قضايا

المُثقف (اللَاحوك)

علي المرهج(اللَاحوك) هو مُصطلح عراقي شعبي يُطلق على كل من لا شخصية مُستقلة له، فتجده يتبع القوي لشعوره أن هذا القوي هو الركيزة التي يُمكن له تسلق درجات السلم الوظيفي أو الحياتي أو الحزبي بسرعة البرق في حال إتباعه إو اللحاق بركبه، وبهذا فمعنى الكلمة (اللاَحوك) مُشتق من فعل "لحق"، وهو السير وفق مثال سبق، أو كما جاء في معاجم اللغة "ما يجيء بعد شيء سبق"، واللَاحقون هم "الذين يلَحقون بقوم بعد مُضيهم" أي بعد مسيرهم الواثق في خطاهم نحو الهدف الذي رسموه.

ولأن (اللَاحوك) لا يمتلك كفاءة وثقة بقدراته الذاتية لذلك تجده يلحق بركب الواثقين المُنتصرين، فتجده في ذيل الركب، وسيظهر لك في ذيل المشهد أو الصورة مُبتسماً فاغراً فاه، فرح لأنه من ضمن قافلة الركب المُنتصر وإن كان في مؤخرتها، وهو راضي مرضي بوجوده هذا، وإن كان خارج المشهد أو الصورة ويكفيه رضا أبطال المسرحية عنه إن جعلوه من (الكومبارس)، بل وحتى إن كان لا يحسب الآخرون له حساب ستجده فرحاً إن جعلوه قُرب كيشوانية أصحاب الركب، أو في ذيل مضايف وقصور الشيوخ والقادة وأصحاب القرار، ولن تجده فرحاً فقط، بل ومُصفقاً، لأنه من (السدنة) الذين يُتقنون التسلق على أكتاف النُبلاء والفقراء، ويبيع الغالي بالرخيص من أجل عظمة يرميها له سيده (القوي) (الغالب) (المُنتصر)، وبعد حين من الزمن ستجده قد قفز درجات ودرجات في أعالي سُلم (اللَواحيك)، وهو يُتقن ويُجيد اللَعب على أحبال سيرك (القادة) وأصحاب القرار، وله قُدرة على جس نبض الشارع وتوقع المُستقبل في ثبات أصحاب الركب في مواقعهم القيادية أو في تراجعهم في لُعبة الحضور والغياب السياسية والاجتماعية، وبين ليلة وضُحاها لفرط ما فيه من سلوك ثعلب ماكر ستجده قد أشاح بوجهه عن قادة الركب القديم ليكشف عن مؤمراتهم وظلمهم! وبذكاء ماكر وبانسحاب تكتيكي ماهر يلعب لعبته في تغيير طبيعة خطابه، ليكون هو السبَاق في كشف زيف الفاعلين السياسيين أو الاجتماعيين السابقين، فيُعلن إنسحابه عنهم لأنه الأقرب لإدراك تخلخل موازين القوى وإمكانية صعود قوة أخرى، فيُشمر عن ذراعيه ناقداً وناقماً على سياسة صاحب القرار السابق، وفي ذات الوقت تجده بوقاً مجانياً ينعق كالغراب في القنوات وفي الصحافة للدفاع عن هذه القوة الجديدة بعد أن كان يلعق بقايا فضلات طعام السلطة القديمة، وينطبق على هذا (اللَاحوك) القول الشهير"إذا وجدت العُلماء على أبواب السلاطين فبئس العُلماء وبئس السلاطين".

المُثقف (اللَاحوك) هو من يسعى للحاق بركب القوي دائماً وأبداً، ولا يستحي من نفسه ولا من الناس ولا من الله (بتعبير مدني صالح)، فهو في حال تبدل موازين القوى، تجده في سابق العهد كما يدعي ويُدافع عن نفسه بأنه يتبع (التقية) وهو في قرارة نفسه إنما هو ضد سياسة الحكومة أو الجماعة التي كانت نافذة ومن بيدها القرار، ولكنه لا حول له ولا قوة!، وهو صلف مُتبجح وقح، فإن أظهرت له كتاباته ولقاءاته التلفازية وتنظيراته الفكرية التبريرية لأفاعيل السلطة والجماعة النافذة من قبل، فسيُجيبك بكل وقاحة أنه مُجبر!، وإن أنت قلت له أن هُناك أمثالك كُثر من المُثقفين والأكاديميين لم يكونوا دُعاة مُثلك ولا مُطبلين ولا مُزمرين ولا مُنظرين، فسيُجيبك بثقة أن مُشكلتي أنني من عائلة لها جذور حُوربت أيام الحكومة السابقة، فمنهم من يقول لك أنه أُعدم بعض من أقاربه من الدرجة الأولى لأنهم كانوا ينتمون لأحزاب دينية أو يسارية، وحينما تواجههم أن هُناك أيضاً كُثر من أمثالكم ولكنهم أبَوا أن يبيعوا أنفسهم للشيطان فاعتزلوا الحياة الثقافية والفكرية على أن يكونوا أبواقاً لحاكم جائر أو سلطة فاسدة، فسيجيبوك بأن طباع الإنسان تختلف من شخص إلى شخص!، (وأنا صاحب عائلة)!، وأخشى عليها. وإن قلت له (لماذا لم تُكرم الناس بسكوتك) لأخبرك بأنني مُجبر، وهو كاذب (من عرج لسانه) لأنه يرغب بكسب مال وفير وجاه، وما يُفند قوله هذا أن هُناك الكثير من أمثاله آثروا السكوت فلم يُحاسبهم أحد.

وإن كان هُناك مُثقفاً (لاحوك) في السياسة والتنظير الحزبي والحياة الاجتاعية، فهناك مُثقف (لاحوك) في الحياة الثقافية والدينية.

في الحياة الثقافية ستجد كثيراً من المُثقفين (اللَواحيك) يعملون على جعل أنفسهم في عداد الأدباء أو الشُعراء من خلال تبعيتهم لأديب أو شاعر لا يستطيع توفير لُقمة عيش له في بلد لا تقدير فيه للثقافة، الأمر الذي يجعل بعض المُثقفين ممن لا يستطيعون توفير قوت يومهم أن يستجيبوا لأمثال هؤلاء (اللَواحيك) المُعجبين في كتاباتهم ليقبلوا بهم أصدقاء يقضون لهم بعض من حاجاتهم المعيشية في الأكل أو الشرب، شرب الشاي أو غيره من المشروبات التي لا مقدرة لهذا المثقف لدفع تكاليفها الباهضة بالنسبة له والبسيطة بالنسبة لـ (اللاحوك)، وبعد حين من صداقة هذا (اللَاحوك) من بناء علاقة طيبة مع بعض المُثقفين وتعلمه إن كان فيه بعض من وعي وبذرة تنشأة ثقافية ستجد هذا (اللَاحوك) أديباً، إما شاعراً أو ناقداً أو قاصاً وربما روائياً، والحال ذاته ينطبق على بعض النساء ممن يهوين الثقافة ولديهن قراءات ولكن طبيعة الحياة الذكورية في مُجتمعاتنا الثقافية التي يُهيمن عليها الرجل لا تمنحهن المساحة التي يسعين لها، ولكن بعلاقة حميمة أو مشاعر فياضة لربما ستجد نفسها شاعرة أو قاصة يُشار لها بالبنان، وأنا أعرف بعضهن من اللواتي تمكَن بعلاقة بسيطة من أن يوصفنَ بأنهن شواعر وتُرجمت بعض قصائدهن للغات أخرى، ولا دراية لي هل كتبنهنَ هُنَ أم كتبها آخرون؟، ولكن معرفتي ببعضهن تؤكد ليَ أنهن بعيدات كُل البعد عن تذوق الشعر والقصة والرواية، وهذا الأمر إن قل وجوده وضعف لكنهن ينطبق عليهن وصف المُثقفات (اللَاحوكات).

والحال ذاته ينطبق على بعض المُترجمين (اللَواحيك) الذين لا يُجيدون نقل النص من مجال تداولي إل مجال تداولي آخر، فتجدهم يُترجمون لروائي أو فيلسوف كبير على قاعدة سليم البصري (رحمه الله) (آه ديكي نحباني للو) بترجمة حرفية لا تُمسك منها معنى ولا قصد، ولكن المُترج فرح بنتاجه، لأنه ترجم لكاتب شهير، وهو يرم لصق إسمه بإسم هذا الكاتب المشهور، فبعض المُترجمين ينطبق عليهم لفظ (اللَاحوك) لأنهم يعتاشون على خداع بُسطاء الناس من الذين يقرأون للمُترجم (اللَاحوك) فلا يفقهون ما يقول، فيلومون أنفسهم، ويُشككون بمقدرتهم على إدراك الترجمة ومرامي ومقاصد المؤلف، ولا يتجرأ الكثير منهم على القول أن هذه ترجمة بائسة ولم أفهم منها شيء، وأن المُترجم لا يعدو سوى (لاحوك) لموضة في الترجمة لروائي أو فيلسوف شهير، والمُترجم جاهل لم يقرأ رواية من قبل ولا فلسفة، وإن قرأ فهو غير مُدرك لتاريخ تداول الألفاظ في مُعجمية اللغة المنقول منها ولا مُقابلاتها في مُعجمية اللغة المنقول إليها.

المُثقف (اللَاحوك) حاله كحال (المهوال) يُزين أفاعيل من يروم إتباعهم والحذو على خُطاهم (حذو النعل بالنعل) لحظة أو ساعة تميزهم أو حضورهم الفاعل في زمان ومكان مُعين، ولكنه في لحظة أخرى وفي زمان ومكان آخر وفي لحظة استشعاره بتميز لفاعل سياسي أو اجتماعي آخر ستجد أن كل صفات المدح للسابق ستكون هي سمات الفاعل الاجتماعي والسياسي الغالب، وكل ما تقتضيه اللحظة من مدح للفاعل السابق، والذي قبل حين كان مكمن المدح ومحطته حينما كان غالباً سيقلبها بدهاء ثعلب لصفات ذم له وسيكشف عن صفات أخرى للفاعل الغالب في التو واللحظة!.

وكم من شاعر تبادر إلى ذهنكم الآن قلب قصيدة له في مدح حاكم سابق لتكون قصيدة هيام في محاسن ومكارم حاكم حالي أو لاحق مع فارق بسيط هو تبديل إسم السابق باللاحق، وكم من رؤية نظرية لمُفكر عتيد كان يعيش في كنف سلطان سابق، فأبان عن فجوره وفساده في ظل تحول السلطة وتغير الفواعل الاجتماعية والسياسية، بل وحت الدينية.

فناك (لواحيك) أتقنوا بمهارة فائقة تملقهم لنظام حُكم دكتاتوري فاسد قتل رجال دين كبار، فكان كثير من هؤلاء (اللَواحيك) من بعض المُثقفين والأكاديمية يتغنون بأفعال هذا الدكتاتور الغبي، وبعضهم أهدى أطروحته له، وآخرون كُثر كتبوا عنه رسائلاً وأطاريح يصفونه بأنه فيلسوف وحاكم فاضل وله فلسفة نقدية، فكتبورا حتى عن ميلاده بوصفه ميلاد ميمون بعنوان "فلسفة الميلاد" إقتضته (الحتمية التاريخية) كي يكون المُخلص للأمة العربية من واقعها المُتخلف عبر فهمه لديمومة الأمة وصيرورتها في الوحدة والحرية والإشتراكية!، ومثل هذا المُثقف (اللَاحوك) كُثر وهو يتناسل اليوم، بل وهو ذاته يصفه ومن شابهه بعض أغبياء الإعلام العراقي بأن مفكر!!.

إجعل من ثقافتك مطية يمتطيها كل صاحب سلطة أو فاعل اجتماعي أو سياسي، وسيصفك الآخرون بأنك مُثقفاً من طراز خاص، لأن من صفات الفكر (الحركية) و(الحيوية) و (التغير)، فبدل جلدك كالحية الرقطاء وكُن (لاحوكاً) كثعلب ماكر ستجد لك مكانة كُبرى وسيحتفي بك الأغبياء وهم كُثر في بُلداننا العربية، وأكتب عن مآثر السلف وآل البيت قصصاً وحكايا، ستمسح تاريخاً لك من الخطايا.

وأكتب في زمن زهو القاتل عن إنجازاته الحضارية وتبرير أفاعيله الغبية مقالات بعدد أسماء الله الحُسنى (99) مقالة أو يزيد في مدح حاكم قاتل أشر، وحين سقوطه هُناك آلاف ممن هُم مثلك ممن لم يُتقنوا صنعتك في إتقان الكتابة في إنشاء نظرية في السعادة والإسعاد الحزبية والنهل من أبعادها القومية، لتجدهم يحتضنوك ويدافعوا عن رؤيتك في السعادة برؤية تأويلية تخدم مضامين النظرية الإسلاموية (الطائفية) وفهم مقاصدها الراديكالية التي ينتفع بها كل من يروم حُكم البشرية بـ "النار والحديد" البسماركية، لتجد ما كتبته مادحاً للقاتل (الحاكم) مأثور قول للحاكم الذي يحكم باسم القتيل!.

فاليعش (اللَواحيك) لأنهم الأدرى والأعرف في ديمومة السلطة وتأبيدها في أيدي الحُكام المُستبدين ومن يدعون أنهم ديموقراطيين ولكنهم يهوون (اللَواحيك) لأنهم من يُزينون لهم أفعالهم ومنهم يستمدون بقاؤهم!.

 

د. علي المرهج 

   

 

في المثقف اليوم