممثلة للدين أو المدافعة عنه والناطقة بإسمه، لكنها دولة، والدولة لها مقتضياتها والحكم له أحكامه ومتطلباته التي تتعارض مع الدين في أحيان كثيرة.

الحكم شريعة غاب تنفلت فيه شراهة القوة والسطوة والسيطرة والطاعة والإتباع وعدم المعارضة والتحدي، وكل دولة تسعى لإستتباب أمرها وسيادة قوتها ونفاذها، وإلا إستعملت قوتها للردع والتنفيذ المطلق لإرادتها.

وهذا السلوك المتصل بالدولة معمول به قبل الإسلام وبعده، وسيمضي إلى الأبد، فلا جديد في الموضوع إلا الوسائل والآليات المتوافقة مع مستجدات عصرها.

ولو وضعنا هذه الإعتبارات في منظار قراءتنا للتأريخ العربي، لرأينا الأمور على غير ما نراها، أو تعودنا عليها، فقادة التأريخ العربي بقضيضهم ونفيضهم قد أسهموا ببناء الدولة والدفاع عن الإسلام، وفقا لمفهوم الأمة وما ستؤول إليه الأحوال لو قرر الواحد منهم قرارا غير الذي نفذ.

وكأي نظام حكم في الدنيا ستكون فيه إخفاقات ونجاحات، وسقوط ونهوض، ومطبات مأساوية وإنطلاقات إقتدارية، وصراعات وسفك دماء وتفاعلات سلبية قاسية، فالتأريخ العربي ليس مثاليا وإنما بشريا مطعما بدين حاول تهذيب السلوك والسمو بالنفس إلى آفاق الإنسانية.

فنظام الحكم العربي في المدينة هو أول من وضع دستورا للحكم يضاهي في جوهره دساتير الدنيا المتقدمة، وأول من نادى بحقوق الإنسان، والتعايش الإنساني الرحيم، ولكن علينا أن نقرأ الحالة بمكانها وزمانها وأن لا نقايسها بما في عصرنا، فكيف كانت الدنيا آنذاك وماهي آليات عيشها وتفاعلاتها.

كما أن التأريخ ليس بأشخاص، وإنما هو مراحل تفرضها الحالة البشرية بما فيها من طاقات متوالدة، فالوجود البشري مراحل ولكل مرحلة ما تفرضه من إرادات ومنطلقات، وبهذا تحقق التطور والتواصل.

والقراءة التعسفية تهمل المرحلة وتؤكد على الشخص الحاكم وتمعن في الكلام عن مثاليته، وكأنه ليس من جنس البشر وإنما عليه أن يكون مخلوقا مقدسا ومُتخيلا ووهميا، وفي هذا يتجسد الإنحراف الإدراكي الذي أوصل الناس إلى تقديس الأشخاص وإخراجهم من آدميتهم ومن كونهم بشر.

ولهذا تجد القراءات التعسفية تتخذ منهج التقديس وإضفاء الصفات والخواص الخيالية على الأشخاص في محاولات لرفعهم إلى درجات فوق النبوية، وكأن النبي لم يكن بشرا.

فالذين جاؤوابعد وفاة الرسول الكريم هم بشر، يصيبهم ما يصيب البشر، ولكل منه قدر ما من المعرفة المكتسبة حسب قدرته من القرآن والمصاحبة لنبي الإسلام، ولا يمكن الجزم بأنهم جميعا كانوا متفقين تماما ومتوافقين بالكامل، ولكن رؤيتهم قد تتقارب أو تتقاطع، وفقا لما إكتسبه الواحد منهم من الدين وقائده.

فما كانت عند العرب تجربة حكم ودولة قبل الهجرة إلى المدينة، ولم تكن العشرة سنوات التي حكم بها النبي في المدينة كافية للتغيير وترسيخ الثوابت والآليات اللازمة للحكم، وإنما كانت مرحلة تأسيسة وُضعت فيها المنطلقات والمبادئ العامة المستوحاة من القرآن، وفقا لما يراه النبي الذي تنزلت عليه آياته وحاول تعليمها لأصحابه.

وعليه فأن الذين جاؤوا بعد النبي في إدارة الدولة والحفاظ على الدين، يثيرون الإعجاب والتقدير بما أظهروه من قدرات قيادية وصوابية ذات قيمة تأريخية وحضارية، وما كانت قرارتهم التي نحكم عليها بالأخطاء وفقا لمناهج عصرنا، إلا إجتهادات جريئة وأجوبة على تحديات خطيرة ومريرة، لكن ديمومة الدين وتواصله وتناميه لتثبت بأن الحصيلة النهائية لكل ما جرى ذات إيجابية أعلى من السلبية.

ووفقا لمقاييس السلوك البشري في مراحله، يحسبون من الأفذاذ الذين إستجابوا لنداءات مراحلهم بإجتهادات وقرارات صعبة وقاسية، لكنها في محصلتها قد حققت إرادة المدينة وسعت نحو الحفاظ على دين محمد من الغياب والإندثار، وأبقت على أمة الإسلام ولهذا فهي حاضرة في كل العصور ولها دورها وتأثيرها المبين، برغم ما يُشاع ويُقال وينتشر من مناهضات إعلامية وعدوانية على الإسلام والمسلمين.

فهل يستطيع القائلون بغير ذلك أن يأتوا بقائدٍ كمثلهم؟!!

وهل يمكنهم الإتيان بقادة بحجم أمتهم ورفعة دينهم؟!!

إن هذا العجز المروع هو الذي يدفع إلى الهجوم الشرس على التأريخ العربي وبعنفوان الخائبين المنكسرين التائهين.

فاحترموا تأريخكم وتمثلوه وتحققوا بالقوة والعزة والكرامة والإيمان بصناعة وجود عربي قويم!!

وإن التأريخ العربي لأصدق وأثبت مما عليه تفترون!!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم