قضايا

عن التطبيع ويوسف زيدان

صالح الرزوقلم أستغرب من تصريحات يوسف زيدان الأخيرة التي تدعو للتطبيع مع إسرائيل وما تتضمنه من تلميحات قاسية لسوريا. لكن ما ينقص هذه التصريحات برنامج عمل للتطبيع. ما هو منهجه في رفع الكلفة بين طرفين بينهما حرب على تحديد المصير؟؟. ويمكن أن نقول لتحديد  (اللامصير)، أو المستقبل المؤجل والمسكوت عنه، إذا احتكمنا لرواية إميري كورتيز.  وهي شهادة مؤلمة عن إفناء خامات من البشر دون سبب سوى الدين. وهذا ما يدعونا لتأمل الدوائر المظلمة في العقل البشري. كيف يبرر إنسان لنفسه إلغاء إنسان آخر لمجرد اختلاف في العقيدة الروحية أو في طريقة تفسير علاقة الفرد بالإله؟.

مثل هذه التصرفات تضطرنا لتعريف معنى التطبيع. ماذا يقصد به الدكتور يوسف زيدان؟. وما هي أدواته؟. وإذا كانت الأعمال الإبداعية هي نافذة على اللاشعور، كما يرى فرويد، يمكننا العودة لمحطتين هامتين في مسيرة الدكتور زيدان. وهما (عزازيل) و(النبطي). كلتاهما إعادة تركيب للجانب الروحي من النفس البشرية.

في (عزازيل) كانت الشخصية الأساسية نفوذة، ليست لديها القدرة على مواجهة الإغراءات. ولذلك تسقط في الرذيلة ولاحقا في الندم، وترفض نفسها على هذا الأساس، وتؤكد أن تاريخ الجماعة يتحدد من خلال تاريخ أي إنسان مثقف لديه المقدرة للتعالي على شروط الواقع الدنيء. وفي (النبطي) يتكلم بطل الرواية عن الفرق بين الحقيقي والزائف، وبين الطموح الشخصي والمنة الإلهية. ولكنه يساوي بين الطرفين باعتبار أن كل واحد منهما تمهيد ضروري للثاني. فمدعي النبوءة لديه خزان نفسي واجتماعي مثل النبي نفسه. إن الوحي بتجليه على شخص واقعي نلمسه ونعقله يكون قد ألقى عليه أعباء غيره وليس أعباء الذات الإلهية. ويمكن تشبيه هذه الحالة بحالة (النبي) لجبران أو (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشة. لقد كانت تعازيم الكاتبين تنويرية، وتفضي بكل إنسان لأن يتحلى بأخلاق النبي باعتبار أنه رسول من نفسه الخاصة لنفسه العامة.

لقد كان زيدان تنويريا، وحاول جهده من خلال المشابهة والإسقاط وتداعيات الذاكرة أن يضع الرسول في سياق عملياتي بحيث يكون رائدا في مجالات الإصلاح وتنقية النفس من شوائب العقل أو الواقع.  وقد تابع هذه المهمة في عملين لاحقين هما (محال) و(جوانتانامو). وأوجد صيغة للتفاهم بين المضمون الروحي للمجتمع والمعنى الواقعي للدولة. وارتأى أن الفساد لا يمكن محاربته بمزيد من الرذائل أو بالعنف.  ولا بد من تماهي الهوية مع جوهر عقلية الإنسان في خصوص المجتمع ليشعر كل فرد أنه حر، وأنه ينعم بحرية غير محدودة في الاختيار والانتماء.

نعود لنفس السؤال: ما هو التطبيع؟.

لا شك أنه إلغاء للتنافر بين الإنسان ومحيطه بحيث يجد الوقت مناسبا للاندماج مع الطبيعة، على مستوى المجتمع الدولي وعلى مستوى السياسة المحلية. لكن حتى هذه اللحظة لم تقدم إسرائيل شيئا يفيد آلية الاندماج. وهي تضغط لمزيد من الاستلاب والتغريب والانفصال عن الخلفيات الحضارية للمنطقة. وما تطمع به الآن هو استنباط آلية لتحفظ الحدود السائلة لسوريا مع إحداث تجويف من الداخل، وبه تستنزف إمكانيات بناء دولة حديثة مثل التي تأسست بعد منتصف عام 1985 وحتى لحظة الانهيار في 2011.

ولتعرف ماذا لدى دولة إسرائيل من مكرمات يمكنك العودة لمقالة أنطوان شلحت المنشورة في (ضفة ثالثة) بعنوان (شرك اللغة الكولونيالية)  بتاريخ 20 أكتوبر 2017. وهي عن مراسلات بين جدعون سبيرو وعاموس عوز، وتتحدث عن انعدام العدالة في إسرائيل نحو العرب.

أنا كلي ثقة بنظافة الدكتور زيدان وببداهته الاستراتيجية. وأعتقد أنه سيراجع ما قاله عن ما سماه "الخطأ السوري"، وأذكره بمقالة للمرحوم نجيب محفوظ. لقد تنبأ بمصير أسود لسوريا، وشبهها بقرطاجنة وهانيبعل، وبإسبارطة. ولكن لم تسقط سوريا في حينه، والتف حولها نخبة من المثقفين العرب، وعلى رأسهم محمود درويش وسعدي يوسف وأمجد ناصر وآخرون. ولا أعتقد أن هؤلاء لعبوا دور العميل للنظام السوري، بل هم شخصيات وطنية ومستقلة، ورأوا أن مصلحة المواطن العربي ليست في ركاب السادات. كذلك لا أعتقد أن من مصلحتنا الاحتماء بالمظلة الخليجية. والدليل هو فيما يحصل في اليمن من خراب، إلا إذا كان التحالف يهدف لتحرير المواطن اليمني من يمنيته وحضارته المشهورة باسم "اليمن السعيد".

لقد كسبت سياسة التطبيع سمعة سيئة، وارتبطت بأسماء جزارين لم يرحموا لا اليمين ولا اليسار. وأعتقد أن مبدأ السلام العادل الذي وضع أسسه كانط في واحد من أهم كتبه هو المدخل أو العنوان المقبول لبناء شرق أوسط جديد ومتطور.

 

د. صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم